يكتب جمال فتحي في مجموعته الأحدث "مشكاة الوجع" عن الوجع الإنساني بروح متألمة ولغة قوية قادرة علي التعبير و الإدهاش. المجموعة تتكون من ثمانية عشرة قصة قصيرة تتناول الحياة من عين رأت وقلب عرف معني الشقاء. المرأة حاضرة بقوة في المجموعة، بين زوجة خائنة، أرملة عائلة، عاشقة ذليلة، وأخري مذنبة. لكنه لم يكتف في قصة "عمود خشبي مهمل" بسرد حكاية المرأة التي تسعي لإطعام توأمها بعد وفاة الزوج، بل سرد لنا تفاصيل عملها الدقيقة كشاهد عليها: "كل همِّها يتركز في تضفير سعف الجريد إلي بعضه في ضفائرَ طويلةٍ، ثم بمخرز وحبال رفيعة يتكون لديها زنبيل أو قُفَّة. السعف النابت علي جانبَي الجريدة يعد شيئاً تافهاً، بل يكاد أن يكون معدوم القيمة، لكنه بين يديها يتلوي علي شكل ضفائر، ثم يتحول إلي مقاطفَ وزنابيل." مختتما قصته باكتشاف البطلة أن دائرة الحزن تدور في ذات الفلك وأنها لم تكن الأولي وبالطبع ليست الأخيرة "تسللت مِن منزلها بعد أيام؛ لتتفقد الموضع الأحب إليها.. ذُهلت، إذ رأت عمودًا حديديًا انتصب بذات الموضع، امتدت أسلاك كهربية إلي جواره كومة في ملابس قشيبة، في داخلها امرأة، تبيع جُبناً وعسلا." شخصية المهووس أو المخبول موجودة في أكثر من قصة، لكل بطل حكايته. منهم من اختار أن يمثل هذا الدور أمام الناس مثل بطل قصة "ملامح حزينة"، "حمل لقب ابن المومس.. عزف عن الكلام.. أصبح الصمت طريقه الذي لا يقف في أماكن السعادة.. اصطنع التلعثمَ في الكلام، والتظاهرَ بالعبط، حتي ينسي الناس سيرة أُمِّه المومس، ينزل مِن الجبل ويعود للسوق، يلمح أختَه ترتدي النقاب، خوفاً من نظرات الناس إليها." وفي قصة تحمل عنوان العبيط "رائحته الكريهة وجلبابه المتسخ يجعلان الجالسين في المطعم يشمئزون منه.. سال مِن فمه اللعاب، نظر إلي الجالسين في المطعم بغيظٍ حانق.. تمني أن ينطق أحدهم ويقول: (تعالَ اتفضل كُل معي).. لكن الجميع أصابهم داء الخرس، لم يسمع سوي صوت أسنانهم التي تطحن الطعام. " الأحلام الضائعة والرغبات المؤجلة من الموضوعات البارزة التي تناولها جمال فتحي، مثل قصة "وظيفة" التي تتناول قصة شاب متعلم يقبل بوظيفة مشرف علي عمال نظافة لكن يتم رفضه لأنه تخطي عمر الخامسة والثلاثين، بينما يحلم البطل بمرتب ثابت وحياة عادية في بيت مستقر مع زوجة وأولاد. "وقف في الطابور يسمع أحلام الشباب في الوظيفة وكأنهم يتحدثون عن نفسه.. تسلَّطتْ عليه أشعة الشمس.. راح يتصبب عرقاً، وهو مازال يحلم بتأمين مستقبله." عبر الكاتب عن الشخصيات الضعيفة والمهمشة في أنماط مختلفة وقصص مؤثرة. فالرجل الذي عاش عمره ضعيفا مستكينا ربي ابنه علي أن يكون "بلطجي" في قصة بعنوان "أحلام شخص ميت": "نظر إليه بتمعن شديد، وكأنه يراه لأول مرة ولا يعرفه، أخذ يدقق فيه ويتحسس ملامحه، أخذ يبتعد عنه لينظر نظرة أخري مِن زاوية ثانية، رآه يرتدي بذلة الزفاف، وبجواره أجمل عروس، إظلام شديد ثم إنارة، البذلة تحولت إلي زرقاءَ تحمل أرقاماً، سكب دموعه في صمت، لتحرق ما تبقي من أجزاء فؤاده، دار بينهما الحوار الصامت". هكذا عبر فتحي ببراعة عن أنانية الأب وانصراف رزانة العقل والمنطق عنه. "فمنذ زمن بعيد هجرت طيورُ الكتابة شجرةَ أيامي.. لم تعد رأسي حُبلي بأفكار جديدة.. انكسر قلمي، واحترقت أوراق الخريف، ولم يعد يأتي الربيع.. أصبحتُ كومة هشة في تيار الحياة السريع." حين يفقد الكاتب قديرته علي الكتابة الإبداعية يشعر و كأنه إنسان عقيم لا يستطيع أن ينجب قصصا وحكايات. هكذا عبر جمال فتحي عن حال المبدع، ربط لحظة إجهاض زوجته بلحظة رؤيته لإعلان عن روايته وقد حملت اسم مؤلف أخر. بعض الكلمات و الأفكار وردت بأكثر من طريقة في المجموعة مثل "السيجارة "أو "قطعة الحشيش" التي يستخدمها البطل لينسي واقعه الأليم. "أخرج الشيطان قطعة من الحشيش مكتوب عليها "موعد مع السعادة".. أعطاها للرجل، شم رائحتها.. طلب من الرجل أن يصعد علي جناحيه ليحلق إلي السماء محققاً حلمه.. بمجرد الصعود كانت الشهب في انتظاره لتحرقه." قصة توبة شيطان. " سيجارة وعود ثقاب.. قام بتركيب المواد الفعالة، وحقن نفسه بعقاقير النيكوتين.. استعداداً للتفكير." قصة "إجهاض". صدرت المجموعة القصصية "مشكاة الوجع" للقاص جمال فتحي عن دار إبداع للنشر والتوزيع. وهي مجموعته الثالثة بعد "الجدران" الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة و" أحزان لا تجد من يكتبها"الصادرة عن دار النسيم للنشر والتوزيع.