في صفحات التاريخ المصري الحديث، لا يمرّ اسم "منيرة" مرور الكرام.. فالاسم، بما يحمله من دلالة على "النور"، يتجاوز معناه اللغوي ليُجَسِد رمزًا نسائيًا مصريا مفعما بحب الوطن والحرص علي اعلاء لغة النور والجمال في مجابهة تيارات القبح والظلامية في مجالات الثقافة والسياسة والفن. ارتبط اسم "منيرة" بنساء من نور أضاءت تاريخ مصر و تحملت مسؤولية الكلمة مهما بلغت حدتها او اختلافها، فتحَلَت أشهر "المنيرات" بالشجاعة والاقدام و استطاعت عبر سنوات التاريخ و المحن و التحديات الجسام، ان تعلوا فوق مستوي الاحداث و ان تَسطُر أسماءهن في سجل التراث النسائي المصري بحروف من نور.. لعل اسم "منيرة المهدية" هو الاسم الأول الذي يثب بتلقائية فوق ذاكرة كل من عاش وكبر في أحضان نيل مصرنا الحبيبة ويأتي أيضا في صدارة سجلات التاريخ الحديث والمعاصر.. وبما انني من الحريصين علي حتمية التواصل بين البشر واثراءهم بعضهم لبعض ومن المؤمنين بأهمية استدامة تغذية ذاكرة الوطن وتمريرها بمجدها وكيانها الشامخ جيل بعد جيل، وتسليم راية التاريخ المصري المتفرد بحضارة عظيمة استثنائية كانت ومازالت حلقة تأسيسيه لعلوم ومعرفة البشرية بثناياه الانسانية الي من يؤتمن من الشباب بعلمه النافع وضميره الوطني.. لذا فقد استشعرت الواجب في التعريف بأشهر "منيرات مصر".. عزيزي القارئ لعل أشهر ال"منيرات" في تاريخ مصر و الإقليم العربي لهي مطربة اسمها "منيرة المهدية"، وكانت قد ولدت عام 1888بقرية المهدية بالشرقية، و اعتبرها النقاد من أبرز رائدات الفن المصري، حتي أطلقوا عليها لقب "سلطانة الطرب" لدورها الريادي في تطوير الغناء وابتكار الأوبريتات المسرحية باللغة العربي في عوالم الشرق. بدأت "منيرة" مشوارها الفني بالغناء في مقاهي الإسكندرية الشعبية، حيث كانت تلك المقاهي من أهم منصات اكتشاف المواهب آنذاك وسرعان ما لفتت الأنظار بصوتها العذب وأدائها المسرحي، مما مهد لها الطريق لتنتقل لاحقًا إلى القاهرة، وتُصبح أول مطربة مصرية تقف على خشبة المسرح الغنائي.. نجحت "منيرة" وتألقت حتى اصبحت أيضا أول مطربة عربية تسجل أعمالها على الأسطوانات، ورغم ذيع صيتها في مصر المحروسة، الا انها لم تكتفِ بالغناء، بل اقتحمت خشبة المسرح في زمن كان تمثيل المرأة فيه "عيبًا" وجرُأت علي القيام بأدوار عديدة بل وبلغت من الجراءة انها ظهرت بدور رجل في عرض مسرحي مع فرقة سلامة حجازي! في عام 1905، أسست مقهي فني تحت اسم "نزهة النفوس" في القاهرة، والذي تحوّل إلى منتدى للنقاشات السياسية والفكرية كسابقة اولي لما يعرف في الغرب ب"المقاهي الثقافية" وخلال ثورة 1919، تحدّت " منيرة" الاحتلال البريطاني بأغنيتها الشهيرة " شال الحمام حط الحمام.. زغلول وقلبي مال إليه" رغم حظر ذكر اسم سعد زغلول.. ظل صوت " منيرة المهدية " يصدح في العلن، بينما كانت عوامتها على النيل ملتقى سريًا للثوار ومحبي الوطن حيث قالت في أحد اللقاءات التلفزيونية النادرة "فعلتُ كل ما في وسعي لمناصرة قضيتي وقضية المصريين" وكانت منيرة أيضا بوقا دوليا للوطن حيث غنّت أمام مصطفى كمال أتاتورك حتى الفجر، وسُمِّيت سجائر في سوريا باسمها، وسُجل اسمها في "الكتاب الذهبي" لملك إيطاليا.. وعلى الجانب الآخر من ساحة النضال ومقاومة الاستعمار، ظهرت ثاني "المنيرات"، منيرة ثابت (1906–1967)، رائدة النضال النسوي، وأول فتاة مصرية تحصل على ليسانس الحقوق من باريس عام 1924، وقد سُجلت كمحامية أمام المحاكم المختلطة بل وناضلت حتى أصدرت عام 1926 جريدة "الأمل" بالعربية والفرنسية، دعت فيها إلى حقوق المرأة السياسية، وهاجمت الاستعمار البريطاني بلا تردد.. شاركت في مؤتمرات دولية مدافعة عن قضايا النساء، وكتبت كتاب "ثورة في البرج العاجي" الذي أصبح مرجعًا مهمًا في الفكر النسوي المصري. لا تكتمل الحكاية دون ذكر ال"منيرة" الثالثة، إنها الأميرة منيرة سلطان ( 1844-1862) ابنة السلطان العثماني عبد المجيد الأول وزوجة الأمير إبراهيم إلهامي باشا، قد لا يعرفها كثيرون، لكنها تركت بصمة في جغرافيا القاهرة لتصبح "الأميرة القابعة في ذاكرة المكان" و ذلك لان حي "المنيرة " و الذي سمي باسمها، مازال يتزين بقصرها الاثري البديع على مقربة من شارع المبتديان، و يتفاخر به سكان المنطقة وخاصة حينما حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا علي زيارته و تفقد اجنحته، بعدما اخذ صبغة علمية و اصبح المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، تلك المنارة المنيرة التي تضم اكبر و اعرق مكتبة إقليمية لعلوم المصريات والحضارات الشرقية. اما ال "منيرة" الأقل شهرة لدي العامة، فقد عاشت في النصف الأول من القرن العشرين، وبصدفة الاقدار فقدترعرعت في رحاب السيدة زينب بحي "المنيرة" وهي الشيخة"منيرة عبده" واحدة من أبرز قارئات القرآن الكريم في هذه الحقبة التاريخية. كانت "منيرة" فتاة صغيرة الم تتعد الثامنة عشرة من عُمرها في عام 1920، ولكن صوتها كان ملفتا للأذان ومهيمنا علي الوجدان، فكان به وقارا وقوة ممتزجة بالرقة والطرب. فسطع نجمها وأحدث ظهور منيرة عبده ضجة كبرى في زمانها، ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت ندًا للمشايخ الكبار وذاع صيتها خارج مصر، وتهافتت عليها جميع إذاعات مصر الأهلية قبل إنشاء الإذاعة المصرية. وفي سنة 1925تلقت "منيرة" عرضًا من أحد أثرياء تونس، لإحياء ليالي شهر رمضان في قصره بمدينة صفاقس وتوالت عليها من بعد الدعوات من مختلف الدول العربية. وفي ربيع عام 1936، ذيعت التلاوة الأولى للشيخة منيرة عند افتتاح البث الإذاعي في العاشرة من صباح الأحد الخامس من ابريل وظلت تقدم التلاوات المتميزة في الإذاعة، بالإضافة إلى الابتهالات والتواشيح الدينية في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية. ولكن هناك من كانوا ضد منيرة ونورها المنير من خلال صوتها العذب المحمل بالروحانيات، فاذا بالإذاعة تمنع بث التلاوات القرآنية لمنيرة بدعوى أن صوت المرأة عورة.. وظلت في بيتها حتى وفتها! عزيزي القارئ في يومنا هذا، تشهد مصر طفرة نوعية استثنائية بتقلد المراءة مناصب قيادية لم تكن تحلم بها فهي تعيش "العصر الذهبي" بمكتسباتها التشريعية والحقوقية غير انها شغلت أكثر من 27 في المائة من مقاعد برلمان 2021-2026 بمختلف شرائحهن الاجتماعية. هنا لا بد من التَذكّير بأن هذا الطريق، طريق المساواة في الحقوق المجتمعية، لم يكن ليمهد الا بعد نضال طويل ومرير للمراءة المصرية ومن بينهن "منيرات مصر"! بين صوت الطرب وتلاوة القرآن وصرخة النضال.. بين المسرح والإذاعة والصحافة والقانون.. جمعت ال"منيرات" بين الفن والسياسة، بين الحلم والواقع.. وأزيدكم من الشعر بيتًا، ب "منيرة" الصديقة، التي لا تقل عنهن دَأبا في هذه الدنيا، بين عرش الامومة الربانية ومقعد المسيرة المهنية.. سيدة من رشيد، مدينة الآثار الإسلامية والمليون نخلة وصناعة المراكب وروزيتا الشرق.. جمعتني بها الأقدار ذات يوم، وألّف الله بين قلوبِنا بأصداف الزمان، حيث رأت في مرآتي شبابها وانطلاقها، ورأيت منذ الساعات الأولى التي جمعتني بها ومضات من صورة أمي بل وتحسست في تنهيداتها ونظراتها، حكايات الأيام، وفي فضفضتها، غصة لما وصل اليه الزمان وسمعت صوت أمي وفطرتها الذكية في أحاديثها اليومية ... لم يكن ما يجمعها بأمي فقط خصال الطبع، بل أيضًا خصلات الشعر المتهدّل حول وجه ناصع البياض وحرصها علي ترتيب تسريحتها وهي تتحاكي عن نوادر شبابها وجمالها. وفي يوم من الأيام، ذهبت كعادتي للقائِها، وظننت بسذاجة أننا سنستكمل أحاديثنا وانه مازال في العُمر عُمر.. فاذا بها تُدَقِق في وجهي وتسألني: من انتِ؟ أدركت حينها أن "منيرة" سيدة رشيد الاصيلة، بدأت أولى خطواتها علي طريق الصعود إلى السماء.. أرثيها اليوم بقلم باكي وبقلب حزين من خلال هذا المقال عن "المنيرات".. نساء الضوء في تاريخ مصر، وأعلم أنها تسمعني ومازالت تراني مراءة لشبابها.. فتبتسم وهي تعرفني وفية.. وهذ يكفيني! وأنا أيضًا أسمعها، تنشر السلامات والتحيات علي أحبابها وعلي "منيرات مصر" وربما أيضًا.. ستشاركهم امي هذه الحياة! حين يبكي الإنسان على اخيه الإنسان! لقاءها قدر والمساواة معها فرض..و ليس افتراض!
"إتحاف" الأبناء بحواديت القدماء.. من"كان يا مكان" للحب و الانتماء لو حكينا يا "بلادي".. نبتدي منين الحكاية؟ "حتشبسوت" والمعارف العمومية والإرشاد القومي..عجبي!