كثيرون من زملائى وأصدقائى المعلقين والكتاب ركزوا كتاباتهم وتعليقاتهم على المهرجان الدموى الرهيب الجديد الذى أقامته الشرطة فى ميدان التحرير طوال ساعات يوم السبت وحتى كتابة هذه السطور (ظهر الأحد) على معنى واحد، هو عودة الست الشرطة بالسلامة إلى ممارسة القمع الوحشى ضد المتظاهرين والمحتجين السلميين، كأن لا ثورة قامت ولا شعب انتفض ولا وطن تغير ولا مخلوع سقط، لكن أغلب التعليقات غابت عنها ملاحظتان اثنتان لا تخلوان رغم المأساة من طرافة ولطافة، أولاهما أن الست هانم الشرطة هذه (وشقيقتها الشرطة العسكرية وأى شرطة أخرى فى البلد) لا نرى خلقتها ولا تفعل شيئا ولا تتشطر أبدا إلا على الشباب المسالم الذى يذهب إلى ميدان التحرير للتعبير عن الرأى فى فترات خلو الميدان من أوتوبيسات إخوتنا «القندهاريين»، أما قطعان المجرمين والبلطجية والقتلة وقطاع الطرق والمحرضون على الفتنة والعنف الطائفيين الذين يسرحون ويمرحون ويعيثون فسادا براحتهم فى طول البلاد وعرضها، هؤلاء جميعا كل «الشرطات» تدلعهم وتدللهم، وربما تشجعهم وتكاد تعمل فى خدمتهم طول الوقت. غير أن الملاحظة الثانية فى ما جرى وما زال يجرى فى ميدان التحرير، فهى تبدو أكثر طرافة وأشد إثارة للضحك (الضحك الأمرّ من البكاء) من الأولى، إذ إننا ولا فخر صرنا البلد الوحيد فى هذه الدنيا الذى يتميز بأن الشرطة عندما تتحرك لكى تقمع تظاهرة أو اعتصاما سلميين يسقط ضحايا يصل عددهم إلى أضعاف عدد المشاركين فى المظاهرة والاعتصام!!! يعنى مثلا، أجمعت كل التقديرات أن أعداد الشباب المعتصم فى ميدان التحرير منذ مساء الجمعة تضامنا مع مصابى الثورة الذين يعانون إهمالا إجراميا، لم تزد على 150 أو 200 شاب، بينما وصلت حصيلة ضحايا الساعة الأولى من زمن الهجوم الحربى الذى شنه أشاوس الشرطة على هؤلاء الشباب إلى نحو 400 جريح وشهيد واحد (ارتفع العدد بعد ذلك إلى ضعف هذا الرقم تقريبا)!! الملحوظتان المضحكتان المبكيتان هاتان إلامَ تشيران وعلى ماذا تدلان؟ هما تشيان وتقطعان بحقيقة واحدة واضحة وضوح الشمس لم يعد هناك سبيل لإنكارها ولا الهروب منها، خلاصتها أن منظومة الأجهزة الشرطية والأمنية فى دولتنا تعانى تشوها وانحرافا خطيرين يضربان، للأسف، فى أساس بنيتها التنظيمية ونسبة كبيرة من مكوناتها البشرية، ولعل ذلك هو دافع وسر كل مخزون الغل والحقد والرغبة المريضة فى الانتقام من الشعب الذى يتحين بعض أفراد وقيادات الشرطة أى فرصة أو مناسبة لكى يستخرجونه من مكنونات صدورهم فيندفع أهوج كحمم البركان ويظهر فى صورة مسلكيات منحرفة وقاسية ومتهورة ومخلوطة كذلك، بقدر هائل من انعدام الانضباط وبؤس الكفاءة المهنية. إن هذه الحقيقة المفزعة لن تعالج بمسكنات وترقيعات ومراوغات وأكاذيب كالتى رأيناها وسمعناها منذ اندلاع الثورة حتى الآن، وإنما الطريق الوحيد لعلاجها يمر أولا عبر التسليم والاعتراف بها، ومن ثم وضع خطة واضحة (متدرجة بطبيعة الحال) تهدف إلى إعادة بناء وتأهيل كل أجهزة الأمن ومؤسساته المختلفة بحيث تتغير جذريا عقيدتها وثقافة منتسبيها بما يلائم ويتماشى مع المجتمع الحر ودولة القانون اللذين ثار الشعب المصرى وضحى من أجل أن يتمتع بالحياة تحت ظلالهما. كما لا بد أن تشمل عملية إعادة التأهيل توعية عناصر الشرطة والأمن بأن العمل الشرطى هو بالأساس مهنة لها أصول ومعايير وأخلاقيات وأن من يمارسها لا بد أن يتدرب ويتسلح بمهارات أغلبها عقلى وأقلها عضلى، وهذا هو الفرق بين الشرطى والبلطجى.. لكن أقول لمين، ومين ح يسمع ندايا؟ (مع عظيم الاعتذار لأم كلثوم التى قد يحرمنا «القندهاريون»من شدوها)!!