تعرف على شروط التقديم على وظائف العمل المتاحة في محافظة القاهرة    الوضع الكارثى بكليات الحقوق    بعد إعادة انتخابها ل4 سنوات مقبلة.. المشاط تهنئ رئيسة البنك الأوروبي: حافلة بالتحديات    عيار 21 يسجل زيادة جديدة الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 17-5- 2024 بالتعاملات المسائية للصاغة    رئيس COP28: العالم أمام فرصة استثنائية هى الأهم منذ الثورة الصناعية الأولى    25 ألف فلسطيني يؤدون صلاة الجمعة في الأقصى.. واستشهاد شاب بالضفة    رئيس وزراء سلوفاكيا مازال يرقد بالعناية المركزة بالمستشفى عقب محاولة اغتياله    الأونروا: أكثر من 630 ألف شخص نزحوا من رفح منذ السادس من مايو الحالي    بوتين: العملية العسكرية في خاركيف هدفها إنشاء منطقة عازلة    بعد 8 سنوات.. النني يعلن رحيله عن آرسنال (فيديو)    مباشر مباراة الهلال والنصر (0-0) في الدوري السعودي    جوارديولا عن التتويج بالدوري الإنجليزي: آرسنال لن يمنحنا فرصة جديدة    رئيس الاتحاد الفلسطيني يكشف تحركاته نحو تعليق مشاركة الكيان الصهيوني دوليًا    متابعة جاهزية اللجان بتعليم الجيزة استعدادا للشهادة الإعدادية    أبرزهم يسرا وسعيد صالح.. نجوم برزت عادل إمام وحولته للزعيم بعد نجاحهم فنياً    ليلى علوي في موقف مُحرج بسبب احتفالها بعيد ميلاد عادل إمام.. ما القصة؟    متحف البريد المصري يستقبل الزائرين غدًا بالمجان    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي    بعجينة هشة.. طريقة تحضير كرواسون الشوكولاتة    الإنتهاء من المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلى لمبنى المفاعل بمحطة الضبعة النووية    مؤتمر أرتيتا عن – حقيقة رسالته إلى مويس لإيقاف سيتي.. وهل يؤمن بفرصة الفوز بالدوري؟    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    تحديث جديد لأسعار الذهب اليوم في منتصف التعاملات.. عيار 21 بكام    إعلام فلسطيني: شهيدان ومصاب في قصف إسرائيلي استهدف مواطنين بحي الزهور    أوقاف البحيرة تفتتح 3 مساجد جديدة    جوري بكر تعلن انفصالها بعد عام من الزواج: استحملت اللي مفيش جبل يستحمله    أحمد السقا: يوم ما أموت هموت قدام الكاميرا    هشام ماجد ينشر فيديو من كواليس "فاصل من اللحظات اللذيذة".. والجمهور: انت بتتحول؟    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم: قد نتوجه لكونجرس الكاف بشأن مشاركة إسرائيل في المباريات الدولية    دعاء يوم الجمعة وساعة الاستجابة.. اغتنم تلك الفترة    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    مساندة الخطيب تمنح الثقة    تناولها أثناء الامتحانات.. 4 مشروبات تساعدك على الحفظ والتركيز    اندلاع حريق هائل داخل مخزن مراتب بالبدرشين    "واشنطن بوست": الحرب من أجل الحرب تلبي هدف نتنياهو بالبقاء في السلطة لكنها لا تلبي أهداف أمريكا    ما هو الدين الذي تعهد طارق الشناوي بسداده عندما شعر بقرب نهايته؟    ضبط سائق بالدقهلية استولى على 3 ملايين جنيه من مواطنين بدعوى توظيفها    المفتي: "حياة كريمة" من خصوصيات مصر.. ويجوز التبرع لكل مؤسسة معتمدة من الدولة    محافظ المنيا: توريد 226 ألف طن قمح منذ بدء الموسم    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    كوريا الشمالية ترد على تدريبات جارتها الجنوبية بصاروخ بالستي.. تجاه البحر الشرقي    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    كيف يمكنك حفظ اللحوم بشكل صحي مع اقتراب عيد الأضحى 2024؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    تفاصيل حادث الفنان جلال الزكي وسبب انقلاب سيارته    وفد «اليونسكو» يزور المتحف المصري الكبير    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» موضوع خطبة الجمعة اليوم    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    "حزب الله" يشن هجوما جويا على خيم مبيت جنود الجيش الإسرائيلي في جعتون    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    محمد عبد الجليل: مباراة الأهلي والترجي ستكون مثل لعبة الشطرنج    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مبكي الغرباء
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 08 - 2015

لا أتذكر كيف ظهر ولا من أين جاء، وجدته أمامي فجأة، قال كلاماً مبهماً، حاولت التملص منه ولكني لم أستطع، انحني وأمسك بيدي وأراد تقبيلها، كرَّر بمذلة: صدقني، لن يستغرق تصوير اللقطة سوي بضع دقائق، عليَّ أن أقف خلف المنضدة صامتاً وأنظر الي الحائط المقابل كأني أنظر في مرآة، بدا مثل شخصية منتزعة من رواية قديمة، أصلع، بعينين جاحظتين ووجه شاحب، يرتدي سروالاً فضفاضاً وقميصاً مجعداً بلا لون، اعتذرت مرة أخري وأخبرته أن لدي موعداً وقد أتأخر عنه، تشبث بيدي ثانية وطبع فوقها قبلة لزجة، رأيت فوق الجانب الأيسر من صلعته بقعة حمراء محاطة بالقشرة وبضعة خدوش، ظلَّ منحنياً لثوانٍ وحين رفع رأسه ونظر إليّ رأيت دموعاً في عينيه، قال انهم سيطردونه إذا لم يجد ممثلاً يؤدي هذا الدور وربما لن يعثر علي عمل لشهور، فمن أين سيعيش؟ ألا يستحق عطفي؟ من سينقذه إذا تركته في محنته؟ أضاف وهو يتظاهر بمسح دموعه: لقد أرسلتك السماء إليّ بعد أن يئست فلا تخيِّب رجائي. انتزعت يدي وقلت إنني سأنفذ ما يريد علي أن يتم ذلك بأقصي سرعة، تغيَّرت ملامحه فجأة واستدار وصرخ برجلين كانا يقفان علي بعد أمتار لكي يُحضرا معدات الإنارة وقال لآخر أن يُحضر صورة فوتوغرافية ويعلّقها خلفي ثم أعطي ملاحظاته للمصور وساعده في نقل حامل الكاميرا ووضعه بمواجهتي، دفعني بيد مختلفة عن تلك التي كانت تتشبث بي قبل لحظات وأمرني بالانحناء قليلاً حين أقف خلف منضدة العمل وأن أمسك بيدي اليسري مقصاً وبالأخري غليوناً، قلت إنني لا أُدخن كما أنني أمسك المقص عادة باليد اليمني، احتقن وجهه وزفر بنفاد صبر وقال أن ذلك هو ما مكتوب في السيناريو وعلينا أن ننفذه كما كُتب، لا يمكن تغيير ما أراده المؤلف، اقترب مني ثانية وقام بتعديل خصلات شعري وربت كتفي كأنه يمسح غباراً، رأيت بريقاً مختلفاً في عينيه وتعبيراً صارماً علي شفتيه، أضاف أنني لن أؤدي فعلاً حقيقياً، سأتظاهر بالتدخين ولن أقص قطعة القماش، وضع علبة تبغ أمامي وبكرات خيوط وكوب شاي وأقلاماً ثم سار بخطوات زئبقية واختفي، جاء رجل آخر وعلَّق ميكروفوناً في السقف وآخر فوق المائدة، كان بديناً، ببدلة عمل زرقاء، يتحرك ببطء كأنه نائم، سألته عن الرجل الذي توسَّل بي حتي رضخت فقال إنه مدير الانتاج، أضاف بعد صمت قصير: لا تحزن ولا تشعر أنك خدعت، هكذا هو، يصل إلي ما يريد دائماً، لو استمررت في الرفض لدقائق أخري كان سينحني ويلعق حذاءك، كانت المنضدة تلتصق بالجدار الأيسر للدكان ويفصلها عن الباب الخارجي خطوتان وعند الباب وضعت باتجاهي ثلاثة مصابيح، ضؤوها وهاجّ وحار، رفعت يدي إلي أعلي، حاولت أن أري مَن يقف خلف المصابيح، لم أبصر سوي ظلالٍ سود، قلت: لن أستطيع الوقوف هكذا لوقت طويل، لا يمكنني التنفس ولا النظر، ردت عليَّ همهمات من مكبر صوت: لا تهتم، ستعتاد علي ذلك، ولأول مرة منذ دخولي إلي الدكان انتبهت إلي وجود امرأتين في الجانب الآخر، تجلسان علي أريكة صغيرة، رأيت قربهما ماكينة خياطة وكومة ثياب وعلي الجدار خلفهما رأيت صورة رجل يشبهني، كانت إحداهما في حوالي الخمسين، نحيفة، ترتدي ثياب حداد، عيناها سوداوان كبيرتان وشعرها أشيب ينسدل في خصل مجعدة علي كتفيها، ابتسمت برقة كأنها تواسيني، أما الأخري فكانت شابة في حوالي العشرين، ذات وجه عريض وشعر كستنائي، لم تنظر إلي، بدت ضجرة، شفتاها ترتعشان ويصدر عن تنفسها ما يشبه الصفير. ظهرت كاميرا خلف المصابيح وأمرني مكبّر الصوت أن أمسك بالمقص وأرفع الغليون نحو فمي كأني أدخِّن ثم صاح: سكوت، حلَّ صمت مريب وتقدمت الكاميرا باتجاهي حتي كادت تلامس أنفي، رأيت ظلال رجل خلفها، رأيت أصابعه تتحرك بغموض كأنها تنقل لي ملاحظة لم أفهمها، ابتعدت الكاميرا تدريجياً ثم انطفأت المصابيح وظهر رجل يرتدي معطفاً خلفها، كان هو المخرج، سألته: هل أستطيع الذهاب الآن؟ ردَّ بخشونة: إلي أين؟ ما تزال هناك لقطات أخري، قلت: ولكن الرجل القصير قال لي انها لقطة واحدة لا غير، أُضيئت المصابيح ثانية وأخبرني مكبِّر الصوت أن أجلس علي الكرسي وأتظاهر بالنوم، صرخت: أنا لست ممثلاً، أنا عابر سبيل قادته الصدفة إلي هذا الزقاق، هل ارتكبت خطيئة حين حاولت اختصار المسافة إلي الشارع العام؟ ما ذنب الرجل الذي ينتظرني هناك؟ عليَّ أن أعطيه مبلغاً من المال، هو مريض ومتقاعد ولديه أطفال، قال المخرج: هذه التفاصيل لا تعنيني، اكمل مشاهدك واذهب إلي حيث تريد، أضاف مكبر الصوت: اجلس وتظاهر بالنوم، اغمض عينيك واترك يديك مثل جناحين علي جانبي الكرسي. أما المرأة ذات الشعر الأبيض فقالت حين التفت إليها: لا جدوي من الاحتجاج، إفعل ما يريدون، لن يدعوك تذهب. وارتسمت علي شفتيها ابتسامة المواساة ثانية، جلست علي الكرسي وتظاهرت بالنوم، انطفأت المصابيح بعد قليل وقال المخرج أن اللقطة التالية تصورني وأنا جالس أيضاً، أشرب القهوة وأدخن، وضع أحدهم أمامي فنجاناً فارغاً وقدح ماء ثم أُضيئت المصابيح.
بعد خمس ساعات لم أعد أتذكر كم مثلت من اللقطات، كنت أتحرك كالسكران وأنفذ ما يطلب مني كلما انطفأ الضوء وأُضيء، لم أعد أتذمر أو أحتج، احتملت بصبر حرارة المصابيح وجو الدكان الخانق، كانت الأصوات التي تأمرني تأتي جميعها من الظلام، من خلف المصابيح، كانت تصرخ بي وتقرّعني وتشتمني حين أُخطيء، استجبت صاغراً ولم أرد عليها ولا مرة. لم اعرف ما هو الوقت حين قال المخرج: انتهت مشاهد اليوم، ربما اقتربت الساعة من منتصف الليل، كنت جائعاً ومتعباً، بحاجة إلي أن استحم وأنام نوماً عميقاً. حملَ المصورون ومساعدوهم الكاميرا والمصابيح والأسلاك وأشياء أخري كانت مبعثرة في الزقاق واختفوا خلال دقائق، تركوا خلفهم الصمت وأكياساً ممزقة وقشوراً وأوراق جرائد، جاءتني المرأة بقدح ماء، رأيت الابتسامة نفسها علي شفتيها، قالت: حان وقت العودة إلي البيت، سألتها هل تريد أن أوصلها اليه، هل هو قريب؟ اكفهرت ملامحها واختفت الابتسامة، أضفت: لا يمكنني أن اتركها لتمضي وحيدة مع ابنتها في أزقة مظلمة ومخيفة فصرخت بغضب: وإلي أين تريد أن تذهب الآن، لا بارات ولا مقاهي، المواخير كلها مغلقة، قلت: أريد أن أذهب إلي بيتي، انفجرت وظلت تردد: لستَ سكيراً بائساً فقط بل مجنون، لقد دمَّرت الخمرة عقلك، متي تكف عن تخريب حياتي؟ ألا ينبغي أن تخجل قليلاً، تركتني أتعفن مع ابنتك المقعدة أمام أعين الغرباء وتحت نار المصابيح كي تحقق نزوة راودتك أن تكون ممثلاً، يكفي هذا، لم أعد أحتمل، بدأت تبكي وتحوَّل كلامها إلي ما يشبه الهذيان بجمل متقطعة مع إشارات بيدها وتجعّدات علي وجهها ودموع ومخاط. شاركتها الفتاة في البكاء أيضاً، لاحظت أنها تغطي قدميها بملاءة ممزقة، بقيت صامتاً أحاول فهم ما يجري ولكني لم أستطع، بعد قليل كنّا في الخارج، حملت الفتاة علي ظهري، كانت نحيفة وبلا ساقين، ألصقت فمها بأذني وظّلت تغمغم طوال الطريق، سألتُ المرأة التي ظلَّت تسير خلفنا: أين يقع البيت؟ قالت أنه يقع فوق الدكان ولكن بابه يقع في زقاقٍ آخر، كان الدكان هو مدخل البيت ولكننا اضطررنا لتحويله إلي ورشة خياطة بعد الحرب حين أصبحتَ بلا عمل، روت لي قصصاً أخري عن حياتي ونحن نسير في الظلام، قصصاً مشتتة وطويلة، استمر سيرنا في أزقة متداخلة وكئيبة لأكثر من ساعة، قلت لعلنا ضللنا الطريق، قالت: لا، هذا طريقنا المعتاد ولكنك لا تتذكر، هززت رأسي وقلت: لا أتذكر ما قلته أنتِ مثلما لا أتذكر حياتي السابقة إن كان لها وجود، كلما أتذكره هو أنني كنت في طريقي لرؤية صديق ما وحاولت اختصار المسافة فمررت بالزقاق حيث أمسك بي مدير الإنتاج ثم توالت بقية الأحداث التي تعرفينها، يحدث للمرء أن ينسي وقائع حياة واحدة حين يفقد الذاكرة وليس حياتين أو أكثر ثم سألت نفسي السؤال التقليدي من أنا؟ ولكنه ظلَّ بلا إجابة.
لم يكن للبيت مدخل ولا باب، وجدنا سلماً خشبياً من الذي يستعمله مصلحو الكهرباء مركوناً علي حائط، صعدت المرأة أولاً، فتحت نافذة في أعلي الحائط واختفت ثم لحقتُ بها بعد قليل ولكني توقفتُ في المنتصف، ازداد ضغط يدي الفتاة علي رقبتي وبدأ السلم يهتز، لم أعد قادراً علي التنفس، أغمضت عيني وتوقعت أن أسقط بعد لحظة، تحوَّل أنين الفتاة إلي بكاء ثم إلي صراخ وبدأت أصرخ أنا أيضاً، أخرجت المرأة رأسها من النافذة، سألتني: لماذا أصرخ؟ لماذا أتصرف كالمجانين في منتصف الليل؟ ثم مدّت يدها ورفعت الفتاة، وجدت نفسي في غرفة صغيرة حين قفزت إلي الداخل، فيها سرير لشخصٍ واحد ومنضدة وكرسيان وعلي الحائط صور لرجل يشبهني ولأشخاص آخرين، كانت الصور موشحة بالأسود وتتدلي منها أو تعلوها باقات زهور يابسة، خرجت من الغرفة فوجدت ممراً يؤدي إلي غرفة أخري فيها سرير كبير اضطجعت الفتاة فوقه ودولاب ملابس له باب واحدة عليها مرآة، كانت الغرفة تسبح في ضوء أزرق باهت، رأيت المرأة تخلع ملابسها أمام المرآة، سألتها عن لون المصباح الكئيب فقالت إن الفتاة لا تستطيع النوم الا إذا أُضيء ثم ابتسمت بغموض وأضافت: لا تهتم، ستنام بعد قليل وسنطفيء المصباح، فتحتْ الدولاب لتضع ملابسها فرأيتُ بعض ثيابي فيه، ليست ثياباً تشبه ثيابي بل هي ما كنت أرتديه من قبل، ذهبنا الي المطبخ الذي يقع في نهاية الممر، وضعت أمامي صحناً فيه بقية سمكة مقلية، قلتُ بامتعاض: سمك بعد منتصف الليل، هل هذا معقول؟ قالت: أكلتَ نصف السمكة بالأمس وعليك أن تكمل نصفها الآخر، ليس لدي طعام غير السمك، جلست أمامي، أخرجت علبة سجائر وبدأت تدخّن وتنظر إلي وجهي دون أن تتكلم، في عينيها تساؤلات وحزن وحولهما هالتان حمراوان غريبتان، ذهبت لتنام قبلي، كان الضوء الأزرق في الغرفة مطفأ حين عدت وكان الباب مقفلاً من الداخل، ذهبتُ إلي الغرفة الأخري، تمددتُ علي السرير بملابسي ثم نمت بعد قليل، رأيت في نومي كوابيس لا نهاية لها عن رجل ضائع، حائر بين عالمين، يتجول وحيداً في شوارع مظلمة، استيقظت عند الفجر، كنت عارياً، لا أدري متي خلعت ملابسي، نهضت، أغلقت النافذة ونمت ثانية.
مرّت الأيام التالية ببطء، بدت طويلة ومملة كأن تفاصيلها استنسخت عن أيام سابقة، لم نهبط إلي الأرض ثانية، اختفي السلم وكانت المرأة تشتري ما نحتاجه من طعام من بائع جوال يأتي في المساء، لم أعترض علي ما آل اليه وضعي، لم أجد سبباً للاعتراض، أنام واستحم وأأكل وأشرب كأساً بين حين وآخر دون مقابل، هناك كتب ومجلات أتصفحها أيضاً، معظم أوقاتي أقضيها مع الفتاة، أحكي لها قصصاً أو أطعمها أو أصغي الي أنينها الذي يمزج بين الضحك والبكاء محاولاً تفسيره، كنت أجلس أمام النافذة أحياناً وأنظر إلي جدران عالية لا شبابيك ولا أبواب فيها، لم تكن لي مع المرأة أية علاقة، كنا ننام منفصلين، لا نتحدث إلا قليلاً، تقضي معظم أوقاتها في المطبخ، تعد الطعام أو تخيط ثياباً أو تطعم العصافير التي تحط علي النافذة، تأتي أحياناً إلي غرفتي، تجلس لتدخن وتنظر معي إلي الجدران العالية أو لتروي لي قصصاً موجزة عن صور الأشخاص التي تحيط بنا، تفعل ذلك بآلية وبلا انفعال، أشارت مرة إلي صورة رجل في ثلاثينياته وقالت إنه شقيقي الذي قتل في حرب الثمانينيات، نظرت إلي صورة فتاة ذات عينين تشبهان عينيها في مرة أخري وقالت أنها ابنتي، قتلت في انفجار سيارة مفخخة قبل سنتين وهو الإنفجار نفسه الذي قطعت فيه ساقا الفتاة التي جئت بها من الدكان، أما الصورة التي تجاورها فهي لإبنتي الأخري التي اختطفت ووجدت جثتها بلا رأس في خرابة عند أطراف المدينة، أشعلت في إحدي الليالي شمعة قرب صورة وبدأت تناجي الشاب الذي فيها بصوت خافت، قالت إنه ابن شقيقها وقد قضي غرقاً، كانت الصور جميعها لقتلي، حتي صورة الشيخ الكئيب في الوسط كانت لأبيها وقد قتله لصوص ليسرقوا كيساً كان يحمله، أرواح الموتي ظلت تحيط بي من كل جانب وبدأت أتخيل أنني ميت أيضاً، مجرد صورة ما لشخصٍ من الماضي، صورة لرجلٍ فقد ذاكرته.
أيقظني صوت الرعد في أحد الأيام، نظرت من النافذة، السماء مثقلة بغيوم كالحة، لا شمس وثمة ريح قوية تهز الجدران التي تواجه النافذة، رأيت باب الغرفة الأخري مفتوحاً والمصباح الأزرق مضاءً علي غير العادة نهاراً، لم تكن المرأة في الغرفة، ذهبت إلي المطبخ فلم أجدها ثم ذهبت إلي الحمام ولم تكن هناك، عدت إلي الغرفة، الفتاة وحدها تستلقي في السرير، عارية ألاّ من ملاءة تغطي ساقيها المقطوعتين، جسدها أزرق ببشرة صقيلة كأنها من رخام، بدت لي أقصر وأنحف من ذي قبل، جلست علي مقعد قربها، لم تكن تتنفس، عيناها مفتوحتان ولامعتان مثل ماستين وعلي شفتيها ما يشبه رغوة يابسة، بعد دقائق أدركت أنها ميتة، تري هل هربت المرأة حين رأتها هكذا؟ ولكن إلي أين؟ انتظرت لساعات قرب الجثة لا أدري ماذا أفعل، غطيتها بالملاءة، جلبت باقة زهور اصطناعية ووضعتها قرب رأسها، أشعلت شمعة وكنت أذهب إلي النافذة كلما سمعت صوتاً غريباً، ظلَّ الزقاق خالياً، لا سلَّم قرب الحائط، لا مارّة، بعد الظهر توقّف سقوط المطر، سمعت صوت رجل تحت النافذة، سألني هل أريد خبزاً، قلت: لا، أريد أن تساعدني لأهبط إلي الأرض، لديَّ فتاة ميتة هنا، لم يرد، اعتقدتُ أنه لم يفهم ما قلت ولكنه اختفي وعاد بسلّمٍ بعد دقائق، صعد ومعه كيس فارغ، تصرّف بتلقائية كأن ذلك جزء من عمله اليومي، مسح جسد الفتاة بمنشفة مبللة وسكب قطرات من العطر فوقه ثم ساعدته في حشره في الكيس وقام بخياطته، هبطنا الي الأرض وتناوبنا علي دفع العربة نحو مقبرة قال أنها ليست بعيدة، لم نجد أحداً هناك عندما وصلنا قبل الغروب، تهنا وسط تلال من الآجر والشواهد المهدمة، وحده صرير العربة كان يتردد حولنا، خوّضنا في برك الماء التي تركها المطر حتي وجدنا حفرة مهجورة، أنزلنا الكيس المبلل إليها وواريناه بالطين والأعشاب وقطع آجر انتزعناها من قبور أخري، أعطيت للرجل بعض النقود التي وجدتها قرب سرير الميتة واحتفظت بالباقي، وقبل أن يذهب طلبت منه أن يدلّني علي طريق العودة إلي البيت فوصف لي طريقاً مختصراً ولكنه صار مثل المتاهة حين سلكته، بقيت أدور في الأزقة وحيداً، أتعثَّر وأطرق أبواباً متشابهة حتي يئست، تسربت من نافذة أحد المنازل رائحة سمكة مقلية فتذكرت المرأة، كانت تطعمني سمكاً مقلياً في كل ليلة، لا أعرف اسمها، لم أسألها عنه ولم تسألني هي عن اسمي، هل تعرفه؟ لا أدري، وصلتُ إلي الشارع العام الذي جئت منه في المرة الأولي، بدأ المطر يهطل بغزارة من جديد، الشارع شبه مظلم والمارة قليلون، دخلت مطعماً، أكلت سمكاً مقلياً بلا طعمٍ ولا رائحة، رأيت ضوءاً ساطعاً في الجانب الآخر من الشارع حين خرجت وأشباح رجال تحوم حوله، كان الضوء يصدر عن مصباح معلق علي واجهة دار للسينما، علي جانبي الواجهة ذات الزخارف الحجرية عُلِّقت صورٌ لرجلٍ يشبهني وملصق لفيلم قديم بالأسود والأبيض اسمه: مبكي الغرباء، قطعت تذكرة ودخلت، وقفتُ في الظلام لثوانٍ ثم جلستُ علي أقرب مقعد، رائحة كحول تملأ المكان مع دخان سجائر كثيف، كان الفيلم قد بدأ قبل قليل، عناوينه تتوالي ببطء وهي مكتوبة علي ورق أكياس مجعد، لم تكن المشاهد الأولي مفهومة، كأنها اقتطعت من أفلام أخري: وجوه تظهر وتختفي، حوارات سريعة لا ترابط بينها، أشخاص يمضون في شوارع لا نهاية لها ثم يظهرون في مقاهٍ وبارات أو مستشفيات أو يضطجعون بلا حراك في غرف مظلمة، أغلب تلك المشاهد كانت مخدَّشة وإضاءتها شحيحة، تظهر الوجوه فيها شاحبة كأنها وجوه مرضي أو مجانين، استمر ذلك لربع ساعة ثم تغيَّر إيقاع الفيلم، ظهرت أنا علي الشاشة، كنت أقف خارج دكان الخياطة، أنادي بلغةٍ لا أعرفها علي شخصٍ ما، كان الصوت صوتي والوجه وجهي ولكنّي لا أتذكر أنني مثّلت ذلك المشهد، صرخ شخص خلفي: هذا أنا وصرخ آخر بعد لحظة: هذا أنا، وثالث ورابع وعاشر، ثم تكررت عبارة: هذا أنا بشكل صاخب عندما ظهر مدير الإنتاج وانحني وقبَّل يدي وقال: يا سيدي، اغفر لي خطئي، لقد انتزعتك من حياتك وجئت بك إلي هنا، صدِّقني لم أخطط لذلك، أنا حزين من أجلك، أما حين ظهرت المرأة وهي تحدِّق بعينيها الواسعتين في الكاميرا صرخ أكثر من صوت: هذه زوجتي، هذه المرأة التي كنت أعيش معها، ومع تتابع المشاهد كانت الأصوات تتعالي: هذه ابنتي، هذه عائلتي، هذه الغرفة التي كنت أنام فيها، هذه ملابسي، هذا حذائي، هذه كتبي، وكانت ترافق تلك المشاهد موسيقي شبيهة بالنواح، رأيت نفسي وحيداً علي الشاشة، في الدكان والبيت الذي لا مدخل له والأزقة الشبيهة بالمتاهة والشوارع المظلمة الخالية مع غربتي وجوعي وألمي، حتي المشهد الأخير في المقبرة الذي أظهر فيه وأنا أحمل جثة ابنتي المقعدة، تفجَّر بكاء الغرباء في أنحاء الصالة، كلُّ منهم كان يردد: يا للأسي، أهذه حياتي؟ هل عشت هكذا؟ هل تجرّعت كل هذه الأحزان؟ نظرت إلي الوجوه التي تحيط بي وتذرف الدموع في الظلام، لم يعد مهماً أنها تشبهني أو لا تشبهني، لم يعد مهماً أن أكون أنا ذلك الرجل الذي يظهر علي الشاشة ويمثل حيواتنا أم لا، لم يعد مهما مَن أكون، فنحن جميعاً هكذا، معشر النظّارة، كنا وسنظل، متشابهون في التعاسة ولا جدوي الوجود.
روائي وقاص من العراق، مقيم في فنلندا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.