كنا نلتقي في مطعم البجعات الثلاث في براغ، أما الآن فأقف مغمضا عيني علي رصيف أحد الشوارع، تفصلني عنك مسافة ميتة، ربما لا يوجد في براغ مطعم باسم البجعات الثلاث، أنا اخترعته، هكذا يهمس في أذني ناظم حكمت، هكذا يطاردني، فأهرب منه وأطارد طيف ليليان التي يفيض جسمها ويصبح شجرة مانجو، ويصبح أحيانا علي هيئة ليليان هيلمان الكاتبة المسرحية الأمريكية، لأكثر من مرة رأيت ذلك الفيلم الذي مثلته جين فوندا وفانيسا ريدجريف، وكانت إحداهما تقوم بدور ليليان، هل ما أقوله صحيح، ساأقرأ كتابها العناكب الصغيرة، سأقرأ الفصل الخاص بها في كتاب المثقفون، طيف ليليان يصبح شجرة مانجو، ويصبح أحيانا علي هيئة ليلي صاحبة المجنون، أو علي هيئة ليليت، يعتقد علي الشوك أنها المصدر الأساس في أسطورة ليلي، أسناني أو أسنان ابني أو أسنان زوجتي هي ما يمكن أن يقودني إلي ليلياني، وأن أراها، أن أشم رائحة صوتها في التليفون أو في الحقيقة، وجه ليليان لا يعرق، وجه ليليان حائر بين هدوء وجه زوجة، والتهاب وجه حبيبة، بدانة ليليان بلا زيادة ولا نقصان، وإذا رأيتها مرتدية بنطلونها الجينز، انتظرت أن تقوم، أن تتحرك، أن تذهب وتعود، انتظرت أن أرتبك، ما يربكني هو شعري الأبيض الباهت، وشعرها الأسود الفاحم، ما يربكني هو ضحكتها الفتية والنشوانة، وابتسامتي التي أفسدها التأمل، فكرت أن أبوح لأحد أصدقائي، لكن عادتي ألا أبوح، يغيظني صمتي، يغيظني أكثر عدم قدرتي علي الوقوف أمامها والتحديق في عينيها، ثم مهاجمتها فجأة، هكذا: أريد أن أقابلك، أريد أن اعترف لك أني أحبك، سنلتقي في مكان يناسب فتنتك، لكنني عندما أقف أمامها، أنفخ صدري وأسألها عن موعد الكشف القادم، سأستعين بكاتمي أسراري، بكتبي، قبل أن ألجأ إليها، يطاردني ناظم، ويهمس في أذني ثانية، كنا نلتقي في مطعم البجعات الثلاث في براغ، كنت أتلو من الذاكرة وأنا أنظر إلي وجهك، نشيد الأنشاد لسليمان النبي، قلت لناظم شكرا، هذه مرثية يا ناظم، أرجوك لا تكملها، بين كتبي كشفت بؤسي وقلة حيلتي، سأفتح الكتب مصادفة، وأقرأ ما يظهر لي، كأنه حظي المأمول، فتحت رواية السيد برجريه في باريس لأناتول فرانس، وقرأت: كانت السيدة دي بومون تتصور الحب كهوة سعيدة، لم تكن تعتقد أن يوما واحدا يكفي لتنسي الكون مرة واحدة في هذه الغرفة المغطاة بالأزرق السماوي، حاولت توجيه أفكار صديقها نحو أشياء أجمل، قالت له: إن لك رموشا جميلة، وقبلته قبلات صغيرة فوق عينيه، حين فتحت عينيها من جديد باسترخاء، رأت جوزيف مهموما، بعيدا عنها بالرغم من أنها كانت تحيطه بإحدي ذراعيها الجميلتين المسترخيتين، فتحت رواية العار لسلمان رشدي، وقرأت: لم يكن هارون عديم الإحساس تجاه جمالها الفتان، بيد أن شهرة أرجوماند كذاتِ سراويل حديدية، إضافة إلي تلك النظرة الرهيبة المفعمة ازدراء لا انقطاع فيه، كلها كانت كافية لأن تبعث به بعيدا، إلي أي مكان آخر، كان هارون الرجل الوحيد باستثناء أبيها، الذي أحبته أرجوماند في حياتها، لذا كان غضبها في الأيام التي أعقبت خطبته أشد من أن يحتمل، فتحت كتاب فيور باخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية لفريدريك إنجلز، وقرأت: إن كبح جماح النفس العقلي، فيما يختص بنا أنفسنا، والحب- الحب دائما- في علاقاتنا مع الآخرين، هما القاعدتان الأساسيتان في أخلاق فيور باخ، اللتان عنهما تصدر سائر القواعد الأخري، علي حافة كتاب إنجلز كان ناظم حكمت يقرأ بصوت عال، ارتفاعه أرغمني أن أرفع رأسي وأنظر إلي أعلي، ناظم يقول: كل يوم من أيامي قطعة خروف تفوح برائحة الدنيا العطرة، بفضلك أنتِ جميع الفواكه تمتد نحو يدي كما لو كنت قطعة من الشمس، بفضلك أنتِ. بفضلك أنتِ من الأمنيات وحدها أستخلص رحيقي. خفقان قلبي بفضلك أنتِ. حتي أشد أمسياتي وحدة.. بساط أناضولي يضحك علي الجدار بفضلك أنتِ. قبل انتهاء الطريق والوصول إلي مدينتي، أخذت قسطا من الراحة في حديقة ورود بفضلك أنتِ. بفضلك أنتِ، لا أفتح الباب للموت الذي يقرع بابي بأغنياته الداعية إلي أكبر راحة مرتديا ثيابه الأنعم. أترك ناظم وأفتح رواية غيمة جنكيز خان البيضاء لجنكيز إيتماتوف، وأقرأ: كلا، لم يخاطر بشيء، لكن الشيء الوحيد الذي لم يرحه هو أنه لم يستطع أن يعرف من كان عشيق هذه المطرزة، وهي، المحكوم عليها بالموت شنقا، كانت تمر بالعربة أمام صفوف القوات والقوافل، في ثوب ممزق عند الصدر، شعرها أشعث، تغطي خصله الكثيفة الملتمعة بسواد فاحم تحت ضوء شمس الصباح وجهها المصفر الشاحب، ومع ذلك لم تحنِ دوغولانغ رأسها، وكانت تنظر حولها نظرة حزينة فارغة، لم يعد هناك الآن ما تخفيه عن الآخرين. هاهي المرأة التي أحبت عشيقها أكثر من حياتها، وهاهو ابنها المحرم الذي أنجبته من هذا الحب، الشاعر العراقي فوزي كريم يفاجئني ويقول لي: أكتب يومياتي كي أهرب من أيامي، أفتح رواية الآخرون لصبا الحرز، وأقرأ: عدت أنا وضي مع سلام، جلست بعيدة ملتصقة بالنافذة، وملقية عيني إلي الشارع المترب، سحبتني ضي ناحيتها فالتصقت بالنافذة أكثر، دست يدها بين فخذي، فكدت أصرخ بها، احتضنت حقيبتي، وتكوم جسدي بعضه علي بعض دافعا ضي خارجه وخارجي، أفرد قصة (اخفض صوت الكلاكس من فضلك) لابني أحمد عبد المنعم رمضان وأقرأ: لقد اتفقنا أن نذهب سويا إلي السينما، فيلم رومانسي، لقد شاهدته منذ أيام، ولكن إكمالا للوحة الملل، فقد صممت هي- أن أذهب معها مرة أخري ، الفيلم لطيف، ليس متميزا، مليئا بالقبلات. قد أحتضنها أو أقبلها، قد أضمها إلي صدري، قد تمتزج أرواحنا للحظات صافية، قد تبكي وقد أبكي لبكائها، قد لا يموت البطل في نهاية الفيلم هذه المرة، قد أصارحها عدة مرات بحبي سرا وعلانية. ناظم حكمت تحت الشرفة، كنا نلتقي في مطعم البجعات الثلاث في براغ، أما الآن فأقف مغمضا عيني علي رصيف أحد الشوارع، تفصلني عنك مسافة ميتة، صورتك المشوهة في مرآة محطمة، كنا نلتقي في مطعم البجعات الثلاث في براغ، آهٍ يا أختي، آه يا سونيا دانيالوفا، ما من شيء ينسي سريعا مثل الأموات، أقاطع ناظم وأصرخ مثل الأحياء، فيصرخ: مثل الأموات، وهكذا، مثل الأحياء، مثل الأموات، يظهر لي أبو نواس، ويصرخ معي مثل الأحياء، ينشد: ركبت غوايتي، وتركت رشدي.. وكف الجهل مطلقةٌ عناني ألا ما للمشيب، وما لرأسي.. حمي عني العيون وما حماني أفتح رواية الشياح لإسماعيل فهد إسماعيل، وأقرأ: عند منتصف ليلتها الأولي في البيت الكبير، طرق باب غرفتها الصغيرة... من؟ كانت ما تزال غارقة في همومها. أبوها. أمها. لويس. جورج ... أنا ... ودخل المالك متسللا بخفة. جئت كي أطمئن عليك. وما استطاعت توسلاتها. دموعها. رفضها. ولا حتي مقاومتها الجسدية عندما جدّ الجدَّ، أن تمنعه عنها مرة، وثانية. ها، أغلقت الكتب جميعا، ومازالت ليليان في مكانها، مازلت في مكاني، كتبي ضاعفت شعوري بالحيرة، كتبي أضعفتني، هاتوا لي ورقة بيضاء، أتيت بورقة بيضاء، قررت أن أملأها باسم ليليان ليليان ليليان، حتي أصل إلي آخر الورقة، وبعدها أقوم بالتعداد، إذا حصيلة التعداد جاءت زوجية، تفاءلت، بعد أن شرعت في العد، خفت وتوقفت، أريد ناظم، يأسه يساعدني، وتفاؤله يساعدني، ألبس ملابس الخروج، أغادر البيت، أركب المترو، بعد ساعة أجد نفسي هناك، علي الجانب الآخر من الشارع، ساأراها مقبلة ساعة إتيانها إلي العمل، أو مدبرة ساعة انصرافها، إلي متي أظل أكرر هذا الفعل، إلي متي أكتفي به، في الفن يكفيك الفن ذاته ليكون عزاءك، في الحب لابد أن أتعلم أنه يكفيك الحب ذاته ليكون عزاءك، أين أنت يا ناظم، هل يمكن أن أنوب عنك، سوف أقف علي الحافة وأغني أغانيك: الفلفل الأخضر هنا، لاذعٌ، لاذعٌ جدا، والأغنيات في هذا المكان لاذعة، لاذعة جدا، ذلك هو ما ينقصني، أوفْ، وهذه هي ما أنا بحاجةٍ إليه، اشتعلت النار بي، ورحت أحترق، أوف، أوف، اشتعل قلبي، وهاهو يحترق، هاهو يحترق، وليليان يفيض جسمها، ويصبح مثل شجرة مانجو.