«التنظيم والإدارة» يتيح الاستعلام عن نتيجة مسابقة وظائف وزارة العدل    يونس: أعضاء قيد "الصحفيين" لم تحدد موعدًا لاستكمال تحت التمرين والمشتغلين    «الصناعات الهندسية» وجامعة بورسعيد يبحثان تأهيل الطلاب لسوق العمل    سعر طن الحديد اليوم الجمعة 7-6-2-2024 في المصنع وللمستهلك    «التنمية المحلية» في أسبوع.. تسليم مدفن صحي شبرامنت ومتابعة جهود «أيادي مصر»    قبل عيد الأضحى.. أسعار الأضاحي 2024 في الأسواق ومزارع الماشية    تموين الإسكندرية تشكل غرفة عمليات لمتابعة توافر السلع استعدادا لعيد الأضحى    رانيا المشاط تبحث مع وزير النقل الأذرى ترتيبات انعقاد لجنة التعاون المشتركة    الأمم المتحدة تدرج إسرائيل بالقائمة السوداء للدول المتورطة بإلحاق الأذى بالأطفال    زيلينسكي: الحرب الروسية ضد أوكرانيا نقطة تحول في تاريخ أوروبا    الأيرلنديون والتشيكيون يتوجهون لمكاتب الاقتراع في ثاني أيام انتخابات البرلمان الأوروبي    يورو 2024 – مدرسة هولندا الخاصة لغات.. لم ينجح أحد    ضياء السيد: حسام حسن غير طريقة لعب منتخب مصر لرغبته في إشراك كل النجوم    موعد أول أيام عيد الأضحى المبارك 2024 في مصر.. «كم يوما إجازة؟»    صدمته سيارة مسرعة.. الاستعلام عن صحة شخص أصيب فى حادث مروري بالهرم    100 لجنة لاستقبال 37 ألف و 432 طالباً وطالبة بامتحانات الثانوية العامة في المنيا    خلال ساعات.. تعرف على موعد نتيجة الشهادة الإعدادية فى محافظة قنا 2024    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى المنيب دون إصابات    استجابة لأهالي الحي السابع.. إزالة إشغالات مقهى بمدينة نصر    محمد صابر عرب: أهم ما نملكه التراث وعملت 20 سنة في إدارة وتطوير مؤسسات ثقافية    وزيرة الثقافة وسفير اليونان يشهدان «الباليه الوطني» في الأوبرا    مسئولة فلسطينية: الموت جوعا أصبح حالة يومية فى قطاع غزة    «8 الصبح» يحتفي بذكرى ميلاد الفنان الراحل محمود مرسي.. شارك في 300 عمل فني    دعاء للمتوفى في العشر من ذي الحجة.. «اللهمّ اغفر لأمواتنا ذنوبهم»    داعية إسلامي: أبواب الخير كثيرة في ذي الحجة ولا تقف عند الصيام فقط    «السبكى»: توقيع عقدي تعاون لتعزيز السياحة العلاجية ضمن «نرعاك في مصر»    علي عوف: متوسط زيادة أسعار الأدوية 25% بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج    المتحدة للخدمات الإعلامية تعلن تضامنها الكامل مع الإعلامية قصواء الخلالي    واشنطن تطالب إسرائيل بالشفافية عقب غارة على مدرسة الأونروا    التعليم العالي: إدراج 15 جامعة مصرية في تصنيف QS العالمي لعام 2025    خالد جلال ناعيًا محمد لبيب: ترك أثرًا طيبًا    سلوى عثمان تكشف مواقف تعرضت لها مع عادل إمام    ذا جارديان: "حزب العمال البريطانى" قد يعلن قريبا الاعتراف بدولة فلسطينية    لوكاكو يكشف إمكانية إنتقاله للدوري السعودي في الموسم الجديد    تعرف على فضل صيام التسعة أيام الأوائل من ذي الحجة    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الدائري بالقليوبية    خلاف داخل الناتو بشأن تسمية مشروع دعم جديد لأوكرانيا    قافلة طبية مجانية بقرى النهضة وعائشة في الوادي الجديد    ارتفاع حجم التجارة الخارجية للصين بواقع 6.3% في أول 5 أشهر من 2024    خبراء عسكريون: الجمهورية الجديدة حاربت الإرهاب فكريًا وعسكريًا ونجحت فى مشروعات التنمية الشاملة    مداهمات واقتحامات ليلية من الاحتلال الإسرائيلي لمختلف مناطق الضفة الغربية    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 7 يونيو 2024.. ترقيه جديدة ل«الحمل» و«السرطان»يستقبل مولودًا جديدًا    الإسكان: تم وجارٍ تنفيذ 11 مشروعًا لمياه الشرب وصرف صحى الحضر لخدمة أهالى محافظة مطروح    الأخضر بكامِ ؟.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري في تعاملات اليوم الجمعة 7 يونيو 2024    تفشي سلالة من إنفلونزا الطيور في مزرعة دواجن خامسة بأستراليا    افتتاح المهرجان الختامي لفرق الأقاليم ال46 بمسرح السامر بالعجوزة غدًا    مفاجأة.. دولة عربية تعلن إجازة عيد الأضحى يومين فقط    الأوقاف تفتتح 25 مساجد.. اليوم الجمعة    رغم الفوز.. نبيل الحلفاوي ينتقد مبارة مصر وبوركينا فاسو .. ماذا قال؟    ما قانونية المكالمات الهاتفية لشركات التسويق العقاري؟ خبير يجيب (فيديو)    عيد الأضحى 2024| أحكام الأضحية في 17 سؤال    ساتر لجميع جسدها.. الإفتاء توضح الزي الشرعي للمرأة أثناء الحج    مجلس الزمالك يلبي طلب الطفل الفلسطيني خليل سامح    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    حظ عاثر للأهلي.. إصابة ثنائي دولي في ساعات    إبراهيم حسن: الحكم تحامل على المنتخب واطمئنان اللاعبين سبب تراجع المستوى    في عيد تأسيسها الأول.. الأنبا مرقس يكرس إيبارشية القوصية لقلب يسوع الأقدس    بمكون سحري وفي دقيقة واحدة .. طريقة تنظيف الممبار استعدادًا ل عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في وداع مثقف استثنائي اسمه جورج طرابيشي
نشر في أخبار الأدب يوم 26 - 03 - 2016

عن عمر يناهز 77 عاماً، رحل المفكر والناقد والمترجم السوري الكبير جورج طرابيشي، صاحب المساهمات المهمة في مسيرة الثقافة العربية، وله العديد من المؤلفات التي أثارت جدلاً كبيراً منها: "عقدة أوديب في الرواية العربية، الرجولة وأيديولوجية الرجولة في الأدب العربي، رمزية المرأة في الرواية العربية" وغيرها من المؤلفات التي تسلحت بمنهجه في التحليل النفسي للأدب.
في هذا الملف يقدم الناقد شعبان يوسف بانوراما عن مسيرة جورج طرابيشي، كما اختار نماذج من كتاباته النقدية والقصصية المبكرة، وكذلك يقدم د. محمد سمير عبدالسلام مقالاً بعنوان "إشكالية النوع والتأويل الفرويدي للأدب والثقافة في فكر جورج طرابيشي".
لم تكن الكلمات التي ختم بها الكاتب والأديب والناقد والمترجم الراحل جورج طرابيشي مقاله الأخير "ست محطات في حياتي"، والمنشور في مطلع العام الماضي2015 إلا وداعا صاخبا ومثيرا لكثير من الشجون العامة والشخصية، وكذلك مرثية شديدة الحزن علي الأوضاع التي آلت إليها الحال العربية بعد ما يسمّي بالربيع العربي، هذا الرجل الذي يكتب من ستة عقود كاملة في كافة الشئون العربية السياسية والفكرية والاجتماعية والأدبية ،وكان يتعامل مع قلمه كسلاح يحمله لمواجهة كافة مايراه من اعوجاج هنا، أو خطأ هناك.
وعندما نقول إن قلمه كان سلاحا، فليس هذا علي سبيل المجاز، بل إنه حقيقة لا اشتباه فيها علي الإطلاق، ولم يكن هذا السلاح موجها للغير بشكل مطلق ووحيد، بل كان يوجهه لنفسه أحيانا في كافة المراجعات التي كان يجريها علي أفكاره وكتاباته ومواقفه ومسيرته بشكل حاد وواضح ومثير، لدرجة جلد الذات أحيانا، ولم يكن هذا الجلد وهو القارئ لتفاصيل علم النفس الفرويدي علي الطريقة المرضية والتطهرية، بل كان جلدا كاشفا ومكتشفا، وفاعلا علي نقد وتطوير الأفكار علي مكتشفات جديدة.
ولم تكن مراجعة الذات الفكرية والسياسية تلك حادثا استثنائيا، ولكنه كان متكررا ،وكما يوضح في مقاله السالف الذكر أن مشروعه الأوسع والأكثر انتشارا، وهو نقد كتاب الكاتب والمفكر محمد عابد الجابري "تكوين العقل العربي"، والذي استغرق من عمره خمسة وعشرين عاما كاملة ،جاء عبر مراجعة واسعة وعميقة ،ويحكي طرابيشي في ذلك المقال المهم والدال قصته مع هذا الكتاب، عندما كان يعمل في بيروت رئيسا لتحرير مجلة "دراسات عربية"، وكان الجابري يرسل مقالاته وأبحاثه إلي المجلة، فيسرع طرابيشي إلي نشرها في المجلة، حتي أرسل الجابري مخطوطة الجزء الأول من كتابه "تكوين العقل العربي" إلي الراحل بشير الداعوق صاحب ومدير دار الطليعة ،وأحالها الداعوق بالطبع إلي طرابيشي ، الذي أجاز نشرها بعد أن قرأها، وعند صدور الكتاب، كتب طرابيشي في المجلة دراسة تقريرية ووافية عن الكتاب، وقال رأيا مجملا في الكتاب، يؤدي إلي أن قارئ هذا الكتاب ستختلف حالته تماما بعد القراءة، بل إنه سيكون غير ذلك الشخص الذي كان قبل الكتاب، وعندما ترك طرابيشي بيروت تعبا من الحروب الأهلية الشعواء متوجها إلي باريس، لم يحمل من مكتبته التي تربو علي خمسة آلاف كتاب، سوي ذلك الكتاب المفضل لديه، ومعجم "المنهل" لسهيل إدريس، وهكذا أصبح الكتاب إحدي الأيقونات لدي طرابيشي، ويستطرد الراحل الكبير في حكايته المثيرة، حتي يصل بنا إلي محطة التحقق من صحة ما أرسله عابد الجابري من أفكار وأخبار في كتابه، خاصة ما يخص جماعة "إخوان الصفا"، وقد وصفهم الجابري كما هو معروفبأنهم كانوا يسيرون عكس المنطق وعكس ما أتي به أرسطو، هنا راح طرابيشي يبحث عن رسائل إخوان الصفا في كل مكان، حتي عثر عليها، وحكاية البحث عن الرسائل في حد ذاتها قصة مثيرة أخري، نتركها للقارئ في متن المقال الذي أعيد نشره عشرات المرات، ويستكمل طرابيشي حكايته،عندما راح يبحث عما استند إليه الجابري فيما ذهب إليه من أفكار وأخبار وتأويلات في كتابه، لم يجد أي طرابيشي إلا تزويرا أو ليّا لأعناق الحقائق لخدمة الفكرة الأساسية التي يريد الجابري إثباتها، ومن هنا راح طرابيشي يراجع نفسه بل يجلدها بعدما أجاز الكتاب وقرّظه بشكل رأي أنه بالغ بدرجة قصوي، ومن هنا ظلّ خمسة وعشرين عاما يراجع أفكار الجابري وأفكاره طوال هذه الفترة الطويلة، حتي يخرج لنا بموسوعته التي تؤرخ للعقل العربي في تطوره بشكل عام وتفصيلي.
وإذا كان قد حدث في سبعينيات القرن الماضي ، وكان جورج طرابيشي قد أصبح كاتبا ومفكرا وباحثا ومترجما مرموقا، فهو فعل ذلك عدة مرات قبل ذلك، ففي عام1964 كان قد نشر كتابه الأشهر "سارتر والماركسية"، وسرد في مقدمته التحولات الفكرية والسياسية التي لحقت به هو وجيله ، بل تحدث عن الأثر العميق الذي تركه المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عليه وعلي أقرانه وجيله من المثقفين الشوام والعرب بشكل عام ، وكانت أفكار سارتر في ذلك الوقت، بمثابة الفانوس السحري الذي اكتشفه المثقفون والكتّاب العرب، ليخرجهم من ماركسية كارل ماركس التي لوّثها جوزيف ستالين باستبداده وديكتاتوريته، وكان هؤلاء المثقفون اكتشاف طريقة للولوج إلي الماركسية ،حتي جاء سارتر بأفكاره العبقرية ،يكتب عن تلك المرحلة طرابيشيفي مقدمة كتابه "سارتر والماركسية قائلا :"كنا في سن الحماسة العاطفية، في السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة، حين دخلنا المعترك السياسي واشتركنا في أول مظاهرة سياسيةطلّابية لنا، كنا نعرف أين هي طريق الخيانة ،ولكننا لم نكن نعرف أين هي طريق السلامة الوطنية ،كنا نعرف أن الحاكم القائم لا يمت بأي صلة إلي الشعب، لكننا لم نكن نعرف بأي حكم نستبدله ،وكانت سورية آنذاك خارجة من حكم ديكتاتوري، حكم الشيشيكلي، وكان هناك ظاهر من ديمقراطية وصراع بين الأحزاب شديد، ولست أدري كيف أصبحنا اشتراكيين، وكل ما أعرفه أنني وجدنا أنفسنا علي حين غرة مؤمنين بالاشتراكية، أو بالأحري كارهين لانقسام المجتمع إلي طبقتين ،غنيّة وفقيرة، هل طالعنا الكتب الاشتراكية، هل قرأنا المؤلفين الاشتراكيين ؟ لا أعتقد أن شيئا من هذا قد حدث ، باستثناء بعض المقالات الصحفية السريعة، لكن حب العدالة جارف وعميق دوما لدي المراهق".
وكما وقع طرابيشي في خطأ تصديق أفكار وأخبار وتأويلات محمد عابد الجابري، وهو في عمر النضوج والوعي واليفاعة، نتيجة لعدم التحقق بشكل عميق وتفصيلي واسع، ثم اكتشف ذلك الخطأ الذي تداركه فيما بعد، وظلّ يكفر عنه سنوات بعيدة، فكان من الطبيعي أن ذلك الخطأ يقع فيه وهو في عمر الشباب، أي أنه ظلّ يتعرف علي الفكر الماركسي عبر مقالات صحفية سريعة وسيّارة، وكذلك مغرضة وأيديولوجية، حتي اهتدي هو وجيله إلي جان بول سارتر وأفكاره، وكل معتنقي الفكر الوجودي الفرنسيين، وكان من أوائل ترجماته كتاب "واقع الفكر اليميني" لسيمون دي بوفوار، والذي صدر عن دار
الطليعة عام 1963، والذي مزّقت فيه بوفوار كافة الأفكار البورجوازية العتيقة، وعملت علي كشف زيف وتناقضات الفكر اليميني في العالم ، وقدمت الكتاب بجملة دالة تقول فيها :"الحقيقة واحدة، أما الغلط فمتعدد ، لهذا فليس من قبيل الصدفة أن يتبني اليمين مذهب التعدد، والمبادئ التي تعبّر عنه أكثر عددا من أن تمكن دراستها كلها جديا، لكن المفكرين البورجوازيين الذين يمنعون خصومهم من استخدام مناهج ماركس ما لم يقبلوا بنظامه كله كتلة واحدة لا يتحرجون من الخلط بين أفكار مأخوذة عن شينجلر وبرنهام وياسبرز وكثيرين غيرهم، إن هذا المزيج يشّكل الأساس المشترك لعقائد اليمين الحديثة، وهو موضوع هذه الدراسة".
وبقدر ماكانت دراسة سيمون دي بوفوار قاسية علي اليمين الفرنسي والأوروبي في ذلك الوقت، إلا أن طرابيشي الذي كان قد بلغ الرابعة والعشرين من عمره، أي في كامل يفاعته وجموحه، كان يوجّه تلك الرسالة إلي اليمين العربي، والذي بدأ يعبث في ذلك الوقت علي أوتار عديدة، ومنها وتر الغزو الفكري، والأصالة بمعني الأصولية ،وبالطبع فهناك أقنعة عديدة كانت ترتديها الرجعية العربية في ذلك الوقت وما بعده، وكان طرابيشي يخوض حروبا فكرية دون هوادة ، ودون أي اعتبارات شخصية أو مجاملات كما يحدث غالبا في العالم العربي.
وليس من المعقول أن نستدعي وندرس ونعمل علي قراءة معارك جورج طرابيشي في مقال محدود مثل هذا، لأن تلك المعارك تحتاج إلي مجلد ضخم يرصد ويحلل ويقرأ تلك المعارك التي خاضها طرابيشي عبر ستة عقود كاملة ، كانت آخرها عندما وجه له رضوان السيد في صحيفة الشرق الأوسط اتهامات جزافية ،وربما تكمن خلفها نوازع طائفية، ردّ عليها طرابيشي بشكل مكثف، غير آبه بالتلويح بمسيحيته، فالرجل أعلن أكثر من مرة حياده الديني، وكل مايشغله هو البعد العروبي في هذه الأمة ، بعيدا عما هو مسيحي، وما هو إسلامي، وهو يسرد واقعة حدثت له في السجن، عندما عاداه المسيحيون والمسلمون في وقت واحد، لذلك طلب من إدارة السجن أن تنقله إلي سجن انفرادي حتي يرتاح من تلك الاتهامات الجزافية.
ولا تعني الكثرة الكاثرة لمعارك طرابيشي أنه كان يريد تلك المعارك ، ولكنه يعني ذلك العقل الجدلي والاستثنائي والمحاور والمثير كذلك، فهو أحد حاملي مشاعل التفكير والتثوير قبل التنوير، وسوف أستدعي معركة واحدة له عندما عقد في دمشق مؤتمراً حاشداً وكبيراً للأدباء العرب في 11 ديسمبر عام 1971، عندما كانت هناك عاصمة ثقافية عظيمة اسمها دمشق ،وشارك في هذا المؤتمر رهط من الأدباء والمفكرين العرب بأبحاث ودراسات كثيرة، منهم الدكتورة سهير القلماوي وخلدون الشمعة ومحمد دكروب ومحمد المبارك والبشير بن سلامة وعبد العزيز الدسوقي وغيرهم، ورأت مجلة الآداب البيروتية نشر تلك الأبحاث في يناير 1972، وتناول طرابيشي أربعة من تلك الأبحاث منتقدا بشكل حاد ثلاثة منها، واستثني محمد دكروب ، أما الباحثون الثلاثة فكانوا البشير بن سلامة من تونس، ومحمد المبارك من العراق وخلدون الشمعة من سورية ،ويكتب طرابيشي في مستهل تعقيبه أو دراسته قائلا :"وإذا ما استثنينا بحث محمد دكروب ،فإن الفجيعة بالبحوث الثلاثة كانت كاملة ، فقد كان الموضوع واضحا ومحددا : التعبير الفني في معركة المصير ،ولكن البحوث التي قدمت للمؤتمر ونوقشت في جلساته لم تستطع أن تستوعب حتي عنوان الموضوع المطلوب بحثه ،فقد انصرفت إلي معالجة مسألة التعبير الفني معالجة عامة وعشوائية في غالب الأحيان ،متناسية أن المسألة هي مسألة التعبير الفني في معركة المصير لا مسألة التعبير الفني في سماء المطلق".
وراح طرابيشي يفنّد أسبابه وأدلته في شجب غالبية ماجاء في الأوراق البحثية الثلاثة، والتي حادت أولا عن الفكرة الأساسية للمؤتمر ، ثم راح يكشف عن عوار بعض الأفكار التي طرحها الباحثون بكل ثقة ، ثم استطراد الباحثون في الحديث عن ماهو معروف ومألوف ومكشوف من قبل ،مثل أن يذهب الباحث من هؤلاء لرصد الأخطار التي تهدد العرب بعد كارثة 1967، أو أن يعرفنا أحد الباحثين بأن وسائل التعبير ليس مقصودا بها الشعر والقصة والرواية، ولكنها تشمل الفن التشكيلي والرقص والسينما والغنا، مما يستدعي سخرية طرابيشي من تلك الاكتشافات البائسة، والتي تحتاج إلي مراجعات شاملة.
بالطبع فدراسة طرابيشي في نقد الأبحاث منشورة في مجلة الآداب ، ولكننا تطرقنا إليها كنوع من التدليل علي صدقية الراحل الكبير في نقده للأحوال الثقافية العربية في عمومها، وهذه الصدقية لم تكن وليدة ظروف وملابسات قد طرأت علي طرابيشي في مرحلة معينة من تطوره ،أو من تطور الحياة الثقافية والسياسية والفكرية العربية ، بل إنها بدأت معه منذ أن بدأ يكتب مقالات نقدية في الأدب، وجدير بالذكر أن مقاله الأول هذا إن لم يراجعنا أحد كان منشورا في مجلة الأدب اللبنانية، في سبتمبر عام 1975، وكان طرابيشي في السابعة عشرة من عمره، وكان هذا المقال عن المجموعة القصصية الأولي للكاتب المصري بدر نشأت، وكان قد قدّم لها الكاتب أحمد بهاء الدين، وصدرت المجموعة عن دار الفكر بالقاهرة، وكانت تلك الفترة تتميّز بالتواصل المصري الشامي علي المستوي الثقافي، وكان بدر نشأت قد غامر بكتابة الحوار كاملا بالعامية المصرية، مسترشدا في ذلك الوقت بما كان الواقعيون ينشرونه، للدرجة التي وجّه الدكتور عبد العظيم أنيس نقدا حادا لنجيب محفوظ ، لأن يستنطق الشخصيات المتواضعة اجتماعيا في روايته "القاهرة الجديدة" بلغة لا ترتقي إليها ثقافاتهم، ومن هنا سادت أفكار واقعية خاصة في ذلك الوقت، وكان نشأت يجرّب تلك الواقعية، وراح أحمد بهاء الدين يقرّظ ذلك التوجه في الكتابة، مما دفع طرابيشي الشاب والجامح لتوجيه النقد لبعض ما جاء في الكتاب، فضلا عن كشف عن بعض الجوانب الإيجابية في المجموعة القصصية.
كانت تلك العقلية الجدلية والمتسائلة تعمل دون كلل ، فقد كتب طرابيشي بضعة مقالات أخري عن كتابات لميخائيل نعيمة، وعبد السلام العجيلي وغيرهم، وتلك المقالات لم تجمع بعد ذلك في كتاب مستقل، رغم نضوجها المبكر، ودلالتها المهمة في مسيرة جورج طرابيشي نفسه، والذي كتب كتابات مهمة للغاية عن نجيب محفوظ ونوال السعداوي وابراهيم عبد القادر المازني وسهيل ادريس وخليل حاوي وغيرهم من مبدعين وكتّاب عرب، وسوف نلاحظ أنه يناطح تلك القامات الكبري منذ بداياته الأولي، فهو في مقاله عن مجموعة "أكابر" القصصية لميخائيل نعيمة، والذي نشر في باب "النتاج الجديد" في مجلة الآداب عدد مارس 1957، يقول في استلاله :"عندما يقف ناقد أدبي ليصدر حكمه علي نتاج ما لأحد أدبائنا الكبار، فإنه ولا شك سيتهيب كثيرا، وخاصة إذا كان الناقد ليس له ما للمنقود من شهرة واسعة، وهذا ماحدث لي، فقد فكرت طويلا قبل أن أقدم علي نقد "أكابر" المجموعة القصصية الأخيرة لميخائيل نعيمة، وزاد في تهيبي هذا أنني لم أطلّع علي كثير من مؤلفات الكاتب السابقة ،وهذا ما يجعل نقدي ناقصا كثيرا ،والحق أن علينا عند النقد أن نأخذ نتاج كاتب ما ككل واحد، وهذا أقرّ سلفا بأنه ينقصني هنا".
إن هذا الشاب الذي كان ، يحترم نفسه إلي درجة كبيرة، ويحترم قارئه، معترفا بنقص مادته ، ومعترفا بأنه لم يقرأ كثيراً للمنقود، وهذا ما جعله فيما بعد يراجع نفسه دوما في صيرورة جدلية فاعلة في تطوير نفسه بشكل دءوب ومثمر، ورغم تلك الاعترافات إلا أن طرابيشي راح يوجه بعض أفكاره النشطة والذكية أدبيا في ذلك المقال ، ولم يتهيب أن يشاكس ناقدا كبيرا ومرموقا في ذلك الوقت وهو أنور المعداوي ،وكان المعدّاوي قد علّق علي توفيق الحكيم عندما كان الأخير قد أطلق مقولة "الأدب للحياة أو للشعب"، ورأي المعدّاوي أن علي الحكيم أن يستبدل حرف الجرّ "لام" بحرف جرّ آخر وهو "عن"، وهنا انبري الناقد الشاب جورج طرابيشي، لكي يوضح منطلقاته الجديدة، ليقول إن ذلك القول ليس إلا تقديسا للمقولات، ويوضّح بأن كثيرا من الكتابات التي كتبها مبدعون "عن" الشعب كانت ساذجة من فرط دعائيتها، ويستكمل طرابيشي نقدا رائقا وواعيا، أجزم بأنه كان أساسا لكل منطلقاته فيما بعد.
وجدير بالذكر أن طرابيشي كان قد نشر بضع قصص قصيرة آنذاك ،ونالت تلك القصص بعضا من الترحاب الشديد من بعض النقاد ، وعلي رأسهم الناقدة والمترجمة عايدة المطرجي ادريس ،وأعتقد أن طرابيشي قد أقلع عن كتابة القصص ونشرها بعد انشغالاته الجمة والواسعة ، حتي يكون أحد العقول العربية والفريدة علي مدي ستة عقود كاملة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.