منذ زمن بعيد يلح علي الشعور بضرورة الكتابة عن الروائي والقصاص الياباني العظيم " ياسوناري كواباتا " ، وقد قيل إن ماركيز استوحي روايته " غانياتي الحزينات " من رواية " الجميلات نائمات " التي كتبها " كواباتا " . ومع إعجابي برواية الياباني العبقري إلا أن قصصه القصيرة هي التي أصابتني بالذهول وجعلتني أعيد قراءة كل واحدة منها أكثر من مرة . وقد صدرت هذه القصص المجموعة باسم " قصص قصيرة بحجم راحة اليد " عن دار شرقيات ترجمة كامل يوسف حسين . وقد ولد الكاتب الياباني المدهش والذي أنهي حياته منتحرا عام 1899 وبدأ إنتاجه الأدبي في الظهور منذ عام 1924، وبهذا يعد " كواباتا " أحد مؤسسي القصة القصيرة في العالم بعد الرعيل الأول . ومع أن " كواباتا " جاء بعد إدجار الآن بو ، وأنطون تشيخوف ، وموباسان ، والبرازيلي العبقري " ماشادو ده أسيس " وكاتب أورجواي المذهل " أوراثيو كيروجا " ، إلا أن " كواباتا " مثل كل كاتب حقيقي يختلف تماما عن أي ممن سبقوه سواء أكان ذلك في شكل القصة أو الزاوية التي يري منها العالم ، أو درجة حساسيته التي تجعل كل ما هو موضوعي شأنا ذاتيا صرفا ، وكل ما هو ذاتي أمرا موضوعيا بحتا . فكل ألم يحسه العالم هو ألم الكاتب ، وكل ألم يحسه الكاتب هو وجع العالم . قلت إنه منذ زمن بعيد يلح علي الشعور بضرورة الكتابة عن ذلك الكاتب الياباني العظيم ، وقصصه ، ولكنني ظللت أؤجل ذلك مرة بعد الأخري كعادتي ، إلي أن وجدتني منذ أيام قلائل في وسط القاهرة أتجول مع زوجتي وابني ، واشترينا آيس كريم ، وسرنا به متعبين في الممرات الضيقة الجانبية بين طلعت حرب وقصر النيل ، وهناك وجدنا مقعدين في الشارع أمام محل ملابس ، فتوقفنا ، ونظرت إلي الشاب الواقف بجوار المحل واستأذنته أن نجلس ، فتقدم بهمة نحوي ضاحكا فاردا ذراعه في الهواء قائلا : ده كلام ؟! تفضلوا . جلسنا واسترحنا ونحن نأكل الآيس كريم وأنا أفكر في الأدب والذوق الذي يتمتع به الشعب المصري ولم يفقده أبدا رغم كل المحن التي تعرض لها . هل هذا الذوق هو روح الشعوب التي صارعت طويلا في الزمان والمكان من أجل البقاء فأدركت أن المودة حكمة الحياة وسر تواصلها ؟ . هل هذا الذوق _ رغم كافة صعوبات الحياة ومشقتها _ هو عطر عجينة تاريخية ثقافية حضارية أنضجها الزمن الطويل جدا ؟ . في القاهرة قد تجد سيارة مقبلة مسرعة نحوك تكاد أن تدهسك ، فإذا أوقفتها بإشارة من يدك ، توقفت وابتسم سائقها بمودة كالمعتذر ؟ . من أين يأتي هذا الذوق ؟ . وقد عشت في الخارج مدة بما يسمح لي أن أقول إن الشعوب الأخري مختلفة ، لكن الشعب المصري يظل يفوح بعطر الأدب والذوق مهما أرهقته وجوعته . إنه لا يفقد هذه الخاصية أبدا . وعلي الفور قفزت إلي ذهني _ وأنا جالس علي المقعد أمام المحل _ قصة " ياسوناري كواباتا " المسماة " شكرا لك " . ولعلها القصة الوحيدة التي قرأتها علي كثرة ما قرأت التي تصور أثر ذلك الإنسان المهذب . وليس في القصة شيء سوي أم وفتاة تركبان حافلة متجهتين إلي منطقة بعيدة ، وفي الطريق يلفت سائق الحافلة نظر الفتاة الشابة ، لأنه حين لحقت الحافلة بعربة يجرها حصان وتنحت العربة جانبا مفسحة الطريق للحافلة قال سائق الحافلة " شكرا لك " بصوت واضح وهو يحني رأسه علي سبيل التحية ، وحين التقت الحافلة بعربة أثقال وتنحت قال سائق الحافلة " شكرا لك " ، وحين التقت الحافلة براكبي الجياد وعربات نقل الماشية وتنحوا لها كان السائق يقول " شكرا لك " . وعندما تصل الحافلة إلي نقطة النهاية تندفع الأم نحو السائق لتقول له : تقول إبنتي إنها أحبتك ! وفي فجر اليوم التالي تعود الحافلة بالأم وابنتها العاشقة والسائق وركاب جدد إلي المدينة التي انطلقت منها ، وعلي امتداد الطريق الذي يبلغ خمسة وثلاثين ميلا يقول السائق لكل ما يصادفه " شكرا لك " . لقد أثمرت المودة . شكرا لك يا " كواباتا " وشكرا لك يا أستاذ كامل يوسف حسين علي ترجمة هذه القصص البديعة .