قراء «جود ريدز» يعيدون إحياء الطرابيشي ربما غاب اسم جورج طرابيشي، في السنوات القليلة الماضية عن سخونة السجالات الفكرية والسياسية، لكنه حاضر في كتبه على "جود ريدز"، هذه المرة لن يكتب عن طرابيشي الأسماء المكرسة المعلومة التي تتكرر في مثل هذه الملفات، على أمل أن يكون هذا الملف بداية لنظرة أكثر وعيا للمنتج الهائل على "جود ريدز". هناك عالم من النقد ينمو وينضج على مهل على موقع التواصل الاجتماعي المعني بالكتب "جود ريدز"، الوعي الناتج عن مشاركة الأفكار في الكتب ونقدها، ويؤسس لحركة نقدية قد تبدو للناظر من بعيد أنها تتسم بالعشوائية، لكنها في حقيقتها تنتظم وتنتج عقولا جديدة قادرة على الاشتباك مع المنتج الفكري والإبداعي والمعرفي العربي والعالمي. ومثلما استطاع المجتمع أن يخلق مجالا عاما أكثر رحابة على مواقع فيسبوك وتويتر، فإن "جود ريدز" استطاع كذلك أن يتيح للجميع أن يكون ناقدًا وقارئا وأن يشتبك الكاتب والقارئ في ديناميكية فكرية تنتج بالتأكيد معرفة يمكن التأسيس عليها لاحقا. ربما غاب اسم جورج طرابيشي في السنوات القليلة الماضية عن سخونة السجالات الفكرية والسياسية، لكنه حاضر في كتبه على "جود ريدز"، هذه المرة لن يكتب عن طرابيشي الأسماء المكرسة المعلومة التي تتكرر في مثل هذه الملفات، على أمل أن يكون هذا الملف بداية لنظرة أكثر وعيا للمنتج الهائل على "جود ريدز". ونحن في "التحرير" سنبدأ مع هذا الملف وبعده تسليط الضوء على الكتابات النقدية والمراجعات المتميزة على "جود يدز"، آملين أن يخلق هذا الاهتمام أسماء جديدة في حقل النقد الذي جرى العرف أنه "يمر بأزمة"، ونحن نحاول أن نأخذ خطوة... عن كتاب "المعجزة أو سبات العقل العربي" كتب fahad في سياق قراءتي لكتاب طرابيشي "مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام"، قلت إن طرابيشي لا يؤلف الكتب ابتداءًا، وإنما هو كقارئ وناقد ينصرف إلى نقد أطروحة معينة، ونقده ليس صفحات معدودة وإنما كتب قد تتضخم لتصبح مشروعًا نقديًا، كما مع مشروعه "نقد نقد العقل العربي" الذي تصدى فيه لأطروحات الجابري حول العقل العربي. أحد الكتب التي أصدرها طرابيشي في نقده للجابري، كان "العقل المستقيل في الإسلام"، والذي عارض فيه فكرة الجابري حول أفول العقلانية العربية، وأنها تمت بفعل تأثير خارجي، بينما يرى طرابيشي أن استقالة العقل العربي الإسلامي تمت بفعل الذات، لا الغير. وفي سياق بحث أسباب هذا الأفول للعقلانية العربية، توصل طرابيشي إلى المعجزة كأحد هذه الأسباب، ولأن الجابري لم يتناول المعجزة في نقده، قرر طرابيشي عدم الانتظار حتى صدور الجزء الخامس من نقده للجابري وأصدر الجزء الخامس هذه السنة بعنوان "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"، فلذا طرح كتابه هذا عن المعجزة في عام 2008م. يقسم طرابيشي كتابه إلى أربعة أجزاء بفصول خمسة، يركز في الجزء الأول على فكرة أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان نبيا ً بلا معجزات مادية، وأن معجزته الوحيدة كانت القرآن الكريم، ويورد للدلالة على ذلك كل الآيات التي كانت ترد على المشركين في طلبهم المتكرر للنبي أن يأتي بآيات كما فعل الأنبياء الأولون، أما الجزء الثاني فيركز على نمو معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في التراث السني، متتبعا ً الكتب التي ألفت في هذا الشأن وأوصلت معجزات النبي إلى ثلاثة آلاف معجزة، فيما يخصص الجزء الثالث لمعجزات النبي والأئمة في التراث الشيعي، معللا غرائبية بعضها التي تفوق بكثير ما ورد في التراث السني، بانتفاء الواقع والإغراق في خيال بسبب الاضطهاد السياسي الذي عانى منه الشيعة، أما الجزء الأخير وهو أصغر أجزاء الكتاب، فهو مخصص لمحاولة تفسير سبب ظهور المعجزات وتناميها، حيث يرى طرابيشي أن سبب ذلك دخول غير العرب في الإسلام، وبما أنهم لا يجيدون اللغة العربية، لا تظهر لهم معجزة الإسلام القرآنية ويحتاجون إلى معجزات مادية، كما أن جزء من المعجزات استخدم للدلالة على الاتجاهات السياسية وتدعيمها، وإثبات الإمامة لدى الشيعة خصوصا، ويختم طرابيشي بدعوة إلى ثورة سماها كوبرنيكية -نسبة لعالم الفلك كوبرنيكوس- ضد تراث المعجزة هذا، لأنه يتسبب في استقالة العقل، وإيقافه عن التفكير والتدبر ما دام يقبل سهولة خرق النواميس الكونية من قبل بشر أو من أجل بشر. عن كتاب "هرطقات2" كتب أحمد أبازيد رغم كلّ مساحة الاختلاف التي تفرّقني عن جورج طرابيشي، إلّا أنّني توصّلت لقناعة هي أنّ أيّ كتاب عليه اسم هذا الرجل فهو يستحقّ القراءة وبقوّة، قدرته البحثيّة الجبّارة وتوسّعه وقدراته التحليلية تجعلك أمام مرقى من الكتابة تقول فيه: هذا ما أريد! يشكّل البحث المتعلّق بالعنوان الفرعي للكتاب "العلمانية كإشكاليّة إسلاميّة إسلاميّة" مع رؤيته حول "العلمانيّة كجهاديّة دنيوية" أكثر من نصف الكتاب بقليل، و هو عرض مسحي شامل لتاريخ المشكلة الطائفيّة السنية الشيعيّة، بجانبها المكتوب بالدرجة الرئيسيّة، وهو مفيد جدّا للمهتم بالموضوع، وبديهي أن طرح مسألة العلمنة كحلّ للمشكلة ليس اختياري وأجد أن القضيّة أعمق من مجرّد استخدام شعار. في البحوث الأخرى، لا يتخلّى جورج طرابيشي عن الممتع فيه ولا عن مساحة الصدام والنقد الدائم، فهو يستكمل نقده للطرح الإسلامي السياسي في "مسألة الخلافة" وعرضه التاريخي لها غاية تعريتها من المؤامرة والظلم، طبعا كان أتاتورك بطلا ومصلحاً ووطنيّا عظيما في نظره هنا يُنسى أنّه كان ديكتاتورا في الأساس! ثمّ مارّا بقصّته مع أدب الالتزام وسارتر ورحلته في الترجمة والنشر يتنقّل في نقده لشخصيّات فكريّة معروفة من غارودي الذي يرى أنّه في كلّ تنقّلاته حافظ على جوهر "وثنيّة النصّ الأوّل" و كان مجرّد ناطق باسم الأيدولوجيا لم يقدّم فكرا في حياته، إلى سمير أمين الذي يعترف له بفضله وعمقه وعبقريّته في التحليل إلّا أنّه ينسب معظم أطروحات وأحلام سمير أمين المتمثّلة بالبيان الشيوعي إلى الخرافيّة والخروج من التاريخ إلى صادق جلال العظم الذي يقول عنه إنّه لا يستطيع الكتابة إلّا متوجّها للخصوم فإن لم يجد خصومه اخترعهم، مستعرضا كتابه "ما بعد ذهنيّة التحريم"، و لا يخفى على أحد النقد اللاذع و الموجع الموّه للعظم، سواءٌ بما يقوله طرابيشي بدبلوماسيّة أو ما ينقله-ببراءة- من ردود قاسية على العظم، وجه النقد الرئيسي للعظم هو أنّه لا يقدّم فكراً بقدر ما يقدّم سجالاً لأجل السجال، وأنّه في مشروعه يحمل انتهازيّة ما و بعدا عن ماركس نفسه بهروبه من نقد الدين نفسه، الذي يجب أن يكون -حسب طرابيشي- أساس كلّ نقد حقيقي. أمّا عبدالرحمن بدوي الذي يقول عنه في البداية إنّه "من كبار الصانعين الفكريين للجيل العربي المعاصر" و له شخصيّا و أنّه "مالئ الدنيا و شاغل الناس" فإنّ استعراض سيرته الذاتيّة والاقتباسات التي يوردها منها بكلّ ما تحمل من لغة التخوين والتسفيه والشتائم والتصغير التي يشمل بها بدوي -حسب طرابيشي- معظم الأنتلجنسيا العربيّة المعروفة وحتى السياسيّين المعروفين (ليس جمال عبدالناصر أو النحّاس وحدهما) التي عاصرها أو تعامل معها بدوي، ويؤكّد طرابيشي أن إعجاب بدوي بالنازيّة -وتبنّيه لهذه الفلسفة بصبغة مصريّة- إضافة لانتماءئه الحزبيّ الذي تحوّل لديه إلى دين هما السبب في هذه العصبيّة واللغة التي لا ترى سوى صاحبها في الكتاب، كلّ هذا يجعل طرابيشي في نهاية مقالته يسحب عن كبير الفلاسفة العرب ما أصبغه عليه في البداية. في بحثه المميّز حول المسألة الكرديّة "الديموقراطيّة والقوميّة و الأقلّيّات"، المميّز لأنّه يستعرض تاريخ النضال الكردي والمجازر التي حصلت بحقّه وتطوّر التمثيل السياسي فيه في تركيّا بشكل خاص، دون أن ينسى ذكر أنّ هذه المشكلة لا تختلف كثيرا في العراق وإيران هذا الثلاثي الذي تقوم فيه المشكلة والحلّ، ذاكرا تلميحا و بين قوسين أنّ هناك دولة رابعة اسمها سورية هي طرف في الموضوع أيضا، دون أن نعلم إن كان هذا التهرّب من ذكر المشكلة الكرديّة في بلده سورية إلّا تلميحا سريعا هو مما يليق بالمفكّر النقدي المتحرّر من كلّ خيوط التحريم حتى لو أغضب كلّ مقدّسات المجتمع؟ في نقطة لا فتة أخرى نجد أنّ طرابيشي يتكلّم عن الديكتاتوريّة الفكريّة كأسوأ وأقسى أنواع الديكتاتوريّة، لافتة لأنّه في "هرطقات 1" يدعو صراحة وعلناً إلى "الديمقراطيّة النصابيّة" بمعنى أنّ الديمقراطيّة مخصوصة فقط بطبقة معيّنة متعلّمة من المجتمع، ولا فرق في العمق بين المسألتين. و في مقاله الآخر ذي الوجه السياسيّ أيضاً عن علاقة أوروبا بفلسطين تاريخيّا , سنجد استعراضا يستحقّ القراءة حول التحليل الديني لهذه العلاقة و المسح التاريخي للموضوع , حتى أنّه يتكلّم عن وعد بلفور كصادم للوعي الأوروبي بفلسطين قبل الوعي العربي , لأنّه حوّل فلسطين من قضيّة مسيحية - مسيحيّة إلى قضيّة يهوديّة , لا شكّ أنّ هناك جانبا من الفدرة على التفسير فيما قاله , و لكن هناك أسئلة منهجيّة كبرى حول حقيقة عامل الدين و الشعور بالذنب تجاه اليهود فقط في إنشاء دولة إسرائيل , يكفي الإشارة إلى المسيري في هذا الموضوع . في آخر مقالتين: "قصة الإنسان أو الحيوان الذي خلق نفسه بنفسه" و "الإلحاد" يظهر الوجه الصريح لجورج طابيشي المتبنّي لمناهج الفلسفة العقلانيّة والعلميّة والهارب من رحم الأديان بشكل صريح ومتقن الكتابة والتحليل وإن كان لا يخرج بجديد عن المعتاد في هذه الأبحاث. باختصار، الكتاب يستحقّ القراءة و كميّة الأسئلة و الجدل التي يثيرها ليست بالقليلة، عدا عن أسلوبه التحليلي واللغوي المفيد كذلك، ومن البديهيّ القول إنّ الكتاب الذي يستحقّ القراءة أكثر، ليس هو ذاك الذي لا تجد ما تخالفه أو تنقده أو حتى تنسفه فيه! عن كتاب "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" كتب Hesham كأي مفكر يحمل هماً معرفياَ تجاه قضايا يراها تمس جانباَ علميا أو فلسفياَ او لاهوتيا، يحاول الكاتب أن يتوجه بنقده إلى جذور الأشياء، مستعيناَ بمعاول منهجه النقدي مُعملاَ فيه شتى ضروب التحليل والتفكيك حتى يصل إلى مكمن مراده من عملية الاشتغال المعرفي، وليبنى على ذلك أطروحته الذاتية في قبال ذلك المعضل الفكري. جورج طرابيشي، تنقل كثيراَ بين المحطات الفكرية -حسب ماتشي به سيرته الذاتية- من ماركسية وقومية إلى نزعة تفكيكية خالصة يدعي فيها عدم انتماءه إلى مشرب فكري أو فلسفي بعينه، وكمترجم لأعمال فرويد في التحليل النفسي، يتضح مدى انسياب القراءة الفرويدية بين ثنايا نصه وسط معمة نص يدور حول المدونة الحديثية برواياتها وإشكالات مرسلها إلى متواترها , وحجية خبر الواحد ورواة الحديث وأسلوب الجرح والتعديل إلى علم الرجال وغيرها مما يتصل بعلم الحديث. من أولى الصفحات تتضح نزعة طرابيشي التفكيكية التي تحيل النص مواد أولية , ليخرج منها المضمرات الكامنة في ثنايا النصوص الحديثية التي أدت مع تكالب الزمن وتضخم المدونة إلى سلب العقل من وظيفته النقدية إلى تابع خاضع كل الخضوع للنص .هذا السلب لوظيفة العقل لم يحدث في يوم وليلة كما يقول طرابيشي ولكنه تأتى بشكل رئيسي من قلب محورية الإسلام من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث, الإنقلاب الذي جعل بدوره القرآن أسيراً لإملاءات الحديث بكل مايحتويه من الوضع والدس والضعيف والسقيم مما يتعارض مع نص القرآن بالأصل. ومع جعل الحديث مسلطاَ على القرآن , كان لابد أن يجرى تسييج الحديث بأسياج القدسية التي تجعله عصياَ على محاولة قراءته وإظهار عيوبه وإشكالاته.على الرغم من أن طرابيشي يجنح كثيراَ في تعريفه لدور الرسول كناقل لكلام الله لا يملك من الأمر شيئا ,مسقطاَ عنه جميع أدواره التشريعية,وفاصلاَ الرسول المبلغ عن الرسول الإنسان البشر , لغرض نزع رداء القداسة عن الحديث بإنه كلام بشر لا عن وحي من الله , أدى به جنوحه إلى إختزال الرسول كمبلغ لا أكثر لايملك حق الإجتهاد أو التصرف جاعلاً إياه مسيراً فاقداَ للإرادة التشريعية. مع ذلك، يظل الجهد المعرفي المبذول في الكتاب يحمل أهدافاَ معرفية أولها، محاولة الوغول إلى أسباب توثين النص وجعل العقل مكبوحا به، وإفساح القراءة النسبية للنصوص التي تتيح الخروج عن القراءة التقليدية النصية إلى قراءة تلائم الواقع لا منفصلة عنه، وأخيرًا معرفة مكانة العقل في حضارة مرتكزة على نص، بما يعطيه هذا النص للعقل من فسح للاشتغال والتنفس. الأمر الحسن في هذا الكتاب , أنه حسب طرابيشي -الكتاب ليس تبعاَ لسلسلة نقد نقد العقل العربي- ,وإنما كتاب منفصل عن السلسلة ,الجيد في ذلك أنه ابتعد عن المساجلة والمناكفة التي تدور بينه وبين الجابري ,لأنه طرابيشي في نقده للجابري قد يسف أحيانا كثيرة ويخرج عن النقد الابستيمولوجي إلى نقد شخصاني يؤمن بتآمرية الجابري ومركزيته بعيداَ كل البعد عن القراءة الحوارية الاختلافية المنتجة.