الكتاب المقرر على طلاب الثانوية العامة تم تشويهه باقتدار وحذف فصول كاملة منه تحت دعاوى تزعم أنها تربوية اليد الحاذفة لم يكن غرضها نقيًّا بل أرادت أن تحذف غالبية الفصول التى تتعلق بمعارك طه حسين فى مواجهة التخلف فى كتابه «أصول التربية وقواعد الأسرة فى الإسلام» الصادر باللغتين العربية والإنجليزية، يقدم رجل الدين اللبنانى الدكتور عيسى الخاقانى، منهجا خاصا لاكتشاف الأخطاء التى تمارسها أمتنا فى منعطفات حركتها وتعرجات مسيرتها، ثم يضع الخطط التى من شأنها أن تكون منجاة لها أو منقذا من ضلال بعض أفرادها، معتبرا أن ذلك من أساس نشاط الأمة المسلمة لصالح نموها. كما لا يغفل الكتاب الصادر عن دار الأمير ببيروت ويقع فى 348 صفحة من القطع الكبير تطوّر علوم التربية والنفس والاجتماع، ومتطلبات العصر، بل يوظفها بنظرة إسلامية حديثة، وأحيانا مبتكرة لا تجانب الأصالة. كذلك لا يتجاهل الكتاب، كما يبدو أصلا من عنوانه، دور التربية السلمية فى نشأة أسرة سليمة قادرة على أن تكون فاعلة فى المجتمع، بعيدا عن الخزعبلات والقواعد الدخيلة على ثقافتنا الإسلامية وتقاليد ديننا الحنيف. منذ أن كتب طه حسين كتابه «فى الشعر الجاهلى»، ظلت جحافل الظلام تهاجمه بكل قواها فى كل ما يكتبه ويفعله ويقرره، وظل هو عنيدا ومقاوما وقاهرا لهذه الجحافل، مهما استشرست وتوحشت فى مواجهته والنيل منه، وبعد أن نجحت قوى الرجعية فى مصادرة كتابه الأصلى، وتم حذف ما اعتقدوا أنه كفر وإلحاد وتجديف، ظلوا خلفه حتى جاء يوم الأربعاء 20 مارس عام 1932، وانعقد مجلس الوزراء برئاسة إسماعيل صدقى وأصدر قرارا هذا نصه: «قرر مجلس الوزراء فصل الأستاذ طه حسين أفندى، الموظف بوزارة المعارف العمومية، من خدمة الحكومة»، وخرج طه حسين مطرودا من العمل والحكومة، ولم يكن له مصدر رزق ثابت، وكان مدينا للبنك بثمانية جنيهات، وظن خصوم طه حسين وأعداؤه أنهم انتصروا عليه وأسكتوا صوته إلى الأبد، ولكن طه لم يسكت، ولم تلن عريكته، ولم يتوقف عن مد الحركة الفكرية والثقافية والسياسية بكل ما هو ثورى وطليعى، وتوالت كتبه «الفتنة الكبرى، والأيام، ومستقبل الثقافة فى مصر، والمعذبون فى الأرض»، وظلت مواقفه التنويرية تتوالى الموقف تلو الآخر، حتى رحل منذ أربعين عاما فى 16 أكتوبر عام 1973، ورغم رحيله فإن هذه الجحافل لم تتوقف عن مطاردة فكره والنيل منه، ففى المنتصف الأول من هذا العام، وفى ظل «ولاية» جماعة الإخوان شؤون البلاد، اعتدى البعض على تمثال العميد، وهشموا رأسه فى المنيا، أما بعد رحيل الجماعة، أرادت وزارة التربية والتعليم أن تحتفل بذكرى رحيله الأربعين بإلغاء كتاب «الأيام» المقرر على الثانوية العامة، واستبدال كتاب «عبقرية عمر» لعباس العقاد به، لولا أن الطلاب احتجوا فقررت الوزارة أن تلغى القرار وتستبقى الكتاب المقرر منذ أعوام، وقرر الرجل المسؤول فى الوزارة أن كتاب الأيام بالفعل مطبوع وجاهز للتدريس، وهذا قرار محمود، ولكن الطامة الكبرى هى أن هذا الكتاب المقرر على طلاب الثانوية العامة تم تشويهه باقتدار، وحذف فصول كاملة منه، تحت دعاوى تزعم أنها تربوية وغير مقبولة وزائفة ويقول كاتب المقدمة: «حرصت اللجنة أن يكون من معايير الاختيار مواجهة الفروق الفردية بين طلاب هذه المرحلة فلا يكون العمل الأدبى مبالغا فى صعوبته فيعجز أمامه الطالب المتوسط، ولا دون المستوى، فيستهين به الطالب، فضلا عن تناسب حجمه مع الفترة التعليمية والتعليمية المخصصة للكتاب ذى الموضوع الواحد فى المنهج الدراسى، مما اضطر اللجنة إلى أن تقتطع من الأجزاء الثلاثة ل(لأيام) بعض الفصول، بما يتمشى مع الحجم الأمثل للكتاب ذى الموضوع الواحد، وبما لا يخل بفهم الأحداث أو يقلل من إمكانية التذوق اللغوى والأدبى للكتاب نفسه، وبما يوفر على الطالب وقتا وجهدا كان يمكن أن يصرفهما فى قراءة تفصيلات كثيرة ومتابعة جزئيات قد تشتت انتباهه أو تصرفه عن جوهر الأحداث»، هذا ببساطة ما كتبه أحد أساتذة التربية فى ما سماه ب«مداخل ضرورية»، وقد قسم هذه المداخل إلى إرشادات ساذجة للمدرسين الذين يقومون بتدريس الكتاب. وللأسف هذه المداخل لم يراع كاتبها أن العبث بالنص هو أو أبواب تدمير هذا النص، فاللجنة التى أشرفت على إعداد الكتاب سمحت لنفسها أن تحذف وتضيف وتعدل وتبدل دون أدنى إيضاحات، بالإضافة إلى أننا لا نحتاج إلى أى إيضاحات لمثل هذا الجرم الفادح، وإن كانت الفقرة التى اقتبسناها تتحدث بنعومة عن الرفق والرأفة بالطالب حتى لا يكون النص ثقيلا أو مشتتا، فهذا ليس صحيحا، حتى إن هذه اللجنة لم تراع ما استشهد به الدكتور أحمد درويش الذى كتب المقدمة العامة للكتاب، فمن المعالم المهمة فى كتاب «الأيام» المشهد الذى انبنت عليه طبيعة الفتى طه بعد ذلك حتى صار شابا ورجلا وباحثا، يقول درويش: «وهو يتعثر ويخطئ فى أبسط الأشياء حتى إنه عندما جلس يشارك أبويه، وإخوته الطعام على مائدتهم البسيطة التى يأكلون خلالها من طبق واحد ظن أنه لو غمس لقمته فى الإناء بكلتا يديه، كان ذلك أحسن له، ففعل ورفعها إلى فمه أما إخوته فأغرقوا فى الضحك، وأما أمه فأجهشت بالبكاء، وأما أبوه فقال فى صوت هادئ حزين: ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بنى، وأما هو فلم يعرف كيف قضى ليلته»، هذا ما كتبه درويش فى المقدمة عن فصل يعد من الركائز الرئيسية فى كتاب «الأيام»، لكن اللجنة الموقرة حذفت هذا الفصل تماما، وعندما يحاول الطلاب البحث فى الكتاب عما تشير إليه المقدمة لن يجدوا شيئا، كأن هذا الاستشهاد نوع من الترف أو التزيد، وهذا يدل عن اليد التى بطشت بالفصول لا تدرك ما سيؤدى حذف مثل هذا الفصل وغيره من فصول، ومن إحداث أشكال من الخلل تعمل على تعويق الفهم الطبيعى للكتاب، عكس ما زعمت مقدمة التربوى الموقر عندما يقول إن تخفيض الفصول لن يخل بالفهم، رغم ما استفاض فيه عن أن السيرة الذاتية هى المقدمة الطبيعية لكتابة الرواية، أى أن بنيانها محكم، والأدهى أن مقدم الكتاب زعم أن السيرة الذاتية «لا تقوم على الخيال وحده وإنما تربط ارتباطا وثيقا بحياة مؤلفها»، ولا أعرف لماذا يقرر أن الخيال جزء من تكوين السيرة، بالإضافة إلى أنه زعم أن أحد دوافع كتابة السيرة هو الرغبة فى الانتقام من الحاضر، عموما المقدمة لا تعنينا، ولكننا نعلق فقط على ما يصدر من أحد الأكاديميين التربويين، ونعود ونقرر أن ما نالته اليد الحاذفة والباطشة بنص الأيام، لم يكن غرضها نقيا، بل أرادت هذه اليد أن تحذف غالبية الفصول التى تتعلق بمعارك ومواقف وعناد طه حسين فى مواجهة التخلف والرجعية، وهناك عدم إدراك عميق للمعانى التى أراد حسين أن يوردها، لذلك لم تمتد الحذوفات إلى فصول بأكملها، بل إنها اضطرت إلى أن تحذف من الفصول نفسها ما لا يرضيها، وما تم تأويل، قطعا، على نحو غير صحيح، ففى الفصل الذى أعطته اللجنة عنوان «الاستعداد للأزهر» حذفت فقرة طويلة تقول: «وكم كان فرحا مختالا حين غدا إلى الكتاب يوم السبت وفى يده نسخة من (الألفية). لقد رفعته هذه النسخة درجات، وإن كانت هذه النسخة ضئيلة قذرة سيئة الجلد، ولكنها على ضآلتها وقذارتها، كانت تعدل عنده خمسين مصحفا من هذه المصاحف التى كان يحملها أترابه. المصحف. لقد حفظ ما فيه فما أفاد من حفظه شيئا، وكثير من الشبان يحفظونه فلا يحفل بهم أحد، ولا ينتخبون خلفاء يوم المولد النبوى»، ويسترسل طه حسين فى الاستفادة التى أخذها من «الألفية»، والتى لا يعرف عنها «العريف» شيئا، وهذا مثال لم يتم حذفه، كما يتم حذف ما يمس هيبة رجل الدين إذا كان شيخا أو عريفا، لذلك فالمعارك التى خاضها الشيخ طه مع الأزهر تم تهذيبها وهذا ما لا تراه اللجنة لائقا برجل دين، وهذا ما ينتقص من الصورة التى أراد طه حسين أن يؤكدها. هذا الحذف الذى نال فصولا كاملة، أو بعض أجزاء من فصول أخرى، طامة كبرى، خصوصا عندما نعرف أن الحذف تم بعين رقابية شديدة، وتم بوصاية غريبة على الطلاب من ناحية، وعلى نص طه حسين من ناحية أخرى، يعتبر خيانة للأمانة، وتشويها متعمدا للنص، هذا الحذف لم يتوقف عند الأفكار فقط، بل امتدت اليد الحاذفة لتعدل على طه حسين، فهناك لازمة عند طه حسين عند بداية الفصول كان يقول: «وانقطع الصبى عن الكتاب»، فنجد أن كل الواوات التى تؤكد التواصل والاستمرار محذوفة، بالإضافة إلى تغيير ألفاظ، واختصار بعض الجمل، مما يخل بالإيقاع الذى يتميز به أسلوب الدكتور طه حسين، كما أن الذى فعل كل هذا يرتدى ثوب التربوى الفاضل الذى يرفق بطلابه، ويشفق عليهم، رعم أنه كان سيقرر «عبقرية عمر» للعقاد، وهو كتاب مركب، وصعب بالمقارنة بكتاب الأيام، ولذلك ونحن مقبلون على الذكرى الأربعين لرحيل العميد، لا بد من إنقاذ كتاب «الأيام» من العدوان الذى تعرض له، واستعادة طه حسين كاملا من أيدى من لم يحترموا تراث هذا الرجل العظيم.