أكره الصوت العالى مثلما كنت أكره جلاد أمن الدولة الذى كان سوطه يهوى على جسد كل من يحاول أن يبدى رأيا أو يظهر اختلافا فكريا فى العصر البائد.. ورغم أن ما كانت تفعله أمن الدولة سابقا كان يعد تحرشا جسديا مشينا.. فإن الصوت العالى بمثابة تحرش ببنات الأفكار وهو أشد إيلاما من التحرش الجنسى فى أبشع صورة بل هو سبيل للوصول إلى مرض العنة الفكرية التى يستحيل معها إنجاب أفكار جديدة.. إننى أؤمن كغيرى إيمانا مطلقا بأن الاختلاف سمة وليس عيبا. ولكننى أتعجب حينما أرى البعض يسعى لفرض رأيه بالقوة ويسفه من رأى الآخر فيعلو صوته أكثر وأكثر ليملا الدنيا ضجيجا وصخبا ورغم ذلك فإنه يمسى غير مسموعا.. وتزداد هوة الاختلاف اتساعا حتى أنك لا ترى أبدا سبيلا للوصول إلى نقطة اتفاق.. وقد يعزو البعض ذلك إلى مناخ الحرية الذى زادت مساحته ولم تعد هناك قيود مفروضة على حرية الرأى وأنا مع هذا الرأى جملة وتفصيلا ولكننى لست مع من يتخذون الصوت العالى وسيلة لعرض آرائهم تحت ستار الحرية حتى ولو كان حوارهم مع أعتى العتاة فالحوار الهادئ المتزن كفيل بأن يهزم الجبابرة ويجردهم من أسلحتهم البالية. إن الصوت العالى يخفى فى داخله عجزا وقلة حيلة وهو بمثابة اغتيال للرأى ووأد لبنات الأفكار.. بل قد يكون هذا الاغتيال لرأى صاحب الصوت العالى نفسه الذى لو تأنى وقام بعرض رأيه فى هدوء لأخذ به ولأتى ثماره.. إن الصوت العالى جريمة نكراء يرتكبها الواحد منا فى حق نفسه أولا وفى حق مجتمعه ووطنه ثانيا.. حتى أن الصوت العالى قد يجعل الآخرين ينفرون منه ويشككون فى نوايا صاحبه الذى لو أراد لرأيه أن يحدث أثرا طيبا لاتبع منهجا مخالفا للصوت العالى ليجرد نفسه من شكوك من حوله واتهاماتهم له بأن صوته العالى يريد به أن ينحاز له أناس كثر ليس إلا تحقيقا لهوى النفس فى منصب قادم فى مجلس الشعب أو الشورى. إن علينا أن نشجع الاختلافات وأن نستمع إلى رأى الآخر وألا نحجر على رأى.. ومع أننى لست ممن كان يحمل انتماء سياسيا خلال العصر البائد إلا أننى أدعو الجميع أن يتصافحوا ويتسامحوا لا أن يتشيعوا ويتفرقوا بحجة أن هذا من فلول الحزب الوطنى الذى انتهى، حتى وإن حاول البعض إحياءه.. أرى مثل غيرى أن من كان ينتمى إلى ذلك الحزب ثم تبرأ منه وتيقنا من صدق نواياه فلا يجوز لنا أن نقتل آراءه ونغتالها عنوة.. فالإسلام يقبل توبة الكافر حين يتوب ويعلن إسلامه فلماذا نحن لا نقبلها رغم اتساع البون بين التشبيهين.. فعلينا ألا نغلو فى آرائنا ولا نصف هؤلاء أو نوصمهم باتهامات مهينة نحجر بها على آرائهم وإلا فإننا قد نجحنا فى صناعة أعداء جدد لنا ولآرائنا وهذا ما لا نريده.. إن الاختلاف شىء محمود وكثير ممن حاورونى بالمنطق والحجة رجحت كفة رأيهم على رأيى رغم اتساع هوة الخلاف بيننا. وكثير أيضا ممن حاورونى بالصوت العالى كان فيها رأيى هو الغالب رغم أن آرائهم كانت أفضل بكثير.. وكثيرا ممن بينى وبينهم اختلافات فكرية أحتفظ بصداقتى معهم.. ونختلف.. لكننا نحب بعضنا ونتناول النكات التى تتعلق بأفكار كلانا.. إن الاختلاف مباراة تعكس مدى التحضر والرقى بيننا لن يكون الفائز فيها رأى هذا ولا رأى ذاك بل الفائر الحقيقى هو المجتمع بأسره حينما تصب تلك الاختلافات فى صالحه وتصل إلى نقطة اتفاق.. أما إذا اتسعت وزادت حدة الاختلافات وارتفع الصوت العالى البغيض فإننا جميعا سنكون من جملة الخاسرين.. قد تبدو النظرة متشائمة قليلا ولكننى لا أملك إلا أن أحتفظ بقدر بسيط من التفاؤل لأن ديننا الحنيف ينهى عن الطيرة والتشاؤم.