في العدد الأسبوعي من جريدة الدستور «الأصلي» يوم الأربعاء 14 نوفمبر 2007 كتبت مقالا بعنوان «تقبيل الروح»، وكان الإهداء: «إلى إبراهيم عيسى وجنون الشجعان في صحافتنا الحرة». ففي تلك الأيام كان النظام يضيق حلقة التهديد بالسجن على إبراهيم عيسى، بزعم أنه أشاع أخبارا «كاذبة» عن صحة الرئيس! ولم تكن تلك غير فرية ينال النظام بها ليس من إبراهيم عيسى وحده، بل من الجريدة التي كانت بلا سقف، ولا تعترف بأية خطوط حمراء، وقد شرفت في هذه الفترة أن أكون واحدا من كتابها، وجنود كتيبتها الذين كانت شجاعتهم تقض مضاجع دهاقنة النظام الساقط، حيث تخصص إبراهيم عيسى في رأس النظام ووريثه، وتكفل بقية المحررين والكتاب ببقية مكونات هرم الاستبداد والفساد، في حالة من الجرأة لم أجد وصفا لها أفضل من تعبير «جنون الشجعان» الذي صكه الأديب الإنساني مكسيم جوركي، والذي كنت أستعيده في كل موقف أرى فيه أن الشجاعة، ولو إلى حد الجنون، مطلوبة في مواقف بعينها، وهي إن لم تكن منجية من الهلاك، فهي تقود إلى الهلاك بشرف، وهو نوع من نجاة الروح تهون مقابله كل الخسائر، وقد كانت في جعبتي عن جنون الشجعان، هذا حكاية جعلتها مدار تلك المقالة في «الدستور» الأصلي، في ذلك اليوم.. تقول الحكاية إن ولدا محبا وحبيبته استقلا قاربا صغيرا في النيل قرب الغروب، ولم يشعرا بانزلاق الشمس خلف الأفق وحلول الظلمة، لأن في قلبيهما كانت تسطع ألف شمس وشمس تتوهج بالحب، لكن خارج قلبيهما المضيئين كان ينبثق من جوف الظلمة مركب تكدس فيه حشد من الأشقياء يتجهون نحوهما، كانوا عشرة بلطجية ضخام الأجساد، مدججين بالمطاوي والسنج التي تبرق نصالها في العتمة، بينما كان جسد العاشق رقيقا ويداه عزلاوين، أمر حبيبته أن تهبط في بطن القارب، وقد اعتلى ظهره متسلحا بأحد المجدافين، وقد قرر أن يقاتلهم ليبعدهم عنها حتى وهو يغرق، وقد كان لا يعرف السباحة، وعندما ضرب مقدم مركبهم جانب الزورق كان العاشق قد تحول إلى جذوة نار. صرخ فيهم بصوت جنوني، شاهرا حد مجدافه، مهددا بأن أحدا منهم لن يعبر إليهما إلا جثة أو على جثته، ويبدو أن الأشقياء العشرة الذين ظنوها سانحة اغتصاب سهلة، أدركوا أنهم بصدد جريمة قتل لم يتهيؤوا لها. ثم إنهم لم يعتادوا هذا الحب لحد الجنون الذي أبداه الولد، ومس وترا منسيا في دخائلهم المطموسة، وكان أن رفع الأشقياء أياديهم مرتبكين راجين الولد أن يهدأ بينما كان مركبهم يتراجع ويعود إلى ضفة الظلمة التي انبثق منها، فيما كان العاشق يقود زورق محبوبته باتجاه ضفة النور عبر تكسر الأضواء الراقصة على فرح الموج، وعلى الدرج الحجري الصاعد من حافة الماء إلى رصيف الكورنيش كانت البنت تلتصق بحانب حبيبها، محتضنة ذراعه المتساندة عليها، وراحت تنهمر على يده بقبلاتها التي ظل الولد يحس دفئها على يده ونداها في روحه، فقد كانت تقبل روحه. وظلت هذه القبلات في روحه حتى بعد أن ضاعت قصة الحب في زحام الدنيا واضطراب السنين، ظلت وديعة كبرى في رصيد كبريائه يشعر معها بالغنى، ويتصرف في ضوئها بلا تردد ولا ادعاء. يمضي وديعا بين الناس، لكنه مستعد للاشتعال في أي لحظة تهدد الحق أو العدل أو الكرامة، يحترق ويحرق بهذه النار الإنسانية المقدسة، نار جنون الشجعان التي تطهر الروح وتهدهد النفس بالرضا، فيغفو أصحابها مطمئنين حتى لو كانوا في سجن، ويستيقظون حامدين الله أنه لم يمسخهم خنازير ولا قردة.. ولا خرفان! كانت هذه حكاية حقيقية في قلب ذلك المقال المُهدَى إلى إبراهيم عيسى وكتيبة الدستور «الأصلي» والصحافة الحرة جميعها والكتاب الشرفاء كلهم في تلك الأوقات الصعبة. وها هي ثلاثة أعوام ونصف العام تمر لتثبت أن جنون الشجعان ينجي بالفعل. بل ينتصر على بغي هائل القوة، مدجج بكل أدوات القمع والقهر والأكاذيب التي كانت في حوزة النظام الساقط. صحيح أن أحدا لا يستطيع أن يدعي أن شجاعته وحدها كانت الطلقة التي أردت ذلك الطاغوت. لكن المؤكد أن الشجاعة تعدي. عدوى بالغة الجمال والرفعة والفعالية، عندما يصير المصابون بها ملايين. وقد ثبت أن الشجاعة كانت العين التي تنتصر على المخرز والدم الذي ينتصر على السيف والصدور العارية التي هزمت الرصاص الحي. إنه جنون الشجعان الذي أثمر في النهاية مأثرة جميلة تستحق الحفاظ عليها بشجاعة جميلة. شجاعة جميلة! هل هذا هو المطلوب الآن منا جميعا في صحافة مصر الحرة؟ ربما. أهمس بها في أذن إبراهيم عيسى وإبراهيم منصور وكتيبة «التحرير» وأنا أجيء مهنئا رفاق سلاح الأمس وأشقاء حلم اليوم، ثم أعود إلى بيتي في «الشروق»، وألقي نظرة عبر شرفة في مبناها باتجاه الجنوب الغربي، حيث تقع «التحرير» غير بعيد، فأجد أشهر أشجار صيف شوارعنا المصرية، البوانسيانا، وقد أكملت بهاء مظلاتها الرحيبة زاهية الخضرة، وتأججت زهورها الهفهافة بحمرة نيران تبهج ولا تحرق. إنه وهج الجمال. فتخطر لي مقولة دوستويفسكي «الجمال هو الذي سينقذ العالم». نطمح كلنا لصحافة جميلة.. مرحبا ب”التحرير”.