على خطى جيرانها، السنغال تشهر الكارت الأحمر في وجه الجيش الفرنسي    جيش الاحتلال: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان وانفجار أخرى في الجليل الغربي    برشلونة يحسم موقفه من رحيل أراوخو إلى بايرن ميونخ    طقس اليوم: موجة حارة.. وعظمى القاهرة 35 درجة    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    الاغتسال والتطيب الأبرز.. ما هي سنن يوم «الجمعة»؟    الدولار يواصل السقوط ويتجه لتسجيل انخفاض أسبوعي وسط مؤشرات على تباطؤ في أمريكا    ارتفاع سعر الذهب اليوم في الأسواق    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 17 مايو 2024    شقيق ضحية عصام صاصا:"عايز حق أخويا"    حدث ليلا.. أمريكا تتخلى عن إسرائيل وتل أبيب في رعب بسبب مصر وولايات أمريكية مٌعرضة للغرق.. عاجل    «الأرصاد» تكشف طقس الأيام المقبلة.. موجة حارة وارتفاع درجات الحرارة    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    باسم سمرة يروج لفيلمه الجديد «اللعب مع العيال»: «انتظروني في عيد الاضحى»    استئناف الرحلات والأنشطة البحرية والغطس في الغردقة بعد تحسن الأحوال الجوية    دعاء تسهيل الامتحان.. «اللهم أجعل الصعب سهلا وافتح علينا فتوح العارفين»    موعد مباراة ضمك والفيحاء في الدوري السعودي    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    «قضايا اغتصاب واعتداء».. بسمة وهبة تفضح «أوبر» بالصوت والصورة (فيديو)    بسبب زيادة حوادث الطرق.. الأبرياء يدفعون ثمن جرائم جنون السرعة    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    كندا تفرض عقوبات على مستوطنين إسرائيليين بسبب انتهاكات    وزير الدفاع الأمريكي يؤكد ضرورة حماية المدنيين قبل أي عملية عسكرية في رفح الفلسطينية    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية الجمعة 17 مايو 2024    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    لبلبة: عادل إمام أحلى إنسان في حياتي (فيديو)    وقوع زلازل عنيفة بدءا من اليوم: تستمر حتى 23 مايو    بركات: الأهلي أفضل فنيا من الترجي.. والخطيب أسطورة    أضرار السكريات،على الأطفال    شبانة يهاجم اتحاد الكرة: «بيستغفلنا وعايز يدي الدوري ل بيراميدز»    الذكاء الاصطناعى.. ثورة تكنولوجية في أيدى المجرمين الجدد    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    يوسف زيدان يهاجم داعية يروج لزواج القاصرات باسم الدين: «عايزنها ظلمة»    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    سيد عبد الحفيظ ل أحمد سليمان: عايزين زيزو وفتوح في الأهلي (فيديو)    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد دكروب الگاتب الظاهرة
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 11 - 2013

يحتار المرء أمام قلعة محمد دكروب العملاقة، فأي الأبواب التي يصلح منها الدخول، هذا الكاتب اللبناني الذي رحل عنا في هدوء منذ أيام كان ظاهرة بالفعل، ربما يتوقف كثيرون أمام حياته الدرامية، وطفولته العابسة أو الصعبة، وخروجه من المدرسة قبل أن يستقيم له أي من الدروس التي يتعلم منها التلاميذ، وحقا هي حياة جديرة بالتأمل، هذا الطفل الذي تنقل في عدة أعمال ومهن كثيرة، حتي استقر عند مهنة السمكري "السنكري" كما يقول اللبنانيون.
في ظل كل ذلك كان يحصل علي ثقافته بين كل هذا الشقاء، وهو لم يستثمر حياته كما استثمرها آخرون، ولم يحولها إلي سلعة رائجة يكتب عنها القصص والحواديت والروايات، ولكن هذه الحياة كانت تفرض نفسها علي قلمه بين الحين والآخر، فتأتي حكاية هنا وطرفة هناك، حتي اكتملت لدينا فصول كاملة لهذه الحياة، تصلح لعمل روائي حقيقي، هذا العمل لم يكتبه دكروب كاملا، بل إنه تناثر بين سطوره وحروفه وذكرياته الكثيرة، وبأسلوبه العذب والمنساب تتسرب الحكايات بسيطة وسلسة، وفي ذكرياته عن صديق عمره محمد عيتاني يكتب دكروب عن لقاءاتهما في مدينة "صور"اللبنانية يقول : (دكان محمد دكروب السنكري، بعد الدروس يأتي محمد عيتاني إلي دكاني الصغير هذا، كما كان يأتي عدد من الطلاب والأصدقاء، وتدور الأحاديث، ونغرق في نسيج الأحلام، أحلام كبيرة تتعدي صور ولبنان لتشمل العالم العربي كله، فكم نسجنا من الخطط وطرحنا من الآراء الهادفة كلها إلي تحرير الوطن العربي كله من أقصاه إلي أقصاهمن الاستعمار والصهيونية والمستغلين، ...لا أقل ولا أكثر...ودائما كان يقطع علينا أحلامنا هذه صبي يريد أن ألحم له كعب ابريق التنك المفخوت، أو كهل يريد أن أصلح له قداحة الفتيل، أو صبية صغيرة يروي عنها محمد عيتاني هذه الطرفة : (كان دكروب واقفا في دكانه، وكانت فتاة صغيرة تقف بجانبه، تنتعل قبقابا، وتتطلع إلي "ببور كاز" بيدها وإلي السنكري دكروب، فسألها محمد : شو صار له هيدا؟، أجابت وقع علي الأرض وانفكشت إجره)، هكذا كان يحكي دكروب عن حياته، عبر آخرين، ولم يقم مناحة حول هذه الحياة التي كان يمارسها بجانب العمل الأدبي والفكري والسياسي، وله ذكريات فريدة واستثنائية تدور في هذه المرحلة الخصبة التي تكونت فيها معارفه وشخصيته ومنهجيته وبعده الانساني العظيم، فالذي التقي بدكروب سيدرك علي الفور أن هذا الرجل الظاهرة، العامل الذي أصبح رئيس تحرير أهم مجلة تقدمية في العالم العربي، وهي مجلة "الطريق"، هو رجل يجمع بين البساطة الحقيقية، والعمق الفكري، والعمق الانساني الذي يتجلي من خلال عباراته المفعمة بروح الدعابة والفكاهة أحيانا، وهو حكاء من طراز خاص جدا، جمعتني معه أكثر من منصة، أذكر أننا كنا في جلسة واحدة أثناء انعقاد المؤتمر الذي أقامه المجلس الأعلي للثقافة، وعندما كان يلقي بحثه، لم يكن متقعرا، ولم يلجأ إلي عبارات مركبة ومعقدة ومتحنجلة، بل كان يدخل إلي بيت الفكرة من أيسر الأبواب، وبعد ذلك يتنقل براحته في هذا البيت، حتي يكون قد شرحها بشكل رائع، وكان يمزج دوما بين الذكريات الخاصة التي جمعته مع من يتحدث عنهم، وبين كتاباتهم الإبداعية والفكرية، هكذا فعل مع يوسف ادريس ومحمد عيتاني الذي جمعتهما صداقة دامت أربعين عاما، وكذلك حسين مروة وكريم مروة، ونجيب سرور، ولطيفة الزيات والشيخ العلامة عبدالله العلايلي، إنه حكاء وناقد في الوقت ذاته، وتصلح كل الكتابات التي كتبها عن شخصيات أدبية وثقافية وفكرية وفنية لنصوص روائية حقيقية، ولكن هذا النوع من الروايات غير سائد في عالمنا العربي، ولكن يكفي أن تكون نصوص دكروب مادة أولية لتلك الروايات، وبالفعل استفاد البعض من أسلوب دكروب، وتنبع سلاسة هذا الاسلوب من كون محمد دكروب بدأ حياته كاتبا للقصة، وكان ينشر قصصه في مجلات الأديب والآداب والمكشوف والتلغرف اللبنانية، وكذلك له قصص منشورة في مجلة "قصص للجميع" المصرية، ومجلة النداء، ولذلك يتمتع دكروب بهذا الأسلوب الحكائي الممتع، بالإضافة إلي ذاكرته الحية، والتي تتحرك فيها الأحداث بقوة، وربما يعود إلي أوراقه أو مدوناته، او كتابات الآخرين، وهذا يؤكد علي قدرته وحرصه علي التدقيق، وعندما تتوه منه بعض الأحداث، يناشد الآخرين علي استدعائها، وهو لا يفوت معلومة خاطئة مرت به دون أن يصححها، ومن هذه الأخطاء التاريخية حكاية تاريخ حبس يوسف ادريس، وبالفعل كتب معظم من كتبوا عن سيرة يوسف ادريس ذكروا أن السلطات المصرية اعتقلته في أغسطس عام 1954، وأفرجت عنه في سبتمبر 1955، ويؤكد دكروب إن هذا التاريخ خاطئ تماما، إذ أن يوسف كان حاضرا في المؤتمر الثقافي الذي أقيم في بيروت، وفي سبتمبر عام 1954، وعندما عاد إلي القاهرة كتب في مجلة الرسالة الجديدة مقالا عن المؤتمر في عدد أكتوبر من العام نفسه، وعندما عدت إلي المجلة وجدت أن ماكتبه دكروب صحيحا، وكذلك هناك مقال آخر في المجلة عن مجموعته "أرخص ليالي"، وهكذا يسوق دكروب المعلومة التي استقرت في كل الكتابات التي تناولت حياة يوسف ادريس، ويتساءل دكروب عن السبب في هذا الخطأ الشائع الذي انتشر بقوة، ويعيد هذا الخطأ إلي الباحث الهولندي كوبر شوبك الذي اعتمد علي أحمد حمروش مؤرخ ثورة يوليو، وجدنا هذا الخطأ ينتقل بيسر ودون مراجعة إلا من محمد دكروب، حتي أن ناجي نجيب الناقد البارز في كتابه "يوسف ادريس الحلم والحياة "يسوق المعلومة كأنها إحدي حقائق التاريخ فيكتب (بدأت موجة الاعتقالات الأولي الواسعة ضد الشيوعيين في 31 مايو 1954، واعتقل ادريس في سياق الموجة التالية في أغسطس 1954، وذلك بسبب نقده لاتفاقية الجلاء)، ولا أريد أن أترك حديث دكروب عن ادريس دون أن أنوه علي أحد أسرار يوسف ادريس التي لم يذكرها أحد سوي دكروب، وملخص هذا السر، عندما التقي يوسف ادريس بدكروب في المؤتمر الذي نوهنا عنه في بيروت، وجد يوسف يجلس في حيص بيص، وأمامه أوراقه وأقلامه، وسأله دكروب عن ماذا سيقرأ في الندوة التي ستعقد في المساء، فرد عليه ادريس بأنه لا يعرف ماذا سيقرأ، فاندهش دكروب، وسأله :لماذا؟
فأجاب يوسف ادريس بأنه لم يكتب القصة بعد، وهنا ازدادت اندهاشة دكروب، فكيف أن يوسف ادريس لا يعرف ماذا سيقرأ في الندوة، وهي سوف تبدأ بعد ساعتين من لقائهما، وكانت إجابة يوسف ادريس أنه تناول القلم، ودخل فورا إلي طقس الكتابة، وراح فيما يشبه الغيبوبة الصوفية، وسرعان ما أفاق وقال لدكروب إنه قد انتهي من كتابة القصة، وهكذا كانت قصة "الطابور" وهي من أجمل ماكتب يوسف ادريس، وعندما قرأها نال استحسانا منقطع النظير، وكان الجمهور يقاطعه بين كل فقرة وأخري، وهذا كان مدهشا لادريس نفسه، خاصة أنه ألقي قصته بعد أحد خطباء وعلماء لبنان الكبار، وهو العلامة الشيخ عبدالله العلايلي، ولايفوتني أن دكروبا لم يسرد حكاية يوسف ادريس هذه اعتباطا، بل إنه جندها ليجري مقارنة نقدية بين مضمون الحكاية، والتوجه الانساني عند يوسف ادريس في الكتابة.
ولا تقتصر علاقة محمد دكروب علي يوسف ادريس فحسب، بل هناك عشرات العلائق التي تربط بينه وبين آخرين مثل محمود العالم وعبد العظيم أنيس ولويس عوض ولطيفة الزيات ورضوي عاشور ومني أنيس وغالي شكري، ولا ننسي أنه هو الذي اكتشف كتاب نجيب سرور النقدي "رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ" والتي كان يرسلها له نجيب سرور من موسكو، وينشرها دكروب في مجلة "الثقافة الوطنية" عام 1959، وينشرها في سلسلة كتاب الجديد عام 1989، ويكتب للكتاب مقدمة نقدية رصينة يصدر بها الكتاب، وهذه السلسلة التي كان يشرف عليها دكروب أصدرت عددا من الكتب والدراسات المهمة منها "الواقع والمثال مساهمة في علاقات الأدب والسياسة" لفيصل دراج، و "في البحث عن لؤلؤة المستحيل دراسة لقصيدة أمل دنقل" لسيد البحراوي، كذلك "دراسات في الاشتراكية المصرية" للمفكر أحمد صادق سعد، و "بيانات لمسرح عربي جديد" لسعدالله ونوس، وكما كان يفعل في مجلة الطريق، انسحبت دقته علي هذه السلسلة المحترمة، والتي تظل علامة مضيئة في مسيرة الفكر والنقد العربيين، ففضلا عن البيان التفصيلي بمسيرة الكاتب المؤلف، فكان دكروب يكتب مقدمة نقدية، بمثابة المرجع النقدي للكاتب والكتاب، فيكتب في مطلع كتاب سعدالله ونوس :"هذه الكتابات تتميز بأنها وليدة تجربة في الممارسة المسرحية، وليست من نوع تلك الكتابات الذهنية التأملية التي تخترع (نظريات) للمسرح وللعمل الفني إجمالا، بعيدا عن التجربة نفسها، وبوهم أن هذا المنحي التأملي يجعل تلك (النظريات) صالحة لكل زمان ومكان!!"، وهكذا يكون دكروب قد التقط الخيط الذي تمتد عليه جميع أفكاره فيما بعد، إنه عندما يبدأ ويلقي ببيت القصيد، يكون قادرا كما أسلفنا القول أن يتنقل بحرية وبجدارة في مساحات فكرية وثقافية وشخصية عديدة، وهو قادر علي إيراد بعض الطرائف الدالة، بين الأفكار الثقيلة والعميقة، وهناك أدلة لا تنقطع في كل ماكتب دكروب، وأريد فقط أن ألخص طرفتين دالتين بخصوص رفيق عمره محمد عيتاني، عندما كلفته إحدي دور النشر ليترجم مجموعة من القصص الهندية، علي شرط أن تصل عدد الصفحات إلي مائة صفحة، وبالفعل راح عيتاني يترجم القصص التي استطاع أن يحصل عليها باللغة الفرنسية، وبعد أن ترجمها وصل عدد صفحاتها إلي 60 صفحة، وراح يسأل جميع الأصدقاء عن قصص هندية باللغة الفرنسية، ولكنه لم يجد، وفي الصباح كانت المشكلة محلولة، وذهب إلي النشر، وسلمه الترجمة واستلم ال100 ليرة، وعندما سأله دكروب :كيف استطاع أن يحل المشكلة ؟، قال له :إنه حبس نفسه، وراح ليكمل النقص بنفسه، وأكمله بنفسه، وزعم للناشر أنها قصة هندية، ويقول عيتاني إنه ملأ القصة بالأفيال والفقر والمهرجا مما يعطي إيحاءات بأنها قصة هندية بالفعل، وكان عيتاني يدين لدكروب بكثير من الأفضال والأفعال الإيجابية، رغم أنه يصف هذه الإيجابيات بالإرهاب ولكنه إرهاب إيجابي، فعندما يتسلط دكروب علي أحد الكتاب يظل يطارده حتي يخرج ماعنده من درر وكنوز إبداعية دفينة، وهذا ماكان يفعله دكروب مع جميع الكتاب العرب، حتي تكتمل المادة الفكرية والثقافية والصحافية لمجلة "الطريق"، هذه المجلة التي كتب فيها أكفأ الكتاب العرب التقدميين، مثل محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ورضوي عاشور وحسين مروة وكريم مروة وحلمي شعراوي وسمير أمين وأنور عبد الملك، رغم أن المجلة لم تكن تعطي أي مكافآت، ولكن دكروب كان يعتمد علي محبة واحترام وتقدير جميع الكتاب العرب، بالإضافة إلي أن المجلة كانت تصل إلي حالة الصورة، وكان لديها دوما ما تقوله وتثيره، وأعدت ملفات مهمة عن أعلام عرب مثل قسطنطين زريق وعلي الراعي وتوفيق الحكيم وطه حسين وسعدالله ونوس ولطيفة الزيات وأدب المقاومة والتحولات الاشتراكية، وكان دكروب مشغولا طوال الوقت بهذه التحولات وله كتابات كثيرة في هذا الشأن لم تجمع في كتب حتي الآن، ورغم أن دكروب كتب كتابا عن تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني، إلا أنه لم ينتظم في أي عمل حزبي، ودوما كان يردد بأنه شيوعي علي طريقته، وهذه سمة في غاية الأهمية في شخصية وأداء محمد دكروب، حيث إنه هو الذي كان يلزم نفسه بنفسه، ولم يكن يتلقي أوامر أو تعليمات من حزب معين، وأؤكد أن تلك الطريقة قد خدمت القضية التي عاش من أجلها دكروب، أكثر من أن ينتظم في العمل الحزبي، ولذلك لم ينقسم علي نفسه وعلي تاريخه كما فعل كثير من الشيوعيين العرب، لدرجة أنهم تراجعوا عن أفكارهم الماركسية تحت أقنعة عديدة، والاقنعة العربية التي يتراجع بها المفكرون كثيرة وعديدة وذات ألوان وأصباغ كثيرة، ورغم أن محمد دكروب لم ينتظم طوال حياته في حزب شيوعي، إلا أنه كان يقول عن نفسه دوما، لو ظل واحد علي وجه الأرض يتمسك بالشيوعية فهو أنا، وهذه حالة نادرة الحدوث في عالمنا العربي، بعد أن خلع كثير من الشيوعيين أرديتهم أمام إغراءات المشاركة في سلطة القرار، أو أي أقنعة أخري، وحول هذا الشأن كتب دكروب دراسة في مجلة الطريق عام 1997 تحت عنوان (تساؤلات، وجديد التساؤلات بصدد "مشروع اشتراكي جديد")، وكانت المجلة قد عقدت ندوة موسعة حول هذا الموضوع، وفي هذه الندوة شارك عدد من المفكرين الاشتراكيين العرب ليجيبوا عن هذا السؤال الذي كان يشغل محمد دكروب طوال المرحلة الأخيرة، وهناك عدد ضخم من مجلة الطريق عن المناضل حسن حمدان "مهدي عامل"، نوقشت فيه جميع أطروحاته الفكرية المتعلقة بمستقبل الاشتراكية في العالم عموما، وفي العالم العربي بالأخص.
وإذا كان محمد دكروب قد برع في كتابة الدراسات عن شخصيات فكرية وأدبية وثقافية، هي التي شكلت الوجه العربي المضئ في الستين عاما الأخيرة، وضمنها سلسلة كتب منها "شخصيات وأدوار في الثقافة العربية"و "خمسة رواد يحاورون العصر" و"وجوه لا تموت " و"الذاكرة والأوراق"، وتضمنت هذه الكتب الحديث عن شخصيات عظيمة بالفعل منهم محمد الجواهري وسعد الله ونوس ولطيفة الزيات ونجيب سرور ونجيب محفوظ وطه حسين الذي توسع في دراسته وقراءته، وأمين الريحاني وعمر فاخوري ورئيف خوري وآخرون، إلا أنه كتب كتابا نقديا مهما تحت عنوان "الأدب الجديد والثورة "موضوعات عن الثورة الثقافية والموقف من التراث، وهي قضية كانت تشغله بشكل خاص، ودوما كانت تتسرب في كثير من كتاباته النقدية والفكرية، وفي هذا الكتاب كتب بحثا مطولا عن القصة العربية القصيرة بعد هزيمة 5 يونيو (حزيران)، واعتبر أن الكتابة هي نوع من المقاومة الإيجابية التي تكشف عن فداحة الحدث وكيفية تجاوزه، دون الوقوع في خطيئة المباشرة والتقريرية والكتابة التي تشبه البيانات، وكان دكروب دوما يحذر من انقلاب بعض الكتابات الإبداعية في المنعطفات التاريخية، إلي مجرد بيانات حماسية ركيكة، مما يضر القضية أكثر مما ينفعها، فالفن هو الأساس في قيامة أي عمل إبداعي، والمباشرة هي المقتلة الأولي للنص، كذلك أجري حوارا طويلا جدا مع أدونيس وأثار معه جميع القضايا الخلافية التي يمثلها أدونيس، وهذا الحوار مثمر جدا، وكانت الأسئلة صريحة، والإجابة واضحة دون لف أو دوران، فالاثنان يمثلان تيارين في الفن والثقافة والإبداع عموما، والاثنان ينتصران لقيمة الفن العليا، ولكن كل واحد بطريقته، لذلك جاء الحوار فريدا من نوعه، وفي الكتاب كذلك هناك عن السينما والشعر والرواية والقصة والصحافة، وهو كتاب علامة وضرورة في المكتبة العربية، ولا تكفي السطور السابقة علي الإلمام بمسيرة أحد العلامات المضيئة والمشوقة في تاريخ الثقافة العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.