كل يوم نكتشف زيف ما قدمه نظام السادات لنا عن عبد الناصر وعصره، فلا يمكن أن ننسى أو نتناسى تلك الحملة الظالمة التى قادها السادات بنظامه وأعوانه، فور استلامه الحكم بعد وفاة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970.. شوهوا كل شىء فى حياة الرجل السياسية حتى وصلت بهم السفالة والبجاحة أن يشككوا فى ذمته المالية، ليخرج علينا السادات بمسرحيته السخيفة، مدافعا عن عبد الناصر وذمته المالية، وكأن الزعيم الخالد كان يحتاج إلى شهادة السادات أو غيره لإبراء الذمة، واستمرت الحملة سنوات وسنوات، وظل إعلام السادات وزبانيته «يمرمغون» تاريخ الرجل وهيبته فى التراب، متخيلين أنهم بذلك يرفعون السادات ليحاول أن يصل لقامة عبد الناصر. ولا بد أن نعترف أن هذه الحملات فشلت فشلا ذريعا، ولم تنجح إلا بعض الوقت، لأن الشعب المصرى العظيم كان وما زال قادرا على كشف ألاعيب السياسة ومهرجيها. وما هى إلا شهور وخرج علينا السادات بقانون 1971 والمنظم للاستثمار الأجنبى فى مصر، ليفتح أكبر عملية نهب وسرقة شهدها الاقتصاد المصرى طوال تاريخه، وجرنا الانفتاح الاقتصادى الذى ابتدعه السادات إلى تحطيم أكبر صرح اقتصادى مصرى، وهو القطاع العام، الذى بنيت على أكتافه مصر الحديثة. ونجح تخطيط السادات فى تحطيم القطاع العام، بعد أن أقنع الكثيرين أنه يمثل خسائر كبيرة للاقتصاد القومى، وبدلا من البحث عن قيادات محترمة لإدارة القطاع والبحث عن أموال تضخ فيه، حتى يتسنى له أن يقوم بدوره لم يفعل السادات ذلك وقاد أكبر حركة تخريب لهذا القطاع. عندما مات جمال عبد الناصر شهد التاريخ الإنسانى العالمى أكبر جنازة للرجل فى العصر القديم والحديث.. مات عبد الناصر ولم يترك مصر خرابا، كما زعم السادات وأعوانه، وترك الاقتصاد المصرى ليس فى أحسن الأحوال، لكنه كان واقفا لا صريعا.. ترك لنا موروثا وطنيا يبحث عنه الثوار فى كل مكان على الأرض.. مات وهو يبحث عن كل ما هو خير للفقراء فى مصر.. مات وهو يدافع عن أرضه وعرضه.. مات مهزوما من إسرائيل، ولكنه لم يمت مقهورا منها، فكانت حرب الاستنزاف التى قادها ضد الاحتلال الصهيونى مثالا على أن عبد الناصر مات مرفوع القامة، ولم يمت مقهورا أمام إسرائيل، فى الوقت الذى رأينا فيه زعماء مصريين آخرين يقدمون كل الخير إلى إسرائيل.. يقدمون إليها الغاز ببلاش، ويسخّرون مصر العظيمة الشامخة بإمكاناتها العالية لخدمة إسرائيل وأغراضها فى المنطقة العربية، لذلك لم يكن غريبا أن تخرج الآلاف من مصر، لتشيع جنازة ابن الزعيم خالد عبد الناصر، لنشاهد حشود الجماهير المصرية وهى تودع خالد بالهتاف والبكاء، طالبين له الرحمة، مطالبين إياه بأن يبلغ أباه أنهم ما زالوا يتحسرون عليه وعلى أيامه، وأيضا لم يكن غريبا أن ترتفع صور الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وسط ميادين مصر فى ثورة 25 يناير، خصوصا ميدان التحرير.. رفعها الثوار وهم يطالبون بالحرية والعدالة الاجتماعية التى كثيرا ما حققها عبد الناصر لشعبه. عندما سئلت الدكتورة هدى عبد الناصر «كيف عاشت الأسرة بعد موته؟» قالت «عشنا فى حضن الشعب المصرى وأعينهم، ولا يمكن أن تتصوروا كيف يتعامل الشعب المصرى مع أى فرد من أسرة عبد الناصر ومع أحفاده أيضا طوال الفترة من 1970 إلى الآن، ولم يكن غريبا وأنا أشارك فى مؤتمر «مصر أولا»، الذى عقد بقاعة المؤتمرات الكبرى بالقاهرة، بدعوة مشكورة من المهندس المحترم ممدوح حمزة، والناشط السياسى الكبير حمدى الفخرانى، لم أندهش وأنا أرى هذا المشهد الذى من الصعب أن تراه مع شخص آخر غير عبد الحكيم بن جمال عبد الناصر وهو يقف تحيط به آلاف الحاضرين للمؤتمر، يقدمون إليه التحية والشكر على ما قدمه أبوه لهم، ولا يمكن أن أنسى أن كثيرين منهم لم تمكنه الظروف من الحديث إليه فكان «يملس» على كتفيه حتى يحصلوا على أى شىء من رائحة عبد الناصر. الجميع حوله وقفوا يؤكدون حبهم لأبيه، واحترامهم العميق لهما، وهو واقف لا يجد أى كلمات يعبر بها إلا «شكرا.. شكرا»، وما هى إلا دقائق وبدأت وقائع المؤتمر، وطلب من عبد الحكيم عبد الناصر الوقوف على المنصة لإلقاء كلمة، ولا يمكن أن أصف لكم حجم التصفيق الذى ضج بالقاعة التى تحمل أكثر من 5 آلاف عضو، فمنذ أن قام عبد الحكيم من على كرسيه وحتى توجه للمنصة «تصفيق حار وهتافات مدوية باسم الزعيم الراحل»، نظرت إلى الجميع لأتصفح الوجوه فرأيت مصر كلها.. فلاحين.. عمال.. مثقفين.. فنانين.. سياسيين.. الكل وقف يصفق لعبد الناصر وابن عبد الناصر. عاش عبد الناصر بعمله وبحبه لأبناء وطنه وعاشت مصر بثورتها العظيمة فى 23 يوليو وبثورتها الأعظم 25 يناير.