بداية أنا لست غنيًّا، هي ليست تهمة بالتأكيد لأنفيها، لكن هذه الأيام يبدو أننا في حاجة دومًا لوضع شعارات لأنفسنا قبل الحديث في أي موضوع منعًا للمزايدات والمغالطات. ما المناسبة؟ الدولة حضرتك كما تعرف تريد توفير الدولار، وهي بعد أن تمكنت بحماقتها من القضاء على مصادر تمويله، السياحة والاستثمار بشكل أساسي، بدأت في البحث عن الخطوة التالية، فهداها الله إلى أن الناس هم السبب في معاناتها، وذلك لأنهم، وزيادة على عدم درايتهم بالفترة الحساسة التي تمر بها المنطقة، فهم مسرفون بشكل مستفز، وفاتورة إنفاقهم على سلع غير ضرورية لا يمكن السكوت عنها، هذه السلع إذا كنت لا تعلمها فقد عددها نائب محافظ البنك المركزي في سياق حديثه عن الدولارات التي تضيع في استيراد ما لا قيمة له، قال على سبيل المثال إننا نستورد ب272 مليون دولار ملابس جاهزة للأطفال، و40 مليون دولار بانتكور قطن رجالي، و194 مليون قمصان نوم.. والقائمة تتضمن أيضًا رصدًا للدولارات الضائعة في استيراد طعام القطط والكلاب، وأطعمة فاخرة، وسيارات سعة 1500 و1600 سى سى. لا أعرف بقية القائمة التي جعلت السيد نائب محافظ البنك يقول إن الاستيراد توحش في الفترة الأخيرة حتى وصلت فاتورته إلى 76 مليار دولار. لكن ما أنا أكيد منه أن هذه الحكومة، بكل من فيها، بسياساتها وأفكارها، تشبه امرأة عجوز مملة تكرر كلام الأمس دون أن تنتبه إلى أي حد تصيب سامعيها بالسأم. طبعًا أنت تذكر أن الاستيراد كان ممنوعًا في مصر لفترة، وراجت وقتها سياسة التهريب حتى جاء زمن الانفتاح وأصبحت المحال معرضًا لكل منتجات العالم، وكان شارع الشواربي الذي نمر عليه الآن بلا انتباه، شانزليزيه مصر. وحول تلك السياسات قامت أحزاب، وكُتبت روايات ودواوين شعر، وأُنتجت أفلام بدءًا من نهاية الستينيات وتواصلت في السبعينيات والثمانينيات حتى انقطعت تمامًا مع عهد التسعينيات عندما أدرك الجميع أن الأمر ليس في حاجة إلى ذلك كله، وأن المسألة مجرد حركة طبيعية للتجارة والبضائع تحدث منذ بدأت الإنسانية مسيرتها. الآن، يبدو كما لو أن التاريخ على وشك أن يكرر نفسه، يعني في القريب العاجل ستجد ضمن صفحات الحوادث عناوين براقة عن سقوط شبكة "تهريب شنطة" تعمل بين مصر وبيروت، بالطبع البطلة فيها لا بد أن تكون جميلة وجذابة، والبطل مصري أصيل أوقع بالعصابة رافضًا رشوة ضخمة لغض الطرف عن بضائعها في الجمارك. الحقيقة، وكما يقال، فإن التاريخ لا يكرر نفسه لكننا نكرر أخطاءنا بغباء، وعليه نختار مسؤولين يفكرون بعقلية الستينيات، ويضعون حلولاً مشابهة لما تربوا عليه، هذا المسؤول يعتقد أن منع استيراد قمصان النوم وطعام القطط والكلاب هو الحل للمشكلات المصرية، ومبرره أن لها مثيلا في السوق المصرية، والسؤال لسعادته: إذا كان لها مثيل بالفعل فلماذا يتم استيرادها من الأصل؟ المنطقي أن المستهلك سيقبل على المحلي في تلك الحالة لأنه أرخص سعرًا، بل وكان يمكن تصديره والمنافسة به عالميًّا! لكن ما لا يعرفه هذا المسؤول وغيره، أن المنتج المحلي إلى الآن لم يتمكن من المنافسة، وما زالت الدولة تتعهده بالرعاية، منذ خمسة عشر عامًا ربما، وقت توقيع اتفاقية التجارة الحرة، وصل الطفل مرحلة البلوغ، لكن أمه الحكومة نالت صدمة عمرها بعدما تبين أنه معتوه ويستحق الرعاية طوال عمره، وبحسها الأمومي قررت أن تفعل ذلك على حساب المستهلك/ المواطن، للآن تفرض ضرائب باهظة على كل ما يأتي من الخارج لحماية هذا المعتوه. بالطبع نحن نتمنى التوفيق لأي مسؤول يسعى ل"تدبيق" ميزانية الدولة، يحذف من الموازنة مصاريف الحلويات والعصائر والفسح في المولات التي تعود عليها أطفاله المدللون، وبدلا منها يحاول تعويدهم على فسحة ترمس ودرة مشوي على الكورنيش، لكن لهذا المسؤول الستيني المجتهد يا ريت تفتكر الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها دولتك والخاصة بحركة التجارة العالمية، ويا ريت قبل ما تورطنا كلنا تنتبه أن العداء لهذه الحركة، وللشركات، ورجال الأعمال، أصعب بكثير من التظاهر بالعداء للدول الإمبريالية، هؤلاء من يديرون العالم الآن يا عزيزي، وغضبهم لن يعجبك.. أنت في النهاية بالنسبة لهم لست أكثر من سوق!