لا يبتعد المسرح المغربي كثيرا، من حيث أسئلته الإشكالية، عن المسرح العربي، من حيث كونه قد طُرِحَ، بدوره، ضمن إشكالية الهوية والنشأة والوجود، إذ خاض زمنا طويلا في الإجابة علي السؤال القديم الحديث: هل يوجد مسرح مغربي ذو جذور ممتدة في القدم؟، وهو السؤال الذي أفرز الكثير من الآراء التي تأرجحت بين التأكيد والنفي، وإن كان أكثرها ترجيحا قد انتهي إلي حل المعادلة بالقول إن المسرح المغربي بالمواصفات المعروفة للمسرح لم يظهر إلا في فترة متأخرة مستورَدا من الغرب، بينما الأشكال الفرجوية الشعبية من حلقة وبساط وسلطان الطلبة وسيدي الكتفي واعبيدات الرما...ما هي إلا إرهاصات كان بالإمكان أن تصير مسرحا لو تم تطويرها والاهتمام بها من منظور مسرحي، لذلك فهي في أحسن الأحوال أشكال ماقبل مسرحية Des Formes Pré-théâtrales. والانتهاء إلي حسم هذه المسألة، أفرز سؤالا آخر وهو: متي كانت نشأة هذا المسرح، سواء "المسرح المغربي" أو "المسرح في المغرب"؟، لتختلف آراء الدارسين من جديد بتقديم إجابات متضاربة، فهناك من رد النشأة باعتبارها بدايةً إلي هذه الأشكال الماقبل مسرحية، التي سماها الإنسان المغربي "مسرحا"، وشكل معرفته الأولي بهذا الفن عن طريق هذه الأشكال. وهناك من رأي البداية الصحيحة للمسرح المغربي في زيارات الفرق المسرحية المشرقية للمغرب، وتقديمها لعروض مسرحية باللغة العربية كان لها التأثير البالغ في ترسيخ هذا الفن في البيئة المغربية، ولو بشكل تقليدي. في حين أن هناك رأيا ثالثا اعتبر النشأة المسرحية المغربية مرتبطة بفترة تشييد مسرح "سرفانتس" بمدينة طنجة سنة 1913 (gran Teatro Cervantes)، الذي شهد تقديم عروض مسرحية فرنسية وإسبانية، وبالتالي، اعتبر أن النشأة الحقيقية للمسرح المغربي قد تمت انطلاقا من وجود هذه البناية المسرحية، وما وفرته من احتكاك بمظاهر المسرح الغربي. ولأن البناية المسرحية شاهد ماثل للعيان، ودليل مادي علي وجود ممارسة مسرحية فعلية، فإنها تصبح أكثر قوة في الإثبات من حيث التأكيد والمصداقية، إذ لا أحد بإمكانه المجادلة في كون هذه الممارسة التي نسميها "مسرحا مغربيا" أتمت بالاستناد إلي هذا الدليل قرنا من الوجود بالتمام والكمال، وبالتالي، يحق لنا الحديث عن مئوية للمسرح المغربي. ضمن هذه المسافة الزمنية الواسعة والعميقة في آن، وداخل عدد كبير من المنعطفات التي طبعت هذه المسافة وشكلت مفاصلها الكبري، انتعش الوجود المسرحي المغربي، بمحطات متعددة علي امتداد قرن من الوجود، فارزا أسماء وتجارب وأجيالا، منها العصامي، ومنها صاحب التكوين الذاتي، ومنها ذو التكوين الأكاديمي الرصين. لكن، علي الرغم من اختلاف هذه المشارب والمرجعيات أيضا، انصهر الكل في بوتقة الصرح المسرحي المغربي المتعدد الطوابق والأبعاد، والمتنوع التجارب والحساسيات، مما أهله أن يكون أفقا إشكاليا للسؤال النقدي، ومادة عريضة/ عميقة لاشتغال المقاربات. إن منعطفات كبري عديدة رسمت عمر المسرح المغربي، وعددت إشكالياته ومداخل البحث فيه، نتمثل بعضها في: منعطف النشأة والامتداد، ومحاولة التخلص من التجارب التلقائية البدائية، حيث التأرجح بين أشكال تقليدية، تلمس من خلالها المسرح المغربي إرهاصات وجوده، ونقط النشأة التي علي أساسها سيبني صرحه الفني، وأشكال مبتدعة بين محاولات الاقتباس والمغربة، خاصة علي يد الطيبين الصديقي ولعلج، إذ في فترة مبكرة أطل المسرح المغربي علي تجارب متنوعة من المسرح الفرنسي، كان النصيب الأكبر فيها لكلاسيكيات موليير، وبعضها من مسرح العبث أيضا، لافتتان الطيب الصديقي المبكر بها، حيث اقتبس عن صامويل بيكيت في انتظار غودو باسم "في انتظار مبروك"، واقتبس عن يونسكو أميديه أو كيف التخلص منه باسم "مومو بوخرصة"، وليمتد صرح المسرح المغربي أعلي في البنيان، بتراكم التجارب الرصينة، خاصة مع حركية مسرح الهواة، التي أنجبت محاولات التأسيس: المسرح التسجيلي التوثيقي مع أحمد العراقي، المسرح العبثي مع محمد تيمد، المسرح البريشتي الملحمي مع محمد مسكين، وأنجبت بعدها أوراق التنظير مع كل من عبد الكريم برشيد والمسرح الاحتفالي، والمسكيني الصغير والمسرح الثالث، ومحمد مسكيني ومسرح النفي والشهادة/ المسرح النقدي، ثم مع حوري الحسين ومسرح المرحلة..لتمتد التجارب والمحاولات والأجيال ببصماتها وحساسياتها المختلفة. منعطف التأسيس والتأصيل والتجريب والتنظير، وما صاحبه من نقاش محتد حول الهوية والصيغة المسرحية المتفردة. وهو النقاش المسرحي الدؤوب الذي تميز خصوصا بمحاولات التأسيس وأوراق التنظير المتحدث عنها أعلاه، باعتبارها الوجه الجدالي في المسرح المغربي التي شكلت ملامح الخطاب النقدي، والأرضية الفكرية اللذين قاما عليهما النقاش النظري حول المسرح المغربي بمختلف تجلياته ومراحله. منعطف التحول من الإيديولوجي إلي الجمالي وظهور حساسيات إبداعية جديدة بطروحاتها الفكرية واقتراحاتها الجمالية. حيث بروز محاولات جادة تكفر بخطاب الإيديولوجيا، وتعلن نفسها حساسية متميزة تبحث في أسس الصنعة المسرحية، وتمظهراتها الجمالية، وتركز اشتغالها علي ابتداع عناصر للتركيب الجمالي في العرض المسرحي، وتقديم موجة من المخرجين الذين قدموا رؤاهم وتصوراتهم وأساليبهم لأجل الانتصار للمظهر الجمالي للعرض المسرحي المغربي. منعطف التنظيم ومحاولة تمهين (أو مهنَنة) Professionnalisation الممارسة المسرحية، وتأطيرها ضمن تصورات احترافية واضحة ومحددة. منعطف الممارسة النقدية، وترشيدها في الإطار الأكاديمي، سواء في رحاب الجامعة أو مراكز البحث (مركز دراسات الفرجة مثلا)، وهنا يبرز الدور الكبير للدكتور حسن المنيعي وترجماته، وتكوينه لجيل من النقاد الأكاديميين الذين حولوا النقد المسرحي من مظهره التذوقي الانطباعي إلي ممارسة موضوعية رصينة قائمة الذات علي مستوي المنهج والمصطلح، وذات فعالية أكاديمية رقت بها إلي مصاف الممارسة العلمية. منعطف تعدد أوجه الممارسة المسرحية المغربية، وبروز المشهد المسرحي المركّب (مسرح احترافي للكبار والصغار بوجود طاغٍ، مسرح الشباب ومسرح جامعي بوجود لافت، مسرح مدرسي ولو بوجود مؤقت مرتبط بالمهرجان، مسرح الهواة وإن بوجود محتشم...). إلي غير ذلك من المنعطفات التي تشكل لحظات فاصلة في سيرورة المسرح المغربي، والتي تمنح نفسها للدارس باعتبارها مادة غنية للاشتغال والمقاربة. والتي لابد من الاعتراف أنها لا يسعها إلا تعدد في زوايا المقاربة والاشتغال لإدراك خصوصيتها وسماتها المميزة، لأنها سيرورة دائمة الجريان والتدفق، عنوانها الأسئلة المتجددة التي لا تفتر، وكلما اكتسبت أجوبة، شكلت منعطفات.