نجح الإعلام الموجه طوال الفترة الماضية فى خلق انطباع ذهنى لدى قاعدة كبيرة من المجتمع، بأن الشباب بشكل عام وشباب ثورة يناير بشكل خاص، لا يريدون الاستقرار للبلد، ولا يريدون إلا إشعال ثورة جديدة، لأنهم لا يجيدون فى المجال العام سوى الاحتجاج، هذا بالطبع بجانب اتهامات العمالة والتخوين التى استهدفت التشكيك فى ثورة يناير من الأساس، وتشويه كل رموزها، تمهيدا لاسترجاع الأوضاع لما كانت عليه قبل هذه الثورة المجيدة. من هذا المنطلق أصبح كل صوت معارض -إن لم يكن خائنا وعميلا، فهو على أقل تقدير- صوتًا أهوج وساذجا لا يدرى مصلحة البلد، ولا يريد إلا خلق مزيد من عدم الاستقرار. كل ذلك دفعنى إلى أن أقبل الدعوة الكريمة من جريدة «التحرير» لاستغلال هذه النافذة لمحاولة توضيح وتصحيح بعض تلك المفاهيم المغلوطة عن قطاع من الشباب وأهدافهم خلال المرحلة الحرجة التى تمر بها البلاد حاليا. فى البداية يجب أن نقر بأن جزءا من ذنب رسم تلك الصورة الذهنية للشباب يقع على عاتق من تصدر منهم وسائل الإعلام فى مرحلة الفوران الثورى فى 2011 و2012، فلم ينجح كثير منا فى إبراز الهدف الحقيقى من وراء كل المظاهر الاحتجاجية التى نتبناها. وإذا أرجعنا تقصير الشباب فى ذلك إلى عوامل نقص الخبرة، فقد استغلت القوتان الأهم المتصارعتان على السلطة -الإخوان والأجهزة الأمنية- تلك النواقص لإبرازها وتضخيمها ثم الانقضاض علينا بها، فهم من يمتلكون الأدوات -سواء الإعلامية أو غيرها- ويمتلكون الخبرة والإمكانيات لذلك، وهم أصحاب المصلحة معا -رغم عدائهم الشديد للبعض- فى التخلص من أى صوت عقلانى مدنى، فلن يصل أحدهما إلى السلطة إلا باستخدام الآخر ذريعة له، دون وجود البديل المدنى الوطنى. لكن ما الهدف إذن سواء فى الاحتجاج أو الاعتراض أو حتى فى حده الأدنى الآن وهو مجرد الانتقاد، إنه فى الحقيقة هدف كل مواطن على أرض هذا الوطن لا يسعى لسلطة أو جاه، لا يريد إلا العيش الكريم. الهدف هو الوصول بالبلاد إلى استقرار حقيقى ومتماسك، يقضى على الفساد، ويسود فيه مناخ من التنمية الاقتصادية والمجتمعية تصل بنا إلى تحقيق شعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية التى نادت بها الثورة. لا أعتقد أن أحدا فى مصر يختلف على تلك الأهداف والقيم النبيلة، الاختلاف يكمن بالأساس فى كيفية تحقيق تلك الأهداف. هناك من يرى الشريعة ودولة الخلافة هما الوسيلة المثلى، وعلى الجانب الآخر هناك من يرى القبضة الأمنية وقمع المختلف هما السبيل الوحيد، أما من يرفض هذين الطريقين فهو يقف وحيدا مشتتا غير قادر حتى على تقديم البديل، فى ظل مناخ تسوده فاشية من طرفين أقوى منه بكثير. لكن المصيبة الآن تكمن فى أن ما نعيشه من فاشية لن يأخذنا بعيدا عن تحقيق أهدافنا فحسب، بل إنه يعرضنا لانفجار مدوٍّ ينزلق بنا إلى هوة سحيقة لا يعلم مداها إلا الله، فمصير سوريا والعراق وليبيا الذى نحاول جميعا تجنبه -لا الإخوة مؤيدو النظام فقط- سيكون الأقرب إلى الحدوث إن لم نغلب جميعا صوت العقل وننحى الخطاب الفاشى السائد جانبا. نحن جميعا نريد تجنب ذلك الانفجار بشتى الطرق، خصوصا لأن الانفجار لن يكون سلميا كما فى ثورة يناير، فقد أوصد النظام الباب فى وجه كل سبل الاحتجاج السلمى، ولن يكون عاقلا متفاهما كما فى يناير، بعد أن شوه النظام العقلاء والمتوازنين وطعن فى مصداقيتهم باتهامات التخوين والعمالة، بل سيكون انفجارا عنيفا، غير محكوم، بلا قيادة فعلية ولا حتى صورية، فقط جماعات العنف هى التى ستجد لنفسها مكانا فى هذا المشهد، انفجارا سيطولنا جميعا، منحازين لثورة يناير أو ضدها، ليصبح أول تهديد حقيقى لتماسك ما تبقى من مؤسسات فى الدولة. هذا هو ما نخشاه وما نسعى لاجتنابه... لكن ما مقدمات هذا الانفجار؟! هذا هو موضوع المقالة القادمة بإذن الله.