ليست الليلة أشبه بالبارحة أبداً، فالبارحة كنا نتسلى كما وصفنا المخلوع منذ عام تقريبا، بعد انتهاء أكثر الانتخابات البرلمانية زيفا وتزويرا فى تاريخ مصر، وبعد إقصاء أحزاب المعارضة والمستقلين الشرفاء تماما من الصورة، والزهو بنتيجة ساذجة لا تخدع عاقلاً أو حتى جاهلاً، فى حين استسلم البعض لجاثوم الحزب الوطنى الذى تم تكليفه بمهمة قتل الضمائر المصرية الحرة بتوجيهات سعادة الطاغية!! وكلما أشاهد المخلوع يسخر من شعبه فى استفزاز واستهتار فج بغضبة المصريين والنار التى تكتوى بها صدورهم من جراء التزوير المعلن والمتحدى بكل جرأة وفجاجة، ليعلن النتيجة التقليدية باكتساح مرشحى الحزب الوطنى المرغوب والمطلوب من كافة أطياف الشعب! وحينما سأله أحد المستهزئين بدعوات المناضلين لإنشاء برلمان مواز، نصحنا الطاغية "الحكيم" بأن نتسلى، ودعا نواب برلمانه المزور بتكبير المخ، لأنهم انتصروا بالفعل على تلك القلة التى لفظها الشعب المصرى من صناديق الاقتراع فلم يحصلوا على مقعد واحد من مقاعد البرلمان. ولذلك أدعو كل من انتقد الانتخابات الحالية سلبا واتهمها بأنها غير معبرة عن نتيجة حقيقية لإرادة الشعب المصرى، بأن تعود بهم ذاكرتهم للوراء لمدة عام فقط، ولن أذكرهم بثلاثين عاما مضت، هل رأيتم من قبل هذا الإقبال الشعبى على طوابير اللجان، والتى ضمت كافة الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، وهذا الكم الهائل من تنوع الأفكار والآراء؟ هل رأيتم العام الماضى أو طوال سنوات عمركم هذا النقاش السياسى المختلف بين سيدة منتقبة، وأخرى لا ترتدى الحجاب، وكل واحدة منهن اتفقت على أن لديها قناعاتها فى اختيارها؟ هل رأيتم من قبل هايد بارك يضم ملايين المصريين يتناقشون فى توجهات الأحزاب والمستقلين من قبل؟ هل رأيتم من قبل المغتربين وهو يهرعون إلى السفارات المصرية لممارسة حقهم فى الانتخاب من قبل؟ إنها إرادة شعب يتعجب من صموده وقوته جميع حكومات وشعوب العالم. قد يرى بعض المحللين أن هذه الانتخابات قد شهدت بعض التجاوزات، وهو أمر غير مقبول على الإطلاق من أى حزب أو مرشح مهما كان مبرره فى ذلك، ولا أتعجب من أن شعب ظل طوال عقود طويلة لا يدرك دور نائب البرلمان فى الرقابة والتشريع، ولا يعرف كيف تسير العملية الانتخابية ولا يعرف من الأساس مبادئ الحياة السياسية، فمن الطبيعى أن يدغدغ مشاعره بعض المرشحين بما يرضيه، ونحن إن نجحنا فى تغيير أعمدة رئيسية فى النظام السابق، فنحن ما زالنا نخطو أولى خطواتنا فى طريق الديمقراطية التى اتهمنا رجال مبارك من قبل بأننا غير ناضجين سياسياً لممارسة الديمقراطية. لذلك لا تتوقع سرعة التغيير من بعض الفئات التى لم ترَ طوال سنوات حياتها نائباً يعبر عن آلامهم وطموحاتهم ويشترى بمائة جنيه.. يتسلم "الغلابة" نصفها قبل التصويت والنصف الآخر بعده، ولا تتوقع أيضا اختفاء بعض الأعضاء المتلونين الذين بحت حناجرهم بالأمس دفاعا عن "حكمة السيد الرئيس"، والذين جزموا أن الجنين فى بطن أمه يؤيد "وكالة مبارك وولده"، ولا تصدم إذا رأيت الشيخ بالأمس يهاجم الإسلاميين اليوم، ولا تنفعل إذا رأيت الليبرالى ينظم فيهم قصائد الشعر.. هذه طبيعة المرحلة فبعد إجراء العمليات الجراحية تحتاج إلى فترة نقاهة تستعد فيها لاستقبال حياة أفضل ورؤية أوضح. اليوم تبدأ مصر فى المراهنة على شىء اسمه الديمقراطية، لم نتذوقه من قبل، وإن عرفنا مذاقه مرة وأعجبنا تدراك النظام السابق خطأه سريعا بحرمننا منه حفاظا على صحتنا وتجنبا لإدمانه فى المستقبل، وأكثر شىء جملة مازالت تتردد فى أذنى حتى الآن جملة قالها رجل مسن جاء طابور الانتخاب متعكزا بعصاه، ولكنه مازال متمسكا بالأمل "لن يقدر على المصريين أحد بعد الآن"، هذا الرجل الذى رأى فى طابور اللجنة مستقبل مصر، بعيدا عن الشعارات الحزبية والأحاديث السياسية، هذا الرجل اطمأن على مستقبل وطن تخرج فيه امرأة تحمل طفلها بالساعات فقط لكى تسقط ورقتين فى صندوقى الانتخاب، وتبعث فى كل ورقة رسالة حرية تؤمن بها مستقبل أولادها، وحين تدعوها النساء بالطابور للدخول مبكرا للانتخاب رحمة بظروفها، ترد قائلة "اليوم عيد وأنا مستمتعة بالانتظار".. انتظرنا الحرية كثيرا وقد أتت، نرجو أن نجيد التعامل معها مهما اختلفت أفكارنا وتوجهاتنا.