إن الفساد لا يزول، إذا كانت رقابته ظاهرية، فله حينئذ ألاعيب وحجج خفية، ويتفتق ذهنه بالأعاجيب، وشق طرقا كثيرة وروافد لا تنتهي، لأن جذوره قوية في النفوس، لا تستطيع أن تعالجه وتقطع دابره، إذا كان الأمر أمر تهديد أو عقاب. إنك تجمله فقط، وراء شكليات تأخذ شكل من أشكال الأمانة المتوهمة، كالشيخ الملتحي الذي يعطي إنطباعا بالتقوى والإلتزام، فإذا به يعبث ويداري ويناور بهيئته الملتزمة، فيأخذ باطلا، ويكسوه برداء الحق، لم أذهب لمؤسسة حكومية، إلا وأدهشني ما أرى من إبتكار أساليب الرشوة والفساد، النظام موجود، والشكل العام يبهرك، بأن الدنيا تغيرت، وأننا سائرون على الطريق الصحيح، فالجمال والنظافة والنظام دلائل حضارية لمجتمع يريد أن يبني نفسه، بطريقة صحيحة، فتبتسم إبتسامة عريضة، ويقتحم صدرك طاقات من هواء نظيف، فتتنفس بعمق وأريحية، تُهنأ نفسك برؤيت هذا التقدم، وتسرح بخيالك سنوات، لترى أمة عظيمة فاضلة تأخذ بيد أمم أخرى، وتعلو بها فتكون قدوة لمن أراد أن يكون له شأن في الحياة، وما إن تسرح بخيالك قليلا، حتى تصدمك عينالك، حين ترى خيالك يتحطم تحت وطأة هؤلاء، الذين لم يروا كل هذا، وأبتكرت عقولهم نظم جديدة في البحث عن الفساد، وخرق القيم بطرق قانونية، رغم أن كل شيء يدل على عكس ما يبدو، حتى الكاميرات المعلقة في الأماكن تتنفس هي الأخرى الفساد، ويجري عبر الأسلاك، فالفساد لا ينتهي، إلا إذا نشأت النفوس على التقزز منه، وإنه رداءة في الخلق، وعيب كبير في حق من يتخذه وسيلة كسب غير مشروع، وأرى أن الحكومة، تضع العربة أمام الحصان كما يقال، وليس العكس، وإن التربية والأخلاق هي العامل الأول في إنتهاء الفساد، فالرقابة من الداخل هي الرقابة الحقة والأهم، التي تنقذ الإنسان من الإنحدار إلى أخلاق، لا ينبغي أن يعتنقها أو تكون هي صفاته التي يتصف بها من سوء فعل، وهذا ما يضمن إنحسار الفساد في فئة قليلة، تراه طبعا فيها، فيكون كشفها يسير، وتعاقب بالقانون، فيردعه ونستأصل شأفته بالتدريج، أو على الأقل نحصره في أضيق حدود، فنعالج على أساس صحيح، حين نقصد تغيير الإنسان ذاته، لا ما يحيط به، ولا يمس جوهره، فنكون كالذي ينقش على الماء، ونجهد أنفسنا بغير ثمرة ننتظرها.