سؤال: هل كان أهل نصف القرن الأول يضفون على الصحابة من القداسة ما يحاول الإسلامجيون الحاليون أن يضفوه؟ لا، أبدا، وقطعا. لو فعلوا لما خرجوا على الخليفة عثمان بن عفان، ولما خرجوا على الخليفة على بن أبى طالب. وأنا هنا لا أتحدث عن الفرق «المارقة»، إنما أتحدث عن على وطلحة والزبير (ثلاثة من المبشرين بالجنة) ضد عثمان، ثم عن (طلحة والزبير ضد على). كل هذه الحروب سبقتها وواكبتها دعاية متبادلة استخدمت فيها أبشع الاتهامات، بالفساد والسعى وراء الحياة الدنيا ومخالفة الدين. لم يكن الخائض فيها كبار الصحابة من قواد الحركات فقط، إنما عوام المسلمين أيضا. إنما تقديس الصحابة بهذا الشكل أمر متأخر، اخترعته السلطة اللاحقة التى أرادت تجريم انتقادها هى نفسها وتجريم الخوض فى شرعيتها، فجرمت الخوض فى انتقاد السلطة الأم التى تدعى أنها وريثتها الشرعية. هل الجملة السابقة مفهومة إلى حد كافٍ؟ أرجو ذلك، لأنها مهمة فى هذا السياق. السلطة اللاحقة جرمت انتقاد السلطة التى نشأت عقب وفاة النبى فى إطار سعيها هى لاكتساب شرعيتها من الدين. فى حين أن السلطة الدينية المعارضة (الشيعة) بالغت فى انتقاد الصحابة تشكيكا فى السلطة القائمة، وبالتالى فى إطار استعدادها هى لتقديم صورة السلطة البديلة التى كانت يجب أن تكون. وكلاهما وجهان لعملة واحدة.. الصراع على شرعية الحكم باسم الدين. صراع لم ولن يتوقف فى أى مكان تحاول فيه السلطة ادعاء أنها تحكم باسم «الحق». حتى على بن أبى طالب أدرك هذه الحقيقة، فقال لوفده الذاهب إلى محاججة وفد معاوية بن أبى سفيان «وكلاهما كان يدافع عن (الحق)»: «ولا تجادلوهم بالقرآن فإنه حمال أوجه». الحركات الإسلامية المعاصرة تسعى إلى إحياء شرعية السلطة القديمة، وتمارس مع من يدعون إلى إحياء شرعية السلطة باسم الشعب نفس الدور الاستبدادى الذى مارسته السلطة القديمة. ومن ذلك يأتى إصرارهم على تلقيمك الرواية تلقيما، ومن ذلك إصرارهم على إحاطتها بهالة من القداسة تمنعك من أن تقولى للناس لا تصدقوهم، فإنما هم بشر مثلكم. ما الذى يجعلك تثقين فى معرفتهم بالسياسة أكثر من نفسك؟ لا شىء. لا شىء سوى ادعائهم أن مثلهم العليا أقاموا فى السابق عالما مثاليا. أى محاولة منك لتقديم صورة بشرية، طبيعية، مختلطة، موضوعية، لهذا العالم ستقابل بكل عنف وقوة. لكن عودى واسألى نفسك مرة بعد مرة السؤال الذى بدأت به مقالى، واطمئنى. ثم قولى لنفسك: هل أئتمن رجل الدين بعلمه الدينى على علاجى من مرض ألمَّ بى؟ إن كانت الإجابة بنعم فصاحبة الإجابة -بلا مواربة- حمقاء، ولها الحق فى ممارسة حمقها على نفسها. وإن كانت الإجابة بلا، فعممى نفس الشىء على السياسة، وعلى الفلك، وعلى وعلى. لاحظى أننى لا أدعو إلى إقصاء رجال الدين من ممارسة السياسة، ما أدعو إلى منعهم منه هو استخدام سلطة الدين فى ممارستهم السياسة. عليهم أن يخوضوا المجال بتواضع ومساواة وإقرار بأنهم -فى السياسة- مثلهم مثلك، لا فرق إلا بحسن الأداء. المشكلة أننا نستطيع فى العلوم التطبيقية فضح زيف المدعين بسهولة، من أجل ذلك تقدمت البشرية فى تلك العلوم تقدما كبيرا، ومن أجل ذلك يتجنب رجال الدين «الفتى» فيها إلا بعد دراستها والتخصص فيها مثلهم مثل أى متخصص آخر، وإلا فمن تجرأ منهم وخاض فيها اعتمادا على تأويله الدينى فقط أثبتت الأيام جهله وانفضح. لذلك تسير العلوم التطبيقية فى منحنى تصاعدى، يتباطأ فى فترات الظلام لكنه لا يندثر. أما فى العلوم الاجتماعية فإن المجال -للأسف- مفتوح لكل دعى لأن يدلى بدلوه. ومن أجل ذلك تعيش البشرية فى دورات أخلاقية واجتماعية ذات صعود وهبوط. لو جربنا المنهج التجريبى الذى نستخدمه فى العلوم التطبيقية على سؤال «السلطة باسم الدين»، لوجدنا أن التاريخ يثبت أنها فشلت فشلا ذريعا، سواء هنا أو فى أى مكان آخر فى العالم، ولكان الخيار الوحيد المنطقى هو أن نفر منها كما يفر المرء من الطاعون. لكن دعاة السلطة الدينية يتحايلون على الأمر بإحاطة فترات السلطة الدينية بالأساطير والأكاذيب، وحماية هذه الأساطير والأكاذيب بدائرة من التقديس تحرم على أى من كان الخوض فيها. مرة أخرى: اسألى نفسك السؤال الذى سألته فى بداية المقال، واطمئنى.