صوته يشف عن طبقات متراكبة كأن السماء اختارته مزيجا من تغريد نادر الطيور والطبيعة، صوت جمع بين الوجهين القبلي والبحري، ينتمي إلي أعمق راقات الحكمة الشعبية، كأنه سبيكة العناصر التي صهرها الزمن في "ليله وعينه"، ولم لا وهو المولود ببلد العلماء طهطا بمحافظة سوهاج في 24 سبتمبر 1922، بلدة أبيه والساكن في عزبة عطا الله سليمان التابعة لقرية سندبيس بمركز قليوب، محافظة القليوبية، تلك القرية التي نشأ فيها فصادقته ووهبته مواويل من أشجار تعرف معني الزهر والظل، فبني تحتها عتبته ليصيد من ونسها مواويل من كل لون، هنا شجرة الأحمر حيث العشق المشبوب، وإظهار عيوب النماذج الإنسانية ، وهناك شجرة الأخضر، حيث مواويل الحكمة التي تتجلي فيها النصيحة والتوجيه المباشر، وهذه شجرة الأبيض تتجلي علي أغصانها القوافي بوضوحها دون إلغاز فتتفتح لسماعها قلوب الشبان والعذاري، وهذه أشجار لا تعرف ترتيبا لأغصانها، لأنه يبنيها في الحال حسب ظروف الليالي وما يجود به الموال، بينما تحتل شجرة الموال الحكائي مكانة بارزة في حديقة فنه تحرسها نعيمة وهي تبكي حسنها المغدور، إنه الفنان الشعبي الكبير محمد طه مصطفي أبو دوح، الشهير ب محمد طه. أنا أصلي فلاح ومزارع وخادم أرض وجد جدي سبق جدي وصاحب أرض وبعد مني يكون ولدي يراعي الأرض مصر جميلة هواها يرد الروح ومية النيل دوا تشفي عليل مجروح أنا معي صبر أقوي م السلاح والروح ما دام فيَّ روح مش ممكن أسيب الأرض علي الأصل دوَّر في عزبة عطا الله سليمان كانت النشأة حيث إرث الموال لم ينفد في بيوت الفلاحين مساء وفي أجرانهم صباحا، يصيدها صوته ليجرب التغريد فيستمع إليه القاصي والداني ليدخل دائرة السحر، ومن قريته ولياليها ينطلق ليغني محاطا بمحبة الناس الذين عثروا علي صوت حكمتهم، فعمدوه بآهات النشوة وهم يمسكون غطاء الموال من طرف غنائه حين يداعب قلوبهم وأرواحهم وفي القرية تعلم مبادئ القراءة والكتابة في "كتّاب" القرية ولأنه ابن أسرة ريفية فقيرة فقد خرج للعمل في سن مبكرة (14 سنة)، لتكون تجربته الأولي في أحد مصانع النسيج بمدينة "المحلة الكبري" ربما كانت هذه الفترة سببا في تعرفه علي الفنان أبو دراع والمؤلف الششتاوي خاطر، ومن الطريف أن أول أجر له في المصنع كان 23 مليماً، هناك تجلي صوته ليصاحب حركة العمل فضلا عن التسرية عن زملائه أثناء فترة الراحة، وفي عام 1940ينتقل من المحلة إلي "كفر الدوار" ليتعرف علي صوته في أكثر من مكان ومع جماهير متعددة، وقد أتاحت له هذه الانتقالات أن يسمع مواويل القادمين من القري كأنه يقوم بجمع ميداني بداية من قري قليوب مرورا بالمحلة وكفر الدوار ليعود من جديد للقاهرة حيث يستدعي للتجنيد الإجباري، كانت فرحة والده بتجنيده كبيرة ورآها خطوة ستغير حياته ليبتعد عن الغناء الذي لم يكن يروق للأب ، لكن وجوده بين زملائه الجنود قربه أكثر من الغناء، وكان فرصة للتعرف علي مسارح الفن الشعبي في القاهرة، ، ومن ليالي وأفراح القري المجاورة انتقل ليجرب صوته علي مسارح الموالد الكبري، وصار صوته قرينا للمقاهي الشهيرة في حي الحسين والسيدة، بل لقد اكتسبت بعض المقاهي شهرتها من لمعة صوته النادرة التي كانت تجذب المارة فيجلسون أو يقفون بالساعات ليقتنصوا الحكمة كعلاج لألم الروح أو جواباً لسؤال لم تهدهم الحياة لإجابته، في هذه الأجواء - كانت المقاهي بمثابة ذاكرة فنية تؤرخ لأصوات عظيمة ولملحنين بارزين ومؤلفين صاروا علامة في تاريخ مصر الفني خرج صوت طه يشع بالونس، فاكتسب كل يوم مريدين ، كان طه يعتمد علي المواويل الموروثة ، فضلا عن المواويل التي يكتبها له مجموعة من المؤلفين الذين يتوارون خلف منظومة قيم الجماعة الشعبية ، ولحسن حظه فإن ثورة يوليو 1952 كانت ترحب بالفنون الشعبية بوصفها واحدة من الخطابات التي يمكن أن تصلها بالشعب ، في هذه الأثناء استمع الإذاعي الرائد طاهر أبو زيد وزميله إيهاب الأزهري لصوت محمد طه مصادفة وهو يغني علي مقهي المعلم "علي الأعرج" بحي الحسين فالتقطاه كأنهما عثرا علي جوهرة فنية يمكن لها أن تزيد عدد المحبين للثورة خاصة في توجهها إلي الجماهير ، لكن "محمد حسن الشجاعي" رئيس لجنة الاستماع حينها قرر أن صوته لا يصلح للميكروفون. لكنه بعد ذلك أصبح أحد أهم أصوات الإذاعة المصرية بعيدا عن الغناء الكلاسيكي وأساليب التتريك التي كانت تسيطر علي حالة الغناء قبل أن تنتقل الإذاعة إلي أصوات الثورة فيما بعد. الدنيا لوكشرت ليا مانيش مغلوب إيماني بالله خلاني مانيش مغلوب هي الحكايه مكاسب وفلوس وغني دا القنع كنز عظيم صاحبه دوام في غني ومادام توكالي عليه دايمن أعيش في غني واللي معاه ربنا دايمن ماهوش مغلوب طه بين الشجاعي والحجاوي كان طه من المغنين الأفندية، رغم زيه البلدي، الجلابية والطربوش الأحمر، فقد كان يطلق علي نفسه "المغني البلدي"، وحين كتب جزءًا من سيرته في وثيقة محفوظة بدار الهلال قال عن نفسه "الأستاذ محمد طه" وكان لا يحب كثيرا أن يطلق عليه المغني الشعبي ظنا منه أنه أقل قيمة في عرف أبناء المدينة علي الرغم من أن معظم ما قدمه من مواويل وقصص حكائية ينتمي للغناء الشعبي شعرا وموسيقي، نعم هناك أسماء معروفة قد ألفت له قصصه ولحنت له بعض أعماله مثل الششتاوي خاطر وعبد الغفار رمضان ، فضلا عن اعتماده علي روايات بعض رواد الغناء الشعبي كالحاج "مصطفي مرسي بتاع المرج" الذي اشتهر بموال حسن ونعيمة، ولما كانت وزارة الثقافة قد بدأت في إنشاء الفرق التي أطلقت عليها "شعبية" لتواكب التوجه للعمال والفلاحين فقد تم تكليف الفنان الرائد زكريا الحجاوي بتأسيس فرقة الفلاحين للفنون الشعبية التي انضم لها محمد طه ليصبح أحد نجومها، وبدأت جولاته الفنية في أرجاء القطر المصري وفي عدد من الدول العربية ليضمه الإذاعي "جلال معوض" ضمن مجموعة الفنانين الذين سيقومون بإحياء حفل أضواء المدينة، في غزة، وهناك انجلي بمواله مواكبا اللحظة لينشد وسط الجماهير الفلسطينية مواله الخماسي الأعرج: يا رايح فلسطين حوّد علي أهل غزه تقعد مع أهل الكمال تكسب وتتغذي وسلم علي يوسف حاكم قطاع غزة وقل له إحنا البواسل سيوفنا.. في قلب اليهود غازة التقط طه القافية فاحتل قلوب أهل فلسطين وزاد حبهم له حين عشق اسم يوسف في مواويله، ويوسف هو"الفريق أول يوسف العجرودي" حاكم غزة الذي أسره الصهاينة وذهبت أضواء المدينة لتحتفل مع الفلسطينيين بالنصر، ومع كل شطر كان الجمهور ينتشي ليعلن عن صوت يداوي جراح الوطن السليب: أرض العرب للعرب أصل العرب بيمين وبإذن واحد أحد أحلف قسم بيمين ما دومنا اتحدنا نحررها شمال ويمين وتعود فلسطين لأهليها بكل سلام الحب بالدم مش لازم بياض اللون ولا هو باللبس ولاعندك فلوس مليون اسمع كلامي كلام غالي وقالب لون عنتر بني عبس ما عبوش سمار اللون هكذا يفصح عن مساحة من الارتجال تظهر في شكل الموال الذي ينفك إحكامه، ومما يؤكد ذلك استدعاؤه لموال "أنا بحب البيض لكين السُمر هوسوني" بعد نهاية الموال السابق ، إنه محمد طه الصوت الذي لا يتوقف حتي يصل بمستمعيه إلي ذروة النشوة، الأمر الذي صاحب صوته علي الجمهور فأحس أن واحدا منهم يغني لهم دون تكلف، هنا يجبر النجاح "محمد حسن الشجاعي"، ليقول له: "الآن اقتنعت بك"، وأجازه للغناء في الإذاعة عام 1956 . بعد أن صار صوته علامة بين الجماهير وأحبت الإذاعة صوته اتجه إلي نقابة الموسيقيين ليحصل علي عضويتها لكنهم رفضوا أن ينضم إليها ليس لسبب فني إنما لأنه لا يحمل مؤهلا دراسيا ، لكنه قد تظلم ودعمه مواله الذي ارتجله أمام اللجنة التي كان يرأسها الموسيقي أنور منسي حين ذاك : أنا في محكمة العدل أصل العدل للعادل واسمع يا منسي أنا مش منسي وفي الكلام عادل وإذا حكمتم يكون الحكم ب"العادل" أنا اسمي عدل الكرام محمد أبو طه أبو نفس عالية ما عمره في يوم وطاها ومن خلال مواله ومواويل أخري أصبح طه عضوا بنقابة الموسيقيين وفتح الباب أمام أقرانه فيما بعد ليصبحوا أعضاء في النقابة . يابهية خبريني انطلق طه ليغني في الإذاعة والحفلات العامة وصار نجما لامعا تطلبه المسلسلات الإذاعية والأفلام، فقد شارك في عدد منها علي النحو التالي : حسن ونعيمة، ابن الحتة، بنات بحري، أشجع رجل في العالم، خلخال حبيبي، شقاوة رجالة، السفيرة عزيزة، الزوج العازب، دعاء الكروان، المراهق الكبير، ملك البترول، زوجة ليوم واحد، رحلة العجائب، دستة مجانين، كما صار عنصرا رئيسيا علي مسرح الاحتفال بعيد الثورة فغني أمام الرئيس جمال عبد الناصر. بعد أن توجه الغناء أميرا علي عرش قلوب البسطاء اختار شبرا ليعيش فيها وهناك أسس شركة اسماها ابن البلد لطباعة أعماله، وبدأ يوثق أعماله التي تراوحت بين الموال والأغنية والمواويل الحكائية (ياسين وبهية حسن ونعيمة حكاية الصياد شلبايه.. إلخ ) ، لكن من أسف أن جميع أعماله ليست متاحة ، فقد تواتر أنه غني أكثر من عشرة آلاف موال موزعة بين تسجيلاته الخاصة والإذاعة والتليفزيون وهو ما يحتاج إلي بحث وتدوين للوقوف علي نصوص وموسيقي وتاريخ يوثق لمرحلة مهمة من حياة مصر وشعبها: يابهية خبريني يابوي ع اللي قتل ياسين قتلوه السود عينيا من فوق ضهر الهجين يا اخوتي ردوا علي أنا مالي ومال ياسين دي صورتها ميه الميه في قلبي من سينين يابهية خبريني يابوي ع اللي قتل ياسين والأصل في هذه الأغنية" يابهية خبريني يابوي ع اللي قتل ياسين.. قتلوه السودانيه من فوق ضهر الهجين؛ والسودانية جماعة من العبابدة في أقصي الجنوب الشرقي لمصر وهم يشتهرون بمهارة ركوب الصحراء وتربية الإبل ورعايتها. إن مشوار محمد طه من الغني لنتوقف أمامه، فلم يكن مشوار كفاح فحسب ، لكنه كان علامة في تاريخ الغناء الشعبي في مصر ويحتاج من الباحثين الوقوف أمامه لفصل ما هو مؤلف وما هو موروث، وفهم استخدام المؤسسات الرسمية لأصوات الفنانين الشعبيين في قيادة توجهاتها، وكذا معرفة العلاقة بين المغني وجمهوره والإمساك بلحظات الارتجال التي تقودها المواقف، فضلا عن تدوين نصوصه المغناة وتصنيفها (مواويل بأنواعها- قصص موالية أغاني شعبية أغاني الأفلام.. إلخ )، لقد أثري محمد طه المكتبة الموسيقية برافد غنائي وموسيقي ربما انتهي لو لم يتصدر المشهد مدافعا عنه ، وبعد رحلة زادت علي خمسين عاما من الغناء والموسيقي يرحل عن عالمنا في 12 من نوفمبر 1996 تاركا إرثا غنائيا كان بمثابة البصمة التي وضعها علي قلوب محبيه من البسطاء الذين يستدعونه كلما احتاجوا إلي سماع صوت الحكمة والبهجة من جديد .