لقد انكشفت الصورة التى كان بعض تفاصيلها خافيا علينا فى بداية الأيام الأولى لانزياح الرئيس المخلوع، وأصبح من يتمتع بقدر ضئيل من الوعى السياسى يرى أن حسنى مبارك لم تكن له أهمية كبرى فى النظام السياسى المصرى، لأن العناصر المتحالفة مع أمريكا تملك أوراقا كثيرة للعب، وتستطيع أن تحرق الولد جمال أو الشايب حسنى أو السنيورة الشمطاء دون أن تفقد فاعليتها وتمثيلها المصالح الأمريكية. و لقد كان يثير دهشتنا منذ 12 فبراير الماضى التباطؤ فى اتخاذ إجراءات بحق العصابة الحاكمة، وعدم الإقدام على خطوات رجولية لصالح استعادة الأموال المنهوبة. وحتى عندما كان القضاء يتكفل بالإتيان بحقوق مصر التى لا يبدى العسكريون حماسا لاسترجاعها، مثل المصانع والشركات التى قضت المحاكم بعودتها إلى مصر، التى باعها اللصوص لأصدقائهم اللصوص بتراب الفلوس، كنا نفاجأ بأن هذه الأحكام لا تنفذ.. والسبب المعلن هو الخوف من تطفيش المستثمرين! والحقيقة أن أحكام القضاء ليست نصائح استرشادية وإنما هى واجبة النفاذ فى كل الأحوال حتى يعلم المستثمرون أنهم فى دولة لا فى خرابة. كل هذا كنا نراه ونقول لأنفسنا: ماعلهش.. إنهم حديثو عهد بالسياسة وبالكاد يتعرفون على التضاريس والخرائط المجتمعية.. فلنتركهم يتعلمون ولسوف يأخذون القرارات السليمة فور أن تصل إليهم الصورة! كنا مساكين لا نعى حقيقة الموقف ولا نفهم الصورة الاستراتيجية التى يمثل فيها نظام حسنى مبارك، بصرف النظر عن وجود الرجل أو غيابه أساسا لتحقيق المصالح الأمريكية وعدم الخروج عنها. والحقيقة أن الولاياتالمتحدة لها فى المنطقة ذراعان قويتان نجحت من خلالهما فى إخضاع مصر ووضع أنفها فى التراب. الذراع الأولى تتمثل فى إسرائيل بقوتها العسكرية الرهيبة وجيشها المتطور الذى ضمنت له أمريكا التفوق على جميع جيوش العرب، ومن خلال هذه الذراع استطاعت أمريكا أن تسمع مصر وهى تستغيث بالولاياتالمتحدة أن تتدخل لدى إسرائيل لتقبل فض الاشتباك بين القوات فى نهاية حرب أكتوبر، وتفرج عن الجيش الثالث الذى كانت تحاصره بعد أن تقدمت قوات شارون وعبرت القناة وحاصرت السويس، ثم قطعت طريق القاهرةالسويس، وقطعت إمدادات الجيش الثالث، وأنهت الحرب بنتيجة هى أقرب للتعادل واحد واحد، بعد أن أن ظلت إسرائيل مهزومة طوال الأسبوع الأول من الحرب. بعد ذلك اتسعت الهوة العسكرية بين العرب وإسرائيل فوق اتساعها، وعجزت مصر عن الفعل العسكرى مرة أخرى، الأمر الذى اضطر الرئيس السادات إلى القيام بمقامرته الشهيرة وزيارة إسرائيل، ثم عقد الصلح واتفاقية السلام معها. إذن الذراع الأمريكية المتمثلة فى إسرائيل هى التى أجلست مصر على مائدة المفاوضات وجعلتها تعترف بإسرائيل وتدخل معها فى تحالف سياسى وعسكرى، لتحارب الدولتان معا فى كل معارك أمريكا فى المنطقة سواء حربها فى العراق أو أفغانستان أو فى غزة والجنوب اللبنانى.. كلها فى النهاية معارك أمريكا سواء تدخل فيها الجيش الأمريكى أو أوكل الأمر إلى إسرائيل وصبيتها الصغار من العرب. هذا عن ذراع أمريكا الأولى فى الشرق الأوسط.. أما الذراع الثانية التى ساعدت على إخضاع مصر ووضع رأسها تحت الحذاء الأمريكى فهى المملكة العربية السعودية، ولها فى هذا الشأن دور أكبر مما لإسرائيل، لأن الكيان الصهيونى هو فى النهاية عدو فى نظر شعب مصر مهما تحالف معه الحكام وانبطحوا أمامه، أما السعودية حليف إسرائيل الأول فتختبئ تحت الثوب الوهابى وتتدثر بالحرمين اللذين تصادف وقوعهما فى الأرض التى بسط عليها أبناء عبد العزيز سيطرتهم برعاية القوى الاستعمارية، وهى الصورة التى توحى للناس فى مصر بأننا بإزاء دولة شقيقة نشد الرحال إليها لنحج ونعتمر، فى حين أن تآمرها على الشعب المصرى لم ينقطع دقيقة واحدة منذ أيام جمال عبد الناصر وحتى الآن. وليس سرا أن السعودية قد تحالفت مع إسرائيل فى حرب يونيو 67، وشاركت إسرائيل تحقيق النصر على الشعب المصرى وقطف ثمار ذلك النصر.. إسرائيل وسعت رقعتها بعد احتلال أراضى أربع دول عربية وصارت الوحش الذى يخيف العرب، والسعودية ورثت القيادة من مصر المهزومة، وأخذت تصدر لشعبها كل صور الحياة السعودية من نقاب ولحية وجلباب قصير وخطاب دينى سخيف يركز على القشور ولا يقترب من مسائل العدل والكرامة وحكم الشعوب لنفسها والمشاركة فى الثروة والمحاسبة والشفافية، كما استولت بالفلوس على التراث السينمائى المصرى وهى الدولة التى تحترم الفنون، وأخضعت جانبا كبيرا من الكتاب والصحفيين باستكتابهم فى صحفها التى ملأت الكرة الأرضية! نجحت السعودية فى سنوات قليلة فى تحويل الدولة التى هزمتها عسكريا بمشاركة إسرائيل إلى دولة محتلة ثقافيا ووجدانيا من قبل البدو أصحاب المال اللا محدود، وأمّنت لنفسها فى مصر طابورا خامسا خرج مؤخرا فى بعض المظاهرات يحمل الأعلام السعودية فى ميدان التحرير، على الرغم من أن الدولة صاحبة تلك الأعلام حاربت الثورة المصرية بضراوة ووقفت ضدها بالمال والتآمر الخفى، ومارست ضغوطا شديدة على المجلس العسكرى الذى تظاهر أنه يتوجع من الضغط بينما هو يشارك السعودية نفس موقفها من حب المخلوع وإيثاره على الثورة وشبابها الأهوج، الذى يريد تغيير المعادلة المتفق عليها بين إسرائيل والسعودية وعصابة المخلوع بإخضاع الشعب المصرى لصالح الولاياتالمتحدة.