حين دخل مبارك قاعة المحكمة فى الجلسة الثانية لمحاكمته يوم 15/8/2011، بدت على وجهه علامات الغضب وظهرت أيضا نفس العلامات على يديه اللتين كان يحركهما بعصبية وتوتر واضحين، بينما هو يتحدث إلى نجليه علاء وجمال. وربما يكون هذا الغضب بسبب تكرار حضوره إلى المحكمة ودخوله هو وولداه إلى القفص، وهو موقف ضاغط ومزعج لأى إنسان، فما بالنا بمن تربعوا على عرش مصر لسنوات طويلة، وأزلوا أهلها وجعلوهم شيعا وأمرضوهم وأفقروهم ونهبوهم واذدروهم واستعلوا عليهم. ومرت لحظات ليستسلم مبارك لحالة أخرى من السكون «القرفان» والتعالى فيغمض عينيه (بلا نوم) وكأنه لا يكترث بما يحدث، بينما تتحرك أصابعه على فمه من وقت لآخر لتكشف عن حالة من اليقظة المستترة تتابع ما يجرى، وتؤكد ذلك نظرة من طرف خفى يمدها بين الحين والآخر إلى قاعة المحكمة، تلك النظرة الممزوجة بالتعالى والاذدراء لما يدور أمامه ومن حوله. ويشبك يديه على صدره فى إشارة دفاعية، بينما يحرص على ظهور ال«كانيولا» (التى يأخذ من خلالها المحاليل والحقن)، فى إشارة استعطاف واضحة. ومسألة الاستعطاف تغلب على المشهد الدرامى وتبدو أحيانا فجة ومبالغا فيها، فكثير من التقارير الطبية التى تنشر تفيد بأن الحالة الصحية لمبارك لا تستدعى الدخول على سرير، ولكن يبدو أن هذا المشهد السريرى يؤدى دورا تعاطفيا يريده مبارك أو يقترحه عليه مستشاروه ومريدوه، وعلى الرغم من فشل هذه الوسيلة فى الجلسة الأولى فإن الطبيعة النمطية التكرارية لمبارك تجعله يعيد ما ثبت فشله. ويظهر إصرار جمال وعلاء على إخفاء أبيهما بتكوين ساتر بجسديهما، ولكنهما يتحركان قليلا تحت إصرار الحاضرين فى المحكمة، بل ويتركان فرجة يطلبها أبوهما ليتمكن من مد بصره (حين يريد) ليتابع ما يجرى فى المحكمة. وإذا كانت دفاعات مبارك قد ضعفت هذه المرة -مقارنة بالمرة الماضية- فإن دفاعات جمال أيضا قد ضعفت، وبدا أكثر قلقا وأقل تماسكا، وإن كان يحاول أن يعود إلى القناع السياسى الذى تعود عليه هو وأبوه، أما علاء فقد بدا عليه نفس قلق المرة السابقة، على الرغم من محاولاته لإخفاء ذلك. وكلاهما (علاء وجمال) يصر ليس فقط على حمل المصحف بل على إظهاره، ربما تحصنا أو دفاعا أو استعطافا (والله أعلم بالنيات). وفى الجزء الثانى من جلسة المحاكمة بدا جمال وعلاء أكثر تفاؤلا وتبادلا ابتسامة سريعة، وربما يكونان قد سمعا أخبارا مطمئنة (أقلها عدم إذاعة الجلسات القادمة تليفزيونيا)، بينما بدت على مبارك حالة من الزهق ومحاولة الانفصال (أو التظاهر بالانفصال) عما يدور. وعند انتهاء الجلسة تتعالى الهتافات فى قاعة المحكمة: «يا جمال قول لأبوك.. المصريين بيكرهوك»، وهو أحد الهتافات الشهيرة إبان ثورة 25 يناير، ولكن ربما يسمعه جمال وعلاء ومبارك لأول مرة بشكل مباشر، وهنا تظهر استجابات متناقضة ومحيرة، إذ يرفع جمال وعلاء إصبعيهما بعلامة النصر، ثم يلوحان لجمهور المحكمة بحركة تحية رئاسية. وإذا تساءلنا: ما مبررات هذا النصر، وعلى من ينتصر أبناء مبارك؟ أينتصرون على أهل الشهداء؟ أم ينتصرون على الشعب المصرى الذى يحاكمهم؟ ثم ما مغزى هذه التحية الرئاسية وهم يودعون قاعة المحكمة؟ هل يظنون أنهم ما زالوا فى السلطة أو أنهم عائدون إليها فى وقت ما؟ إنها ألغاز، ولكن الواضح هو انفصال هذه العائلة بأفكارها ومشاعرها عن الشعب المصرى وعدم قدرتها على استقبال رسالاته والاستجابة لها بشكل صحيح. وإذا أضفنا المشهد خارج قاعة المحكمة إلى مجمل الصورة، حيث حضر نحو مئتى بلطجى يدّعون أنهم أبناء مبارك فيوسعون أهالى الشهداء ضربا وقذفا بالحجارة، بينما تقف قوات الشرطة لا تحرك ساكنا، بل يتم الهجوم على وسائل الإعلام (غير الموالية لمبارك وفلوله) فى حين تقف الشرطة وكأن الأمر لا يعنيها، هؤلاء المعتدون تبدو على ملامحهم وتصرفاتهم بوضوح كل علامات البلطجة، وربما يعرفهم رجال الأمن بالاسم والعنوان، ومع هذا يتركون لهم الفرصة لإنجاز مهمتهم فى ترويع وضرب أهالى الشهداء ومؤيدى الثورة، بينما يسارع نفس الجهاز الأمنى إلى استحضار فتاة مسالمة من اللاتى شاركن فى الثورة تدعى أسماء محفوظ لتقف أمام النيابة العسكرية وتخرج بكفالة عشرين ألف جنيه جراء كلمات كتبتها على «فيسبوك». هذا المشهد (داخل القاعة وخارجها) يوحى بمخاطر جمة، أقلها أن أبناء مبارك ومريديه ومؤيديه بدؤوا يعيدون ترتيب صفوفهم وتماسك قياداتهم (وهم ما زالوا موجودين فى كل أركان النظام حتى الآن)، ووصلوا إلى الحالة التى جعلت جمال وعلاء مبارك يرفعان إصبعيهما بعلامة النصر ويلوحان للجماهير بتحية رئاسية، بينما الثوار يتصارعون وهم عن الثورة غافلون أو مغفلون.