قلت أمس إن مكافحة الجهل والفقر والمرض هى أساس إعادة بناء المجتمع المصرى، ودعوت القوى الديمقراطية فى مصر للتركيز على هذه المهام بدلا من إضاعة الوقت فى مناقشة هُوية مصر وزِىّ المرأة. سألنى صديق: ولِمَ تريد إقحام منظمات المجتمع المدنية والسياسية فى ما هو صميم عمل الحكومة.. أليس الإنفاق على التعليم والصحة والعمل جزءا أساسيا من الموازنة العامة؟ وهل يمكن لمؤسسات خاصة مهما عظم شأنها أن تضطلع بما فشلت فيه الدولة عبر ستين عاما؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هى: نعم. التعليم والصحة والعمل من صميم عمل الحكومة وجزء كبير من ميزانية الدولة، لكن وجود مؤسسة وطنية أهلية كبرى ترشد وتراقب وتدعم وتسد الثغرات هو أمر لا غنى عنه للنجاح فى المهمة التى فشلت فيها الحكومات المتعاقبة. دعنى أوضح. وزارات التعليم والصحة والعمل مهروسة بين المطرقة والسندان: السندان هو ثقل أجهزتها المفرط والذى يبطئ حركتها ويعجزها عن الإتيان بجديد أو مراجعة أدائها وتغييره، وهذا أمر لن يتغير فى المستقبل القريب. المطرقة هى ضغط وإلحاح جدول العمل اليومى الذى على هذه الوزارات الاستجابة له بما لا يترك لها أو للقائمين عليها الوقت أو الطاقة أو التركيز اللازم للتفكير فى أبعد من الخطوة أو الخطوتين القادمتين. صحيح أن بهذه الوزارات إدارات للتخطيط، لكن كل من عمل فى الحكومة يعلم جيدا أن هذه الخطط لا تترجم إلى سياسات. إذن، هناك دور هام لا يقوم به أحد تقريبا، وهو التخطيط، إضاءة النور لخطواتنا التالية. أين نريد أن نأخذ التعليم والصحة والعمل فى السنوات القادمة؟ من يضع هذه الإجابة؟ هيئة المعونة الأمريكية وخبراؤها؟ موظفو وزارات التربية والصحة والعمل؟ الوزراء حسبما يعن لهم؟ لا أحد؟ أم تضعها مؤسسات وطنية أهلية بعد حوارات مع أصحاب الشأن من قطاعات المجتمع المعنية والخبراء والموظفين؟ هذه هى وظيفة الإرشاد التى أتحدث عنها. وظيفة المراقبة مفهومة، لكنها لا تتم. هل يراقب أحد أداء وزارات التعليم والصحة والعمل فى ريف مصر ومناطقها النائية، بل وفى القاهرة نفسها؟ هل توجد جهة يذهب إليها المواطن شاكيا حين لا يجد الحد الأدنى من الخدمة المطلوبة وتسد فى وجهه الطرق الرسمية لحل المشكلة؟ هناك إذن حاجة إلى شبكة من مراكز المراقبة التى يمكنها نقل هذه الشكاوى وترجمتها إلى حلول. هذه الشبكة لا يمكن أن تنجح إلا لو كانت أهلية ومستقلة عمن تتم مراقبة أدائه. وظيفة الدعم أيضا مفهومة، مثل المساهمة فى تجديد أبنية المدارس أو بمعدات طبية لمستشفيات، وهناك جهد حميد فى هذا المجال. لكنه يحتاج إلى التعميق والتوسيع والتطوير وإلى تمكين المواطن العادى الذى يرغب فى المساهمة بأن يفعل ذلك. ووجود مؤسسة وطنية تحظى بالثقة يمكنه أن يدفع هذه الجهود المتناثرة لآفاق أوسع وأشمل. وظيفة سد الثغرات لا تقل أهمية، وتشمل العديد من النشاطات، ابتداء من توفير مراكز لرعاية الأطفال حيث لا يوجد، مرورا بتنظيم حملات محو الأمية، وإنشاء مراكز للطب الوقائى، وانتهاءً بالمساهمة فى توظيف أبناء وبنات مناطق مهمشة بعينها. وسد الثغرات هذا لا يقدر عليه إلا المؤسسات الأهلية بما تتمتع به من مرونة وقدرة على الحركة السريعة دون انتظار لمواعيد الموازنة العامة وتطوير الخطط والهياكل التى لا تنتهى منها أبدا مؤسسات الحكومة. لا أدعو لإنشاء حكومة بديلة، وإنما لإنشاء مؤسسة وطنية كبرى ترشد وتراقب وتدعم وتسد الثغرات فى عمل الحكومة فى مجالات التعليم والصحة والعمل. هذه المؤسسة يجب أن تقوم بتمويل وطنى أساسا، من المواطنين (والخبرة تؤكد أن آلاف المواطنين يساهمون فى هذه المؤسسات حين يلمسون فيها الجدية والمصداقية) والشركات الكبرى والبنوك والمؤسسات التمويلية. وبديهى أن تدار هذه المؤسسة بشكل شفاف وتشارُكى وتحت إشراف مجلس أوصياء من شخصيات ذات مصداقية. إن كان طلعت حرب قد وضع لبنة الاقتصاد المصرى الحديث بمشروع بنك مصر، فإن القوى الديمقراطية تستطيع الآن أن تضع -بهذه المؤسسة- لَبِنة المجتمع المصرى الحديث.