وسط سبعة إخوة.. وابن لزوجة ثانية.. أبصر النور، لم يكن به شيء مميز، لم يضف جديدا بالنسبة لهم، ولكن قدومه للحياة الصحفية لم يكن عاديا. استطاع أن يحمل لقب «الأستاذ» وحده، طوال عقود طويلة منذ دخوله بلاط صاحبة الجلالة وما زال يحمل اللقب رغم توقفه عن الكتابة المنتظمة منذ ما يزيد على عشر سنوات ولكنه لايزال متألقًا في حواراته واطروحاته وآرائه. هو محمد حسنين هيكل، لم يتفق على حبه الجميع، مثلما لم يتفق الناس على كل شيء، إلا أنه لا يستطيع أحد أن ينكر مكانته في عالم الصحافة، حتى أصبح واحدا من أهم 11 صحفيا في العالم تترجم كتبهم ل31 لغة. ولد محمد حسنين هيكل، بحى الحسين في بيت جده للأم، أصبح هذا البيت الآن مستشفى الحسين الجامعى، وفى هذا البيت تجمعت عدة أمور ساهمت في تكوين شخصية هيكل وفى موهبته. هيكل ولد في بيت من ثلاثة أدوار، في الدور الأول أسس خاله الذي كان يسكن معهم في نفس البيت صومعة بها جميع أنواع الكتب، والتي كان يشتريها من مكتبة «صبيح» وتعرف من خلالها هيكل على عالم الكتب. استمع «هيكل» وهو طفل صغير، لوالدته وهى تقرأ لوالده «السيرة الهلالية - زرقاء اليمامة»، فتكون لديه الجين الأدبى مبكرا، خاصة أن والده كان يتمتع بموهبة الحكاية. كان جده يأتى له هو وأولاد خاله بشيخ ليحفظهم القرآن، وكان يعطى هذا الشيخ جنيها ذهبا مقابل ذلك، كما كان يصطحبه جده لزيارة سيدنا الحسين. أراد والده أن يبعثه للدراسة بالأزهر، وهو ما وقفت والدته ضده بصرامة، رافضة أن يكون ابنها معمما وصممت أن يذهب للمدرسة العادية، ومنها إلى مدرسة التجارة المتوسطة التي التحق بها. «دخوله عالم الصحافة» قرر هيكل مواصلة دراسته في القسم الأوربى بالجامعة الأمريكية، وخلال دراسته تعرف على سكوت واطسون الصحفى المعروف في ذلك الوقت بالإيجيبشان جازيت، والذي استطاع عن طريقه أن يلتحق بالجريدة في 1942، كصحفى تحت التمرين بقسم المحليات، وكانت مهمته جمع أخبار الحوادث، وكان في التاسعة عشرة من عمره. وكانت الإيجيبشان جازيت هي المطبوعة الأجنبية الأولى في مصر، وكان يكتب فيها مجموعة من كبار الكتاب منهم مثلا جورج أرويل ولورانس داريل ووايف كورى ابنة مير كورى مكتشفة اليورانيوم، أما رئيس تحريرها فكان كاتبا لا يقل قدرا عن هؤلاء.. هو هارولد إيرل. المهمة الأولى ل«الأستاذ» مهمة كانت جمع أخبار الحوادث بصفة عامة، حتى أصدر عبد الحميد حقى وزير الشئون الاجتماعية وقتها قرارا بإلغاء البغاء الرسمى في مصر، مرجعا السبب لإصابة عدد من جنود الحلفاء بالأمراض التي انتقلت إليهم من فتيات الليل. لتصبح المهمة الأولى للصحفى المتدرب محمد حسنين هيكل، معرفة رأى بنات الليل في ذلك القرار، بتكليف الجريدة له بأن يلتقى بفتيات الليل ويحصل من كل منهن على صورة يضعها على استمارة الاستفتاء التي وضعتها الجريدة وطبعت منها 500 نسخة، كان على هيكل أن يملأ خمسها، وهو ما نجح فيه بجدارة. القصة منه حكاها هيكل بنفسه في العدد رقم 546 من مجلة آخر ساعة، فكتب: كنت أقضى فترة التمرين في إيجيبشان جازيت، وذات يوم جاءنى سكرتير تحرير الجريدة، وقال لي: إن الحكومة تفكر في إلغاء البغاء الرسمي، وإن الجرائد كلها تكتب في هذا الموضوع دون أن تحاول واحدة منها أن تأخذ رأى أصحاب الشأن الأول، وهن البغايا أنفسهن، وطلب منى يومها أن أقوم بسؤال مائة بغى عن رأيهن في الموضوع، قائلا: إنه سيكون دليلا على مقدرتى الصحفية إذا تمكنت من استفتاء مائة بغي، وكانت مهمة شاقة، ولكن المسألة كانت مسألة امتحان. وذهبت إلى الحى الذي تستطيع أن تشترى فيه كل شيء، ودخلت أول بيت وأنا أفكر في الصيغة التي ألقى بها السؤال، ولكن يبدو أننى لم أوفق في اختيار الصيغة لأننى خرجت من البيت الأول مشيعا بسباب وصل إلى أجدادى حتى عهد الملك مينا، وحاولت، ولكن على غير فائدة، وأخيرا أدركت عقم المحاولة، وبدأت أفكر بهدوء، وأحسست أن ثقتى في نفسى بدأت تفارقني، والتفت، فإذا مقهى قريب منى فذهبت إليه لأستريح وأفكر، وفى أثناء جلوسى لاحظت وجود سيدة متقدمة في السن كان جميع من في المقهى ينادونها ب»المعلمة»، باحترام قل أن يكون له مثيل، ووثبت في ذهنى فكرة، فتقدمت من السيدة وشرحت لها كل مهمتي، وأثبت لها أن مستقبلى كله يتوقف على معاونتها لي، وفكرت السيدة قليلا ثم قالت لي: اقعد، وقعدت. بعد لحظات نادت بعض النساء، وعقد الجميع مؤتمرا لبحث المسألة، وجلست أنتظر النتيجة، وفجأة صاحت إحداهن: نادوا عباس، ومرت فترة ثم حضر شاب سمع المسألة ثم تقدم منى قائلا: «معاك كارنيه»، ولم يكن معى «كارنيه» ولا خلافه، ولم يقتنع عباس، ولكن المعلمة اقتنعت قائلة: «ده باين عليه ابن ناس»، وهززت رأسى مؤكدا أننى «ابن ناس» جدا، فبدأت ترسل في طلب النساء من المنازل حتى أتاحت لى الفرصة أن أسأل مائة امرأة وأنا جالس في مكانى أشرب القهوة على حساب المعلمة. «هيكل والنجومية» موهبته ومهارته وحبه للعمل، جعلت «هيكل» في خطوات سريعة يحقق ما حققه غيره في سنوات فقد أصبح رئيس تحرير لمجلة «آخر ساعة» وعمره 29 عاما، وهو ما لم يأتِ صدفة. نجاح «هيكل» في مهمته الأولى جعله يحقق نقلة في حياته بعد أن تم اختياره ليذهب إلى العلمين التي شهدت أشرس معارك الحرب العالمية الثانية، ليصف بقلمه وقائع تلك المعارك. ومن الحرب في العلمين إلى الحرب في مالطا إلى استقلال باريس تنقل هيكل لتردد الألسنة اسمه، ليفاجأ وهو يتناول غداءه ذات مرة بمطعم الباريزيانا، بالسيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة روز اليوسف تدعوه إلى مائدتها، ثم إلى مجلتها، ليصبح هيكل عام 1944 صحفيا في مجلة روز اليوسف التي كانت بوابة تعارفه على محمد التابعي. «التابعي» نقل «هيكل» للعمل معه في مجلة آخر ساعة التي عمل بها في آخر عامين للتابعي، قبل أن يشتريها منه مصطفى وعلى أمين. وفى «آخر ساعة» عاد هيكل من الجريمة العامة والحديث عن الحرب إلى الجريمة الفردية بتحقيقه الشهير عام 1947 عن «خط الصعيد»، ولم يتوقف «هيكل» عند ذلك فاخترق وباء الكوليرا ليكتب تحقيقا عن قرية «القرين» التي لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها، ليحصل على جائزة فاروق. بدءا من 1947 انتقل «هيكل» للعمل بجريدة أخبار اليوم التي شهدت صفحاتها ولمدة خمس سنوات تالية انفرادات هيكل، من تغطيته لحرب فلسطين إلى انقلابات سوريا، ومن ثورة محمد مصدق في إيران إلى صراع الويسكى في تركيا، ومن اغتيال الملك عبد الله في القدس إلى اغتيال رياض الصلح في عمان واغتيال حسنى الزعيم في دمشق. وفى 18 يونيو 1952 فوجئ قراء مجلة آخر ساعة بعلى أمين -وكان وقتها رئيسا لتحريرها- يخصص مقاله للحديث عن هيكل، وينهيه بأنه قرر أن يقدم استقالته ويقدم للقراء في الوقت نفسه هيكل رئيسا للتحرير، وهكذا أصبح هيكل رئيسا لتحرير آخر ساعة، ولم يكن تجاوز بعد التاسعة والعشرين. «زواج هيكل» أثناء رئاسته تحرير آخر ساعة جاءت سيدتان من الهلال الأحمر وجمعية تحسين الصحة، يروجان لتبرعات للجمعيات الخيرية، واحدة منهن كانت السيدة هدايت علوى تيمور، والتي أصبحت فيما بعد زوجته، بعد أن جمعهم اللقاء الثانى في منزل صديقة مشتركة بعدها. أنجبا ثلاثة أبناء على وأحمد وحسن الذين ضمتهم قائمة مجلة أربيان بزنس كأغنى 50 رجل أعمال عربى في 2010 حلا في المركز 49 بنحو مليار 700 مليون دولار. «هيكل والزعيم» أثناء تغطية «هيكل» لحرب فلسطين سمع عن جمال عبد الناصر والذي كان يطلق عليه المحظوظ لتعرضه لضرب رصاص لعدة مرات ولكنه لم يصب إلا بشظايا بسيطة. ولكنه لم يلتقِ به في فلسطين ولكن التقى به في منزل محمد نجيب قبل 4 أيام من 23 يوليو وهنا بدأت العلاقة بين جمال عبد الناصر وهيكل. حتى أصبح بعد فترة المتحدث الرسمى باسم حركة الضباط الأحرار، وأصبح الصديق المقرب للرئيس جمال عبد الناصر وحامل خزانة أسراره. «الأهرام» ظلت «الأهرام» الحلم الأجمل في حياة «هيكل» والذي رفض الوزارة عدة مرات في سبيل أن يظل رئيس تحريرها. «بصراحة» كان اسم عمود هيكل الذي أطل به يوم 10 أغسطس 1957 كرئيس تحرير الأهرام، ليودعها في آخر مقال له في عهد الرئيس السادات بعد أن أطاح به من رئاستها ليكتب مودعا قراءه في 1 فبراير 1974 بعنوان الظلال والبريق. «هيكل والسادات» ظن الرئيس السادات أن إطاحته بهيكل من مؤسسة الأهرام سيقضى عليه نهائيا، ولكن حلمه لم يتحقق وظل اسم «هيكل» في عالم الصحافة يزداد بريقا وأصبحت كتبه تترجم لأكثر من 31 لغة. «اعتزاله الصحافة » بعد أن أتم عامه الثمانين، أعلن «هيكل» اعتزاله الكتابة المنتظمة والعمل الصحفى في 23 سبتمبر 2003، إلا أن إطلالته لم تتوقف سواء من خلال لقاءاته في القنوات الفضائية الخاصة أو كتبه، أو حواراته مع كبريات الصحف العالمية.