الجهل وحده فقط هو الجدار الذى يستند إليه أولئك الذين حملوا لواء الهجوم على الفيلم السينمائى «678»، حتى قبل أن يشاهدوه.. جهل بالسينما وجهل بالمجتمع، قد يبدو الجهل وصفاً مناسباً للعديد من النقاد وأهل الإعلام الذين استقبلوا الفيلم الذى يناقش قضية التحرش قبل نزوله دور العرض بالاتهام الاجتماعى الشهير: «تشويه سمعة مصر»، والاتهام السينمائى السخيف بأنه مباشر أكثر من اللازم. هذا ماحصده مخرج ومؤلف الفيلم محمد دياب فى أول أيام العرض بل قبل عرضه أصلاً، بجانب اتهام ساذج بأنه نقل الفيلم من صفحات الحوادث، رغم أن الرجل كفى نفسه شر هذا القتال، وكتب لهم فى بداية الفيلم وبالبنط العريض: «هذا الفيلم مبنى على أحداث حقيقية». ومن وجهة نظرى كانت هذه هى نقطة القوة فى سيناريو الفيلم، فهل يوجد تأثير أقوى من قصص تحرش حدثت على أرض مصر، وتابعنا أخبارها فى وسائل الإعلام، لكى نستخدمها فى سياق درامى يعلّمنا كيف نتعامل مع كارثة التحرش ونواجهها؟. فى «678» فعل محمد دياب ذلك، جاء بالواقع إلى شاشة السينما ليكون للوجع الدرامى تأثير لا يزول بمجرد الخروج من دار العرض، ولكى يشعر كل من حاول أن يضع ساتر اللامبالاة أمامه وقت حوادث التحرش الشهيرة بحجم الأسى والمرارة الذى شعرت به الضحايا وأسرهم، جاء سيناريو الفيلم ليؤكد أننا أمام سيناريست مختلف لم تكن تجاربه الأولى وليدة صدفة أو وحى إلهى. اختار دياب أن يخلص لقضية التحرش فوضع سيناريو مترابطا قائما على النظر من كل الزوايا لفكرته فقط، وأعاد الاعتبار إلى صياغة الجمل الحوارية والجمل المنحوتة بعد فترة غفلت فيها السينما عن أهمية وجمال الحوار لصالح الجملة الصارخة سواء بالصوت أو بالألفاظ التى تجرح الأذن ولا تؤثر فيها. هذا الجمال الحوارى ستلمسه فى حوارات ماجد الكدوانى، ومواجهات بشرى ونيللى كريم. هؤلاء الثلاثة الذين نجحوا أن يردوا الاعتبار لموهبتهم بمساعدة مؤلف قرر أن يستكمل مشوار الإخلاص للفكرة، ويجازف بأن يخوض أولى تجاربه الإخراجية بفيلم واقعى يناقش قضية جامدة لا تجذب فى العادة جمهور شباك التذاكر الذى غيّر السبكى ميوله السينمائية فى السنوات الأخيرة. الاتهام بالمباشرة الذى واجهه دياب وفريق العمل طوال الوقت كان مجحفا لمخرج اختار أن يقدم صورة للجمهور مبنية على رؤية، وليست قائمة على الألاعيب. لجأ دياب إلى ذلك التكنيك الذى استخدمته السينما العالمية فى أفلام كبرى ناقشت قضايا كبرى وهامة مثل فيلم «كراش» الحائز على أوسكار منذ عدة سنوات، وأخرج فيلمه السينمائى كأنه يسجل ويوثق قضية للتاريخ، وليس مجرد ساعة درامية ستنتهى بانتهاء تصفيق الجمهور مع نزول تتر النهاية. اذهب إذن إلى قاعات السينما، واقطع تذكرة فيلم «678» وخذ معك زوجتك وأولادك دون أن تخاف، لأنك ولأول مرة ستشاهد فيلماً يناقش قضية جنسية دون أن يخدش حياء أطفالك أو زوجتك بلفظ خارج أو مساحة عرى زائدة. وأرجوك لا تسقط فى الفخ الذى استقر فيه السادة نقاد السينما حينما تعاملوا مع «678» على أنه فيلم عن التحرش، لأن الفيلم لا يناقش قضية تلاحم الأجساد فى الأتوبيسات، أو ملامسة أيدى الشباب لمناطق البنات الحساسة بالغصب، أو القاء ما هو قذر من ألفاظ على النساء السائرات فى الشوارع.. «678» يناقش كارثة أخطر من التحرش بكثير اسمها.. الصمت!