أشعر بكابوس ثقيل يجثم فوق صدرى ويكتم أنفاسى وحش شرس ضخم يلاحقنى بإصرار، أغمض عينى وأمضى فى طريقى محاولة التظاهر بعدم وجوده. لكنني في الدقائق القليلة التي تسبق نومي عندما أضع رأسي علي وسادتي أختلس نظرة إلي الخلف فأجده مازال موجودا, مازال مصرا علي ملاحقتي بل أجده لرعبي قد ازداد اقترابا. أنا فتاة في السادسة والعشرين من عمري صيدلانية بإحدي محافظات الأقاليم والابنة الصغري لأسرة تتكون من شقيقين وشقيقتين لي وأب وأم كرسا كل حياتهما لرعايتنا والسهر علي راحتنا, تزوج أشقائي وأصبح لكل منهم حياته وأعيش أنا مع أبي وأمي. منذ مدة ليست ببعيدة علمت أن عائلة والدتي لها تاريخ عريق مع هذا الوحش اللعين المسمي بالسرطان ولم أعلم بذلك إلا عندما أصيبت أمي بهذا المرض منذ عامين أو يزداد قليلا. لقد أجرت الجراحة منذ زمن وأتمت العلاج الكيميائي والإشعاعي بفضل الله وهي الآن في فترة المتابعة. والآن اتذكر نفسي عندما كان يراسل أحد القراء الأستاذ الفاضل عبد الوهاب مطاوع رحمه الله يحكي عن معاناته مع المرض, لست متحجرة القلب لأقول انني لم أكن اتعاطف معه لكنني أيضا لم أكن أشعر بمعاناته مثل ما أشعر بها الآن. في فترة دراستي بالكلية عندما كان الدكتور يسأل عن العلاج لحالة مشابهة كنت أرد دون أن يطرف لي جفن: Tumorexcition,Chemo&Radio أي إزالة الورم ثم العلاج الكيميائي ثم الإشعاعي. كنت أقولها غير عالمة أو متخيلة ما تحدثه الجراحة من تشوه وما يخلفه العلاج من عذاب وما ينجم عن الأمر برمته من أثر مرير في النفس وبعد كل ذلك ربما نجح الأمر وربما... آسفة لك يا أستاذي ان كنت أسهبت في كتابة خواطري وأريدك ان تغفر لي فقلبي يحمل الكثير مما أود أن أفرغه علي الورق فربما يمنحني ذلك بعض الراحة. أقول انني تغيرت منذ عرفت ذلك, تغير شيء بداخلي للأبد أعرف يقينا انني التالية, أنا من سينقض علي هذا الوحش ليمزقني في أي وقت. صرت أرتعش عند سماع اسم هذا المرض, هل تعرف تلك الطفلة الصغيرة التي تظهر في التليفزيون قائلة أنا هقولكوا كلمة واحدة أنا خفيت الحمد لله صرت أبكي لمجرد تذكر هذا المشهد, وأبكي وأنا أكتب لك تلك السطور الان, وربما يظن البعض انها دموع الفرح لنجاة هذه الطفلة البريئة من هذا المصير الشنيع بالطبع أنا سعيدة من أجلها لكنني أبكي عندما أتذكر مصيري المنتظر عندما أتذكر انني سأقاسي ما عانته هي, وربما هي دموع غبطة لشجاعة هذه الطفلة التي عانت ما أرتجف انا منه عندما أعلم أنني سأختبره عندما أصاب بهذه اللعنة. لكن عندما أفكر في الأمر ألتمس لنفسي العذر فهي طفلة لا تعرف قسوة ما تعانيه وان قاست فهي لا تدرك معني المرض ولا تبعاته ولا خطوات العلاج المريرة, أما أنا فأدرك ما ينتظرني أعرف كيف سأتعذب وربما أنجو وربما.. لا أعرف متي سأكتشف الورم وإذا اكتشفته هل سأوافق علي العلاج, أخشي أن أقوم بالكشف الذاتي علي نفسي لأنني إذا وجدت شيئا فستكون كارثة وإذا لم أجد ربما الكارثة أكبر وربما الورم من النوع المتخلل الذي لا يحدث كتلة ظاهرة ولا يكشف عن نفسه إلا في مراحله الأخيرة. غيرت طريقي إلي العمل حيث كنت أمر كل يوم بمعمل يقوم بأشعة الماموجرام فكنت أقرأ الاسم ثم أمضي في طريقي أفكر في ما سأفعله في يومي وأخطط لنزهة مع صديقاتي, الآن صار هذا الاسم شبحا يطاردني وكلما قرأت الاسم عاودني تذكر شبح اللعنة تطاردني منذ أجيال سحيقة. الآن أود أن أطلب منك طلبا هو الا ترد علي بكلمات مثل( كوني راضية بقضاء الله) أو( ما يحدث في علم الغيب) أو( عيشي الان حياتك فلربما تموتين في الثانية القادمة) أو( لا تيأسي من رحمة الله فلربما لا تصابين بالمرض) فأنا قد ناقشت هذه الكلمات مع نفسي الاف والاف المرات فهذا الهاجس أول ما أصحو عليه صباحا واخر ما أفكر فيه ليلا قبل أن أنام وأود أن أخبرك انني سأصاب بهذه اللعنة ان عاجلا أو اجلا وأنني مؤمنة راضية بقضاء الله ايا كان, ما يعذبني فقط هو الانتظار وتخيل المراحل البشعة لهذا المرض كل صباح ومساء, وأود أن أقول ايضا انني أيضا لست حزينة لفراق الدنيا بالطبع أنا خائفة من لقاء الله سبحانه وتعالي ولكن ليس ما يحزنني هو الموت وانما العجز, الاعتماد علي الآخرين, الموت وأنا علي قيد الحياة, جسدي الذي سيشوه وشعري الذي سيسقط وحياتي التي ستتبدد وأقول لمن سيتهمونني بالاعتراض علي قضاء الله ان حاشا لله لكنني فقط متوجسة خائفة مرتعبة وانتم لم تختبروا ألم المرض أو ألم انتظار ألم المرض. إنني لا أريد ردا علي رسالتي.. صدقني أعلم انك لن تجد ردا يريحني وهذا ليس لقصور في شخصك, ولكن لأنني قلبت الأمر علي كل الوجوه وهو كما هو, كما عرضته عليك الآن, ليس فيه ما يبهج ولا ما يريح, ليس فيه إلا الشقاء والمعاناة, فإذا كنت تتساءل الآن ولماذا أبعث إليك برسالتي هذه إذن؟ أرد عليك انني أريد من يسمعني ومن أشكو اليه ربما تعتقد ولك الحق في ذلك عندما تقرأ هذه الكلمات انني فتاة كئيبة سوداوية لا تفوت يوما دون شكوي ولا تمر ساعة دون غم والحقيقة المريرة انني لست كذلك, لست كذلك علي الاطلاق, فأنا ان رأيتني وسط مجموعة من أصدقائي فلن تشك لحظة أنني مرسلة هذه الرسالة اليك لانني أكثرهم مرحا وأعلاهم ضحكة وأقربهم الي التنكيت والقفشات والمقالب, أحب كل زملائي فصاروا كلهم والحمدلله يحبونني, كاتمة كل هذا الحريق المشتعل في قلبي حتي كاد ينفجر لذلك أردت أحدا يسمعني, أحدا يعرف ما أعانيه حتي وإن لم أعرفه وإن لم يعرفني. لذلك صدقوني لا أكتب هذه الرسالة طمعا في رد يريح قلبي لأنه لا وجود لمثل ذلك وإنما فقط طمعا في قلب يشعر بما أشعر به, اقرأ رسالتي ياسيدي ودع الآخرين يقرأونها ربما يريح ذلك قلبي, وهذا أبلغ من أي رد وأجل خدمة يمكن ان تقدمها لي. أما أنا فلا أملك الا الدعاء بأن يريحني الله من الحياة قبل وصول هذا الوحش إلي, فهذا أفضل ما يمكن ان يحدث لي. * سيدتي.. أرجو أن يكون قلبك قد استراح ولو لوقت قصير, فها نحن قرأنا رسالتك.. ولكن هل هذا يكفي؟.. مارست حقك في البوح وصادرت حقي في الرد عليك أو الحوار معك, فإذا قررت إغلاق عينيك عما سأكتب, فاسمحي لي ان أفعل ذلك, حتي لو لم يضف اليك شيئا, فربما يستفيد منه آخرون يعانون مما تعانيه. الذين يخافون من الألم.. يتألمون من الخوف, تلك المقولة التي أحبها كثيرا ولا أتذكر الآن قائلها, هي التلخيص الكامل والدقيق لحالتك, فأنت بما تحملين في داخلك تعيشين المأساة مرتين, الأولي خوفا من المرض, فتصادرين حقك في الحياة, والاستمتاع بسلامتك, فتسلمين نفسك طائعة إلي مصير مجهول لا يعلمه الا الله, فإذا جاء قدره المحتوم وندعو الله ان يكون رفيقا بك حافظا لك تعيشين الالم والمعاناة مرة أخري. سيدتي.. الموت اذا أتي لا يحتاج إلي مبرر ولا يبحث عن سبب, وهو الشيء اليقين والمعلوم منذ الميلاد, فمم نفر, ولماذا ننسي هذه الحقيقة, ولماذا تخافين من لقاء الله؟ اليس الخوف باعثا علي حبه سبحانه وتعالي والتقرب اليه؟! لا أريد ان يكون حديثي معك أو مع من يعانون مثلك مرجعه ديني, ولا علمي, فأنت أعلم مني, ولكني أذكرك فقط بأن التاريخ المرضي لأحد أفراد العائلة لا يعني حتمية وصول المرض الي الآخرين في الأسرة, وان كثيرين ممن ابتلوا بهذا المرض, صغارا أوكبارا, لم يكن لديهم مرضي في العائلة.وتعلمين أيضا ان الاكتشاف المبكر للمرض يساعد كثيرا في العلاج, بل يمكن تلافي المرض, ببعض التحاليل والاشعات التي تكشف عن مدي قابلية انسان للإصابة به, فمرض والدتك يجب ان يكون دافعا للبحث والحرص لا للسقوط الكامل في دائرة الخوف. سيدتي, كلمات الطفلة التي أبكتك, يمكن ان تكون مصدرا للأمل لا للحزن, ولكن كل منا يذهب حيث يريد, وما تفعلينه بنفسك لن ينجو بك, والوسواس الذي أصابك يستدعي استشارة طبيب نفسي, لأن أي انسان منا لو أسلم قياد نفسه للخوف من المرض أو الموت, ما خرج من بيته, وما عمل, وما غرس, وكان الموت أولي به, لأننا لم نخلق لهذا. فإذا مس الانسان منا الخوف, فليسارع بعمل الخير, بمزيد من العطاء, بالاقتراب من الله, لأننا عندما نظن اننا نفر من قدرنا نكون في حقيقة الأمر ذاهبين اليه, فما من شيء يصيبنا الا وقد كتبه الله علينا ونحن نطف في الأرحام, فهو القائل في كتابه الحكيم: قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا, وعلي الله فليتوكل المؤمنون صدق الله العظيم. حياتنا واحدة ياصغيرتي فلا تضيعي عمرك خوفا مما هو آت, فتحسرين واقعك, وتغضبين خالقك لانك تصادرين حقه سبحانه وتعالي في إنزال قضائه وقدره بعباده, عقابا أو رحمة وابتلاء, فإذا أحببته سبحانه وتعالي قدر ما يستحق من حب, ورجوت رحمته التي وسعت السماء والأرض لرضيت بكل ما كتبه لك, وهو بإذنه تعالي خير وسعادة وشفاء, رعاك الله وحفظك ولطف بك في قضائه, وتذكري دائما ما علمه لنا سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم: احفظ الله تجده أمامك, تعرف الي الله في الرخاء يعرفك في الشدة, وأعلم ان ما أخطأك لم يكن يصيبك, وما أصابك لم يكن ليخطئك, واعلم ان النصر مع الصبر, وان الفرج مع الكرب وان مع العسر يسرا, واذكرك أيضا بقوله صلي الله عليه وسلم: لا يرد القضاء الا الدعاء, وان القضاء ليلقي الدعاء فيعتلجان الي يوم القيامة. وإلي لقاء بإذن الله..