على مدى أسبوعين منذ أعلنت «بورسعيد» العصيان المدنى عاشت المدينة حالة مثالية من الانضباط الأمنى، ومع استمرار مظاهرات الاحتجاج اختفى العنف. ومع غياب الشرطة اختفت الجريمة.. لا تحرش، ولا قتل، ولا سرقة. ورغم أن الجرح كان داميًا، والجريمة التى وقعت فى حق أبناء المدينة، كانت بشعة، إلا أن المدينة التى احترفت الصبر وتعودت على مواجهة المخاطر ألهمها الله القدرة على التحمل والسموّ بمشاعرها بصورة نادرة، تصور مدينة تفقد أكثر من أربعين شهيدًا من أبنائها ويصاب أكثر من ألف منهم بإصابات بعضها بالغ الخطورة، فلا يكون رد فعلها هو الحرق والتدمير والرصاص مقابل الرصاص الذى استهدف أبناء المدينة عمدًا وبلا جريمة إلا التظاهر، وإنما يكون الرد هو العصيان المدنى بصورة متحضرة ودون إراقة نقطة دم واحدة. وتصور مدينة تشيع أبناءها الشهداء إلى مثواهم الأخير، فتواجهها قنابل الغاز وطلقات الخرطوش على الجنازة، ومع ذلك لا يتحول الأمر إلى مذبحة كما كان يخطط البعض فى سلطة ضلت طريقها ووضعت نفسها فى مواجهة الشعب. وتصور مدينة تحرم من مصادر عيشها. تتعطل التجارة، ويتوقف العمل فى الميناء، وتتجاهل الدولة الأمر، وكأنها تتوهم أن الحصار الاقتصادى ونقص الأغذية سوف يكسر إرادة الناس. غير مدركة أنها تختار الرهان الخطأ، وأنها أمام مدينة تحملت مثل هذه الأوضاع لسنوات فى ظل الاحتلال، أو فى زمن الحروب، ولم تنكسر إرادتها. فى حرب 56 حوصرت المدينة لشهرين. عاشت المدينة على بعض الأرز والدقيق الذى كان فى مستودعات الجمرك، لم تكن هناك رواتب ولا إمدادات غذائية، حتى الماء كان ينقطع لأيام، ومع ذلك لم تستسلم المدينة، ولم يقبل واحد من أهلها أن يعمل لدى قوات الغزو رغم العروض المالية المغرية. صبرت المدينة وصمدت وقاتلت وانتصرت، وقدمت درسًا عرفه العالم كله، لكن حكامنا الآن يثبتون أنهم يجهلون.. أو يتجاهلون!! على مدى أسبوعين بعد إعلان المدينة العصيان المدنى، كان هناك الكثير مما يزعج أهل الحكم.. الأمن المستقر فى المدينة، تصاعد الاحتجاج السلمى وانتقاله إلى باقى المحافظات، فضيحة الطوارئ وحظر التجول. فشل المخطط البائس للوقيعة بين الجيش والشعب، ومن هنا كان القرار بإشعال الموقف بعد نقل المتهمين فى قضية الاستاد من سجن بورسعيد، ثم العودة لاستخدام العنف وسقوط الشهداء.. والأخطر هو محاولة إدخال الوضع فى دائرة الفوضى الشاملة، ووضع الجيش والشرطة والشعب فى مواجهات دامية. إننا أمام حكم يلعب بالنار، ولا يتورع عن استخدام أى سلاح أو ارتكاب أى جريمة، لا يهمه إلا الحكم حتى لو احترق الوطن كله. لم تطلب بورسعيد «مثل كل مصر» إلا العدل والكرامة، ولن تتخلى عن مطلبها. لن ينجر الشعب فى بورسعيد إلى ما يريده المتآمرون على الوطن. لن يكون هناك صدام مع الجيش شريك الدم فى معارك الحرية الطويلة والقاسية، وسيحمى أبناء بورسعيد القناة بأرواحهم كما استردوها من براثن الأجانب بدماء شهدائهم. هذه لغة لا يعرفها من لا يعرفون معنى الوطن ومن انحصر عالمهم فى «الأهل والعشيرة»!! إننا أمام حكم يلعب بالنار، لكن أثق بأن بورسعيد لن تنكسر إرادتها. بريطانيا وفرنسا فى عز قوتهما لم تستطيعا ذلك. جيش مصر تعهد بحماية المدينة التى يعرف مكانتها فى تاريخ نضال مصر. الذين يراهنون على أن الشرطة سوف تستمر فى مواجهة الشعب الغاضب مخطئون. كيف يطلق رجل شرطة النار على صدور أشقائه فى الوطن ليحمى من يقول له إنه سيخلع عنه البدلة الميرى، وسيجعله يقعد بجانب أمه؟! سلام على بورسعيد التى أطلقت الشعلة لتجدد الثورة، وسلام على كل مدن مصر وهى تمضى بالشعلة حتى تنتصر الثورة ويتم إنقاذ الوطن.