تانجو الوجع .. المتخفي بين الرواي والمروي عنه قصص المجموعة كلها تدور داخل الغرف والشقق وطابور الصباح في المدرسة فهو لا يريد بمجموعته الدخول في مغامرة لغوية. أسامة ريان يفكر فيما يحيط به، يحكي بدون أن ينتظر إجابة عن أسئلة تؤرقه، بل يحكي، يخبط الفصحي بالعامية، ويخلط القديم بالحديث، والأسطوري بالواقعي، ولكنه يقع في نون النسوة. إن أسامة ريان ومنذ رحيل زوجته يروض نفسه علي الوحدة ويراقب الزمن. عندما بدأت التجول بين قصص مجموعة أسامة ريان الأولي «تانجو»، قفزت إلي عقلي رباعية عمنا صلاح جاهين: أنا كنت شئ وصبحت شئ ثم شيئا، شوف ربنا .. قادر علي كل شيء، هز الشجر شواشية ووشوشني قال: لابد ما يموت شيء عشان يحيا شيء. والسبب في ذلك أن اسامة ريان كتب المجموعة بعد رحيل زوجته، تركته مع حزنه، فانفجر الحزن بالحكايات والذكريات، وكأن الزمان توقف، هذا ما تقوله قصص المجموعة الواحدة والعشرون. القصص داخل الغرف القصص كلها تدور داخل الغرف والشقق وطابور الصباح في المدرسة، أو في مركز تدريب الجيش، أسامة ريان لا يريد بمجموعته الدخول في مغامرة لغوية أو الخروج من أفق وجدران تلك الحوائط، وله الحق، فهذا الدفء والشجن اللذان يملآن قصصه، يجعلان مشاعرك تنتفض وقلبك يرتعش وعينيك تترقرق بالدموع، إنه الحب، والسمو، والذكريات. أسامة ريان يفكر فيما يحيط به، يحكي بدون أن ينتظر إجابة عن أسئلة تؤرقه، بل يحكي، يخبط الفصحي بالعامية، ويخلط القديم بالحديث، والأسطوري بالواقعي، ولكنه يقع في نون النسوة تلك التي تربك الكثير من سرده، ومع ان اسامة ريان نهم في قراءة التراث، ومستمع جيد للموسيقي، إلا انه لم يستخدم كل ذلك حتي الآن في قصصه. كما أنه التلميذ النجيب الذي يحضر كل جلسات ورشة الزيتون، تجده دائماً مساء كل اثنين، يستمع لشرح النقاد في عمل الأدباء والأديبات. إلا أن أسامة يقف علي الشاطئ ولا يريد أن ينزل البحر، ليس خوفاً بل خجلا، وهذا عيب خطير فيه، فلا يصح بما يمتلكه من تجربة ولغة وأحاسيس ونظره واعية للأمور أن يخاف هكذا. إن المجموعة تانجو، وهي رقصة برازيلية في الأصل، وكأن أسامة يتراقص بنا علي ما تراه عيناه ويشعر به قلبه. يتراقص بين الحكايات البريئة بين المدرسة والبيت ومعكسر الجيش وساحات ومدرجات الجامعة وفناء المدرسة، إنها الذكريات والحنين للماضي الجميل، الحنين لكوب شاي باللبن صباحاً من يدي الجدة التي لا تكف عن النصيحة، حنين لصينية الرقاق بعد صلاة العيد ولا ينسي أن ينبه ان اصدقاءه وجيرانه المسيحيين سوف يلتهمونها معه، والغداء عصراً سواء كان مسلما او مسيحيا، فالحكاية عند أسامة ريان واحدة والجسد واحد والمشاعر واحدة، يقبض عليها أسامة ريان بعين مليئة بالأحزان، ودموع خجلة تخشي أن يراها أحد، لذلك تنزف هذه الدموع بين سطور المجموعة، دائماً تشم رائحة عرق أسامة ريان في قصصه، فهو لايتخلي عن دور الراوي المشارك في الأحداث والذي تقع عليه جميع الظروف في صالحه او ضده، الراوي واضح لا يتواري خلف الاساليب الكثيرة للمواراة، ولا يهرول خلف الحداثة او ما بعد الحداثة والتي لا أفهمها كثيرا، فهو يحكي، يتحدث في قصصه كما يتحدث معك في غرفة والده الكاتب الكبير أمين ريان، او هو يتحدث مع والدته الحاجة زكية، واسامة لا يخشي علي أسراره يطرحها ويلقيها أمام الجميع في سخرية بسيطة ولو قدر له استخدام سوط تلك السخرية لأصبحت قصصه سوطا يضرب الواقع ويتنبأ بالمستقبل. لكن كما قلت فهو يخشي هذه المغامرة، كما يخشي أن يغامر في الدخول في بحر الرواية حتي الآن، إنه يحكي عن مشاعره التي تداريها بدارن الشقق والمطابخ واسرار بئر السلم مع حبيبته او ابنته، احلام الشباب والمراهقة، حكايات ونصائح الامهات وخوف الآباء علي الابناء. قصة تانجو قصة تانجو التي تحمل المجموعة عنوانها عن عم احمد عازف الترومبيت، والذي يدور مع الفرقة النحاسية يؤدي السلام الجمهوري في المناسبات الرسمية، ولكنه يعزف في نفس الوقت آلامه، حيث يموت ابناؤه وعياله، فيركن إلي أحد الأركان يعزف لحنه الأثير والحزين، وتظهر القصة التعاون بين الموسيقيين رغم اختلاف أعمارهم مع بعضهم حتي تخرج الألحان، ويتوالي فقد عم أحمد لأبنائه ويصبح العزاء هو العزف علي أنغام التانجو. إنه الفقد والحب والتمزق الوجداني للبطل الراوي ولعم احمد، ويتحول البطل إلي عيل يلهو في الشارع ويقف علي الرصيف مع الاصدقاء وهم يشاهدون قرني الخطاط الماهر الذي يزين بخطه جميع واجهات ويفط المحلات، ما بين رقعة ونسخ وكوفي وثلاثي، إنه الكاتب هنا يعشق الخط مع ان قرني يغضب من تجمعهم، حيث يصبح خطه رحلة وحركة وفنا للمتفرجين، وان صديقهم ابراهيم قد ورث تلك المهنة الصعبة في عالم يكتب كل شيء بالكمبيوتر وبالأسماء الاجنبية. إن اسامة يشعر بالحنين والدفء في الخط العربي ويمثل له ولجيله عنصرا من عناصر الانتماء والثبات في مواجهة غول الغرب، ثم قصة جميل «عن رحيل الحبيبة الزوجة»، حيث الرعشة الناعمة التي انتابتني وانا اقرأ واتجول معه، ذلك الطالب المحب في مدراجات وساحة الجامعة، ويحمل الاثنان نغمات كارم محمود «والنبي يا جميل حوش عني هواك»، وعم جميل هو جرسون الكلية وخادم السينما أيضا، انها الذكريات، وكان من الممكن أن يقسم القصة بدلا من القفزات الزمنية التي دخلت علي هذا النص الناعم الحزين. الجنرال جعفر ثم ينتقل بنا لقصة الجنرال جعفر ذلك القائد المزيف الذي يرتدي بالطو عسكريا، إنه هنا يفهم ويلعب علي خوف الناس من اي شخص يرتدي الملابس العسكرية، انه خوف نحمله دائماً ونشعر به، فيتحول بسببنا ذلك الجنرال الجاهل إلي مصدر رعب وقوة، ويستمر في جبروته ويحكي عن امجاده وبطولاته في الحرب، لنكتشف في النهاية انه شخص تافه لم يري الجيش وانه لعب علي خوفنا، لا أعرف لماذا ذكرتني تلك القصة بما حدث معنا بعد ثورتنا المجيدة حيث اكتشفنا كل البلاهة والعته في تمجيد رؤسائنا وقادتنا مع انهم لم يستحقوا هذا، لكنه الخوف الذي يسكن قلوبنا فنصنع الابطال المزيفين ونترك الابطال الحقيقيين علي الهامش. ثم تعرج بنا القصص فنجلس في حضرة الخالة نعيمة التي تصبح وتد الاسرة وعصبها ونتيجة لحبها لزوجها تصبح المرادف لاسطورة حسن ونعيمة، وكان يجب ان يستغل اسامة ريان تلك الاسطورة في اللعب بها علي أرض الواقع، فهي تردد دائماً انها خبرة الحياة، إلي أن يتم المراد بين الحبيبين، نعيمة التي اصبحت سيرتها قصة حب خالدة، نفسها تدخل السيما، نفسها تشوف قصة حب، انه الاب هنا يريد لابنته ان تخرج مع حبيبها وخطيبها دون مضايقات اخوتها الذكور، فالاب وهو الحبيب السابق يفهم تلك المشاعر التي تملأ قلوب الشباب والشابات، وكان لابد ان يفرح ابنته بأن تخرج مع خطيبها، وقصة ( فايز) التي تحكي عندما كان جنديا ويلتقي مع الشويش علي الذي يهز اسمه وجسده الكتيبة كلها، لنكتشف ان اسمه لولو في الحي، انها احدي الحكايات بين المسلمين والمسيحين حيث الاكل واحد والعيد واحد وصينية الرقاق التي تقسم علي المجموعة، تلك المجموعة التي تقف في العزاء أيضا، فايز ابن جرجس الذي أخفي خبر وفاته في الحرب حتي تنتهي، والحذاء الابيض في القصة مثل حذاء اسطورة سندريلا حيث تستدل الاسرة علي ابنها عن طريق لولو او علي، وقصة «استاذتي» حيث العقل معقل الايمان، وهي استاذته اليهودية او المسحية التي تعلمهم ان هيلينا الاغريقية هي ايزيس المصرية وتطالبهم بالبحث عن اوزوريس مع حورس الابن ضد عمه ست. إن التخلف والعرق العفن اللذين يحملها هؤلاء الذي يرتدون ملابس واحدة، والذين يرفضون كل ما تعلمهم هذه الاستاذة، وعندما يحاول بحب وشجاعة الدفاع عن مدرسته واستاذته، لقي الضرب وتلقي هي مصرعها حيث تعلق شعرها بعجلات الكارتة بالدم بالعرق العفن القادم علي عقل وجسد الوطن، ثم قصة اعصار حسن الذي ينعي دائماً الزمن الذي ساوي بين الرءوس، مع انه لا يفهم قوة التراحم والزكاة ويخلط بين الايات القرآنية والخرافات، ودائما يزعق بقال الرسول، وعندما يأتي كي يدفع يثور ويلعن، وكل من يناقشه فهو علماني وفاسق، صاحب التاريخ الكبير في البلطجة، ويده لا تعرف من الورق الا الجرائد، لكن عندما تأتي فتاة جميلة والتي يشتهيها يسيل أمامها ويريل من فمه ويخرج النقود من جيبه، وفي حصار هذا الخطيب الذي يحاصر الأب كي يرتبط ويطلب يد ابنته، انه الاب الحنون الذي لا يريد ان يزعل ابنته، عندما تريد الاتباط بهذا الشاب، وجار العمر: ذلك الجار الفقير الذي يرث محل البقالة الذي يتحول الي سوبر ماركت فتبدأ أخلاقه وأخلاق ابنائه وزوجاته في التغير مع الجيران، ويصبح كل شيء حسدا وقرا، وفي المقابل يحب التباهي والحج كل عام كي يقابل نجوم المجتمع هناك، وبين هذا وذاك لا يريد ان يدفع معاش ارملة عامل لديه قد توفي. الحكيم من أجمل قصص المجموعة التي كان يجب ان يتوسع فيها اسامة ريان قصة «الحكيم» وهو هنا ذلك الغراب الذي عّلم الانسان كيف يواري جثته وعلم ايوب كيف يعالج جلد جسده، وعلم ارشميدس قانون الطفو، ومع ذلك فالانسان يتشاءم منه ومن نعيقه، ويسمي زوجته بالقحبة، انه هنا اكثر انسانية من الانسان ذاته، وقصة «بذلة» تلك البذلة التي تشتريها الزوجة لزوجها وهي مريضة وتعبانة فيجد نفسه يرتديها في عزائها، كي تراها اعين الاصدقاء فهي من اختيارها، و«الافرانكة» عن الجد الذي ينسي دائما، وزجاجة العطر ورائحتها وذكريات الايام الخوالي، و«عالم الفيونكات» بين فتاتين إحداهما كفيفة والاخري بكماء ولغتهما العجيبة امام محل يعرض ملابس داخلية ولغة الحوار بينهما وخجلهما وهو يراقب كل ذلك في انتظار صرف المعاش، والوزة ايام التجنيد مع عبد الحكم البخيل الذي يعشق البيبسي، والذي يفتي في كل شيء، والذي جاءته الوزة، ورغم بخله الشديد يتم التهامها من القائد والكتيبة بينما هو يبقي بسبب بخله وحيدا، وطقوس عبده وحيد امه والذي رفضت زوجته الزواج به قبل ان يتم طهارته، يقابل الراوي في الشارع، فيقف يتذكر كل الماضي بين فخذي عبده المفتوحة، واصباغ حيث نصبح جميعنا في شعوذة ودجل ولعب القردة منذ ولادتنا، و«بولوتيكا» والتي يصبح فيها العلم هو الحرية، والأبناء الذين لا يعرفون أن عندنا مظاهرات، وحديثه للمرآة أثناء خطوبة ابنته، ومحادثته للزوجة الراحلة في مرآة السيارة حيث تعطيه الموافقة، والغرق في شبر مية عند شرائه قميصا جديدا بعد رحيل زوجته، فهي التي كانت تعرف مقاسه وتضبط شكله امام الناس، والانوار عن روح وليفته وزوجته التي سكنت في روح زميلة له في عالم يشعر فيه بالوحدة وان تحل روح مضت إلي بارئها في روح تحيا الراوي والمروي عنه ان اسامة ريان منذ رحيل زوجته يروض نفسه علي الوحدة ويراقب الزمن، هذه القصص التي تشبه المذكرات، تلك المذكرات القابعة في آخر العقل وفي بئر القلب، تخرج الآن علي سطح الذاكرة وعلي ارض القلب، بشجن وحنين يتحدث وكأنه يخشي ان يفضح نفسه وانفسنا، فنحن كلنا نعيش هذا الهم والحزن والاوجاع، والحبيبة التي تروح ويلتهمها المرض اللعين، والابناء ومشاكلهم، والغرق في شبر مية عند شراء قميص او فردة شراب، هذه هي الحياة التي يعيشها اسامة ريان المتخفي بين الرواي والمروي عنه، إنه لا يخفي شيئا من حياته، يبوح ويتحدث مثل نسائنا وعجائزنا، يضحك ويحب ويمرح ويتزوج وتترقرق عيناه بالدموع عند لقاء الحبيبة وينفجر قلبه حزناً علي رحيلها، انه لا ينساها، حتي أنني أكاد اجزم انها قد كتبتها معه لذلك تحمل كل الوجع والألم. وأتمني في المجموعة القادمة ان يعي اسامة ريان كل ذلك وان يطرح كل هذه الاشجان جانبا ويخوض مغامرة جيدة ويتسلح برباعية عمنا صلاح جاهين: حاسب من الاحزان وحاسب لها، حاسب علي رقابيك من حبلها، راح تنتهي ولابد راح تنتهي، مش انتهت أحزان من قبلها؟ عجبي.