العالم بيت أتسكع في حديقته الخلفية ليس القصد أن أدفع أي أحد إلي اليأس من هذا العالم، لكنني أود أن أقول: أدركت، فجأة، في سيري ليلاً أن الحياة تجربة، بالمعني المسيحي، في التعرف علي الألم. لم يكن ذلك بسبب س التي ارتبطت لديها اللذة (أعني الكلمة الفرنسية الساحرة jouissance) بالألم، ولا ص المؤمنة بالمسيح، والتي رأيت الألم في عينيها بعد كل لذة. كان الإدراك شخصياً تماماً، ومضة كشف حدثت في انفصال عن العالم، بينما أتمشي ليلاً بجوار مبني السجن الذي يقع علي بعد شارعين أو ثلاثة من سكني. لذلك، ربما، خطر لي أن العالم بيت يقف أمامه السيد كافكا بمفاتيح لا تفتح، يمرر وقته باستعارة جمل من بورخيس، جمل ليست من قصة له، بل من مجرد مقدمة، كتبها بالضرورة بعد القصص، كمدخل، كبوابة مثل تلك التي يقف أمامها السيد كافكا، حائراً جداً بمفاتيح لا ... هذا هو اللعب غير المسئول لرجل خجول لا يستطيع أن يحمل نفسه علي كتابة قصص قصيرة، ولهذا يسلي نفسه بتغيير وتشويه (أحياناً بدون مبررات جمالية) قصص رجال آخرين." لكن ليس الأمر سيئاً جداً كما قد يبدو للعين غير المدربة، فلا أعتقد أن العالم سوف يتلاشي عما قريب، والقصص التي تأتيني أكثر كثيراً من أن أكتبها جميعاً، ثم أن السجن الذي أسير بجواره، والذي قد يعتقده الأجانب، أعني بني وطني، رمزاً لشيء آخر خارجه، قد تحول منذ زمن إلي متحف هو الآن قبلة السياح الذين يزورون المدينة، وهناك مقهي في مقابله تستطيع أن تمضي وقتك فيه (يغلق في العاشرة!)، وعلي بعد شارع واحد توجد مكتبة كتب مستعملة تسمي "ملاذ الكتب" اشتريت منها ترجمة إنجليزية لأحد كتب الجبرتي، وعلي بعد شارع آخر مطعم يوناني يقدم كنافة يسمونها، في قائمة طعامهم، كنتافي، وقد أهداني العالم جاراً يسليني كل ليلة، في تمام الحادية عشرة، بلعب البيانو. بالإضافة إلي كل هذا، هناك أشياء لا تتغير، أشياء تعطيك، في ثباتها، إحساساً أن هناك في هذا العالم "ما يستحق الحياة"، مثلاً الأحذية الرياضية المعلقة علي الأسلاك التي تصل بين أعمدة الإنارة في فيرماونت أفنيو، (منذ سبع سنوات، في مدينة أخري، رأيت نفس الشيء. كنت أتمشي مع صديق، ولم أكن قد أدركت فجأة أن العالم بيت يتسكع الألم في حديقته الخلفية. كنت صغيراً، منتعشاً بإحساس أنه من الجيد لي أنني تركت مدينة قضيت فيها، كصدفة تاريخية، 29 عاماً. سألت الصديق عن معني هذا، أي الأحذية المعلقة، فقال إنها كانت، قديماً، علامة علي وجود بائعي مخدرات. وأنا فكرت وقتها أنه يمزح، وأنه لابد هناك طرق أكثر حصافة يعلن بها بائعو المخدرات عن أنفسهم، لكنني أعرف الآن أن تلك المدينة تغيرت، وأن صديقي تغير، وأنني أيضاً تغيرت، فذلك هو ما يحدث، وأدرك أيضاً أن الأحذية الرياضية، أن وجودها هكذا في الهواء، أن مزاح بائعي المخدرات، مازال كما هو.) ثم أنني اكتشفت منذ قليل، أن فتاتين تعملان أحياناً في المقهي المواجه للسجن-المتحف تسكنان معاً في المبني المجاور لشقتي، ورأيتهما تهبطان، بمرح مبالغ فيه، سلالم البيت، متجهتين، بابتسامات عريضة، نحو العالم. قالت كنت بدائية خرجت تواً من غابة الحب نعم، مالت عليه هيرومي وطاري وأخبرته إنها كانت، في تلك الليلة الشتوية، في هدوء مدينة أمريكية صغيرة، امرأة بدائية خرجت من غابة اسمها الحب، بخدوش كثيرة. كان بينهما من ذلك الإحساس بالحميمية ما يسمح لهما أن يقولا أشياء مثل هذه. وكان فرانز هو الذي بدأ، هو الذي قطع الصمت وقال إنه لا يفهم نفسه. كيف يمكن أن يحلم أنه يحب امرأة هو الذي تركها منذ عدة سنوات، ويعرف، تماماً، أنه في نهاية علاقتهما كان يود بكل قوة فيه أن يتركها. سألت: كيف هي الأحلام؟ قال: فيها حميمية لا يمكن وصفها. ليس الجنس ما أقصد. مجرد حميمية. لا أتذكرها تماما، فقط صور غائمة. بدا صوته لها حزيناً. مشوشاً قليلاً. وسألت نفسها: هل يبكي فرانز أحياناً؟ أين تبدأ الأحلام وتنتهي الحقيقة؟ سمعت زفرته ورأسها، وجسدها كله، عكس اتجاهه، فلم تر تعبيرات وجهه. ثم بدأت تحكي له، وفكر فرانز أنها أغفلت مقطعاً هاماً في أصول الحكي، ذلك المقطع الذي يظهر في كتب قديمة، لا يفعل فيها أناس هربوا من طاعون أو حرب طاحنة سوي أن يروا حكايات مختلقة لأحدهم الآخر. مثلاً، بعد أن تسمع حكاية موجزة مثل حكاية أحلامه كان يمكنها أن تقول: ذلك شبيه بما حدث لي ذات ليلة بعيدة. لكنها بدأت مما وراء ذلك، بدأت وكأن حكايتها لم تستدعها حكاية أخري. قالت، ووجهها مازال فوق الوسادة، وجسدها يلامس جسده: ذات ليلة شتوية، في هدوء مدينة أمريكية صغيرة، كنت امرأة أجنبية، بدائية، خرجت تواً من غابة يسميها الساذجون: الحب، بخدوش كثيرة. كانت المدينة أصغر مما أتحمل، ورغم أنها كانت ليلتي الأولي هناك كنت قد بدأت أفكر بالفعل في طريقة أهرب منها، ومن الرجل الذي كنت أزوره، في أقرب فرصة. غداً صباحاً مثلاً، فكرت وشعرت بالذنب. كنت أفكر في كل هذا وأنا أجلس في الشرفة، أدخن، خارج البيت، بملابس خفيفة جداً، فوقها معطف ثقيل، والثلج كان قد كف عن السقوط، لكن كل شيء كان أبيض تماماً. كان أبيض لم يلوثه أي شيء بعد. وكنت أعرف أنه بعد ساعات قليلة، حين يأتي الصباح، سوف يتحول هذا الأبيض إلي رمادي خفيف، بفعل العالم، أو كنت أعرف أن ذلك يحدث في المدينة التي لم تكن بعيدة جداً، والتي كنت أريد أن أعود إليها في أقرب فرصة، كما قلت. كان ذهني صافياً تماماً، وكنت أعرف بوضوح ما أريد. أبداً لم أكن أريد أي شيء بوضوح يماثل تلك الرغبة في ترك المكان، في ترك ذلك الرجل. ولم يكن يعكر صفوي سوي تلك الزغطة التي تفاجئني أحياناً حين أدخن، آخذ نفساً وقبل أن أطرد الدخان خارجاً، والدخان مازال في حلقي، تفاجئني الزغطة وأشعر بطعم الدخان لاذعاً، وباعثاً علي الملل. توقفت، وجلست هناك، في الظلام، أراقب وهج السيجارة، أتتبع انتشاره، وأتمهل كي ينسي جسدي أن يرسل لي بزغطة حين آخذ النفس التالي. في انتظاري لذلك، شعرت به، ذلك الرجل، يقف عند الباب، ورأيته يبتسم لي بحب يكسر قلبي الآن، حين أفكر فيه، أظن، ويمد يده لي بمطفأة. لعدة سنوات بعدها، بعد أن تركته، اعتقدت أن السعادة لم تكن أبداً أقرب لي من تلك اللحظة الخاطفة، ورجل مبتسم أريد أن أتركه يمد يده لي بمطفأة لا أدري حتي من أين أتي بها وهو لا يدخن. كان صوت هيرومي وهي تنهي حكايتها يوحي بأنها ستسقط في النوم قريباً. وكان فرانز علي وشك أن يريد أن يبدأ من جديد لكنه قال لنفسه أنه لن يريد أن يبدأ من جديد إلا إذا أعطته إشارة ما. مثلاً: قبلة رغبة فوق كتفه الذي وضعت رأسها عليه. مثلاً: إذا شعر بأسنانها فوق جلده. مثلاً: صوت بكاء مكتوم. مثلاً: مفردة داعرة بلغة أجنبية عنهما معاً. كانت هيرومي تفكر أنها ستنام بعد قليل. أنها حين تتقلب في نومها ستعطيها خدوش ظهرها بعض اللذة الخفيفة. أنها لن تريد أن تتذكر هذه الليلة بعد سنوات عديدة وتفكر أن السعادة كانت قريبة جداً منها وأنها لم ترها. أنها يجب أن تبدأ في كتابة قصصها بالإنجليزية وتنسي لغتها الأم تماما. أن مطفأة السجائر مفتاح ذاكرة يجب أن تفقدها. أنها يجب أن تأخذ حياتها، كما يقولون، في خلال عشر سنوات علي أفضل تقدير، ليس لأنها تريد ذلك، بل لأن إنسانة بهذا اليأس لا يمكن أن تعيش أكثر من عشر سنوات أخري. أما فرانز فكان "يفكر في كل شيء ولا شيء". سميه التشيكي الذي كان يكتب بالألمانية ويرسل خطابات أفضل من آلاف القصص لسيدة متزوجة اسمها ميلينا. أن الواحد لا يملك إلا أن يقع في غرام أي سيدة لها اسم العزيزة ميلينا. أن قصة السيدة العزيزة وطاري "مطفأة السجائر والغابة التي اسمها الحب" من تأليف السيدة العزيزة وطاري. أنه سيقع في غرام هيرومي إذا وقعت هي في غرامه. أنه يريد ذلك ولا يريده. أنه وحيد. أن الوحيد في هذا العالم لا يجب أن يرغب سوي في أن يقع في غرام جسد يشاركه وحدته. أن السيد فوكو قال الجسد سجين الروح. أنه سيدخل سجن النوم بعد قليل. أنه سيحلم حين ينام ويريد أن يكون حلمه صوراً متتابعة مثل رواية مصورة لا يكون هو بطلها، بل مجرد قارئ من قرائها. أن السعادة، كعادتها، قريبة منه جداً. جداً. لكنها ليست هنا الآن. بينما مشردون يعبروننا جميعاً في صمت ليس الجمال عملية حسابية علي أي حال، لذلك اعتقدت دائماً أن القاهرة مدينة جميلة، ورأيت الجمال لا ينفصل أبداً عن الألم، عن إحساس غامض بكارثة علي وشك أن تحدث لشخص آخر، أو مصيبة حدثت فعلاً في غيابي. منذ عدة سنوات، وكنت مازلت مسجوناً في تلك المدينة، أعني القاهرة، كنت في طريقي لكوبري الخشب. لا أتذكر لأي سبب كان ذهابي. أخمن الآن أنني كنت أزور صديقاً يسكن عند قهوة رمضان رغم معرفتي أن قهوة رمضان وكوبري الخشب ليسا نفس المكان. لكن لا ضرر من ذلك. أعرف، علي أي حال، أنني كنت في عربة شبيهة بتلك التي يكدس فيها الشرطيون قليلي الحظ الذين أوقعتهم الأقدار في أيديهم. كنت أجلس، أتذكر، ولم تكن العربة مكدسة جداً. ربما لأنها كانت ساعة محايدة، لا يخرج فيها الموظفون من أعمالهم، ولا يعود فيها الأقارب مرضاهم. بفضل ذلك الحياد الذي استغربه الآن، أري المرأة الجالسة في الجهة المقابلة. كان وجهها ممتلئاً، وجميلاً. شعرها يغطيه ايشارب لا يمكن من فرط عاديته أن يلتصق بذاكرتك، فهو نقطة سوداء، خالية. محض هوة في الذاكرة. وأحاول أن أقنع نفسي أنها كانت تخفي جمالها بمساحيق، وأحمر شفاه، لكنني رأيت الألم يغطي وجهها، ورأيت جمالها صادماً رغم أنها لم تكن تبدو غريبة علي المكان. وكانت تبكي. لا أتذكر إن كانت تحاول أن تخفي دموعها لكنني كنت أراها، وأنا جالس هناك، في طريقي لمكان لا أتذكره. كنت شاباً ضل الطريق، إذن، أمامه امرأة تبكي، يفكر، بدون أي سبب مقنع، أن المرأة حامل، وأنها تبكي حملاً لا تريده، أو لا يريده زوجها، أو عشيقها. هكذا إذن كنت مشغولاً، أفكر في الجمال والألم حين قطعت عدة شوارع هادئة، في يوم مشمس تلا أياماً كثيرة ممطرة، وباردة، كي أجد نفسي في ميدان لوجان، ذلك الميدان الذي منحه للعالم شخص لديه مفهوم خاص جداً عن الجمال: في وسطه دائرة كبيرة، بحيرة صناعية مصغرة، في منتصفها تستلقي حوريات أربع مسترخيات، ممددة أجسادهن، وجوههن مشرعة عكس اتجاه أفخاذهن، تعتلي ظهورهن كائنات تقذف، من فوق رؤوسهن، الماء: بجعة ثم سمكة عملاقة ثم بجعة ثم سمكة أخري عملاقة، وفي الدائرة الأوسع، ضفدعتان وسلحفتان، يحطن بالحوريات، علي أبعاد متساوية، ويقذفن الماء أيضاً. جلست في الشمس، علي طرف الميدان، بعد أن نفدت ذكرياتي عن الجمال الباكي، جلست مثل شخص ليس وراءه الكثير الذي يود إنجازه، وليس لديه أي شيء يقدمه للعالم، بينما فتيات المدارس يتسكعن في طريقهن لبيوتهن. مبان شاهقة في الخلفية تلتمع بفعل الشمس. امرأة أجنبية تلتقط صوراً أكثر كثيراً مما يلزم. صديقها يراقبها في جلسته مسترخياً فوق أحد المقاعد الخشبية. مشردون يعبروننا جميعاً في صمت. حقيبتي بها نسخة كوميكس من محاكمة كافكا. فتاة تجلس وحدها، محنية جسدها لأسفل، واضعة ذراعيها حول رأسها، في خطين مستقيمين تماماً، دافنة وجهها، ذلك الذي لن أري ألمه أبداً، بين فخذيها والهواء. أين ذهب العجوز الذي سأكتب عنه رواية؟ أمام مقهي الطبق الطائر. الخامسة. الساعة التي يعود فيها الموظفون بأحمالهم إلي بيوتهم. السيارات التي تتحرك ببطء التأمت في صف طويل. أدخن ويتحدث معي عجوز يدخن. هو قصير، محني الظهر، قديم. أسميه طوني، وكأننا في فيلم أمريكي بترجمة لبنانية. إنه شتاء المعاطف، والكوفيات، والطواقي الصوفية، والقفازات. أدفع عن نفسي ثلاثاً: فشل اعتيادي في الحب، والبرد، والحديث مع عجوز لا أود، علي نحو خاص، أن أتجنب الحديث معه. عن برد هذا العام مقارنة بالأعوام الماضية نتحدث. يخبرني بحكايات لطيفة أحتفظ بها في ذاكرتي، وأمنّي نفسي بأنني سأخونه في غيابه وأكتبها في لغة لا يعرفها حتي، وأعاتبها، وأجد عزائي في أنني سوف أنساها قريباً. أوده لأنه وفي جداً للتدخين رغم أنه بلغ من العمر عتياً، ورغم ما هو معروف عن الاهتمام الشائع بالصحة، ولأنه ذهب للقاهرة شاباً وأحبها كثيراً، أو كان لطيفاً بما يكفي لأن يجاملني بقول مثل هذا، أو لأن ذاكرتي توهمني الآن أنه قال ذلك. "لقد ولدت في الشتاء،" "أنا ابن شتا،" "ماما قالت لي ذلك،" يخبرني. الآن، بعد أن اختفي، أفكر: ماذا كان يكتب بانهماك كلما جاء إلي المقهي؟ وأصبح لي هوي سري مؤخراً أصبح يروق لي في طريق العودة من المقهي للبيت أن أجلس علي السلالم الجانبية لكنيسة "ملكة كل القديسين" وأدخن سيجارة. اليوم، كان الجو حاراً، والرطوبة عالية، ورماد السيجارة يتساقط علي أرض الشارع، تارة بفعل هزة يدي الخفيفة، وتارة بفعل الجاذبية التي لا يمكن مقاومتها. رأيت شعباً من النمل يجاهد فعلاً كي ينجز أمراً ما نسيته الآن. تذكرت درساً قديماً من كتاب مدرسي يحكي عن قائد مهزوم جلس وحيداً فوق صخرة يجتر خيبته ويحزن، لكن حدث أن شد من أزره رؤية إصرار سرب من نمل فأعاد لم شمل جنوده المبعثر، وحمل بهم علي العدو، فانتصر. بما أنني لست قائداً، ولم أخض أي معارك مؤخراً، فقد أنهيت سيجارتي، ورفعت وجهي كي أري تماثيل كل القديسين، يحملون أناجيلاً وسيوفاً وعصياناً وبعضهم يقتل بمشيئة الرب وعونه تنينين هم رمز الشر الخالص، مستغرقين في بهجة حب ملكتهم التي تحمل طفلاً هو مخلص بعض الناس، ثم هبطت إلي الطريق بعد أن قلت للنمل في سري: يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم ليحطمنكم رجل ليس بسليمان وليست جنود له وأنتم لا تشعرون.