الساذجون فقط هم من فاجأهم موقف أهلنا فى بورسعيد وهم يحسون بالإهانة من حكم يتصور أنه يستطيع شراء كرامة الناس ودماء الشهداء بالوعود الرخيصة أو بالرشاوى المالية!! الغرباء فقط عن ثقافة هذا الوطن هم من يتصورون أن العدل الغائب يمكن تعويضه بأموال الدنيا، وأن الكرامة المجروحة يمكن أن يتطيب جراحها بالقرارات الجوفاء، وأن الغضب الذى انفجر يمكن احتواؤه بكسب الوقت!! يعرف الناس بالطبع أن المهام الجليلة والخطيرة وحدها هى التى عطلت مؤسسات الدولة «أو بقايا هذه المؤسسات»!! من أن تقوم بدورها فى حماية المواطنين، وفى تحديد من قتل عشرات الشهداء بالرصاص الحى، وفى تقديمهم للمحاكمة العادلة، وفى أخذ القصاص العادل من هؤلاء الذين حولوا الذكرى الثانية للثورة إلى مجزرة جديدة يسقط فيها عشرات الشهداء وآلاف المصابين. ولا حتى كلمة عزاء فى الشهداء صدرت- حتى الآن- عن مؤسسات الدولة المشغولة بالمهام الخطيرة والجليلة.. برلمان الصدفة السيئة كان مشغولا بإصدار القوانين الباطلة!! حكومة الإفلاس كان رئيسها مشغولا بخطته القومية لتحسين الرضاعة وتنظيف صدور الأمهات!! النيابة العامة كانت مهمومة بتأكيد براءة الأخ رئيس الجمهورية من المسؤولية عن قتل الشهداء.. قبل أن يبدأ التحقيق!! ووزير العدل كان يذيع تقارير الطب الشرعى قبل أن يتم إعدادها لتبرئة الحكم من مسؤولية قتل الشهداء!! أما مؤسسة الرئاسة فكانت محاصرة بالمشكلات التى استوعبت الجهد كله.. من تعيين النجل العزيز فى شركة الطيران، إلى فواتير رحلة العائلة الحاكمة إلى طابا، إلى تصفية الحسابات السياسية مع الخصوم.. ومع الحلفاء الذين تجرؤوا على قول كلمة حق فى حكم جائر!! مسؤوليات جسيمة بلا شك تجعل مؤسسات الدولة تتخبط، وهيبة الدولة تضييع، وتجعل الحكم الذى لا يهتم إلا بالهيمنة على ما تبقى من الدولة، لا يجد أمامه إلا الحلول الأمنية للتعامل مع الجماهير الباحثة عن ثورتها المختطفة، وعندما يتساقط الشهداء تحدث الغيبوبة.. فلا يرى الحكم بركان الغضب، ولا يسمع صيحات الجماهير المطالبة بالعدل وبالحرية وبالقصاص للشهداء.. ثم يتصور بعد ذلك كله أن الكرامة يمكن أن تشترى، وأن دماء الشهداء يمكن أن يكون لها ثمن إلا القصاص العادل!! مشكلة الحكم الآن أن عالمه يبدأ وينتهى عند حدود الجماعة، وأنه لا يهتم إلا بالأهل والعشيرة.. وأن الأهل والعشيرة يريدون دولة على مقاسهم، بعيدًا عن باقى المصريين المطرودين من جنة الجماعة!!.. وعندما يكون هذا هو الفكر الذى يحكم فلا تسأل عن الوطن.. فلا مكان فى الحقيقة للوطن فى دولة الجماعة!! على عكس ما يبدو للكثيرين.. يظهر «الوطن» فى أبهى صوره على ضفاف القناة فى بورسعيد.. لا تصدقوا لافتات تتحدث- من باب الغيظ والغضب- عن دولة مستقلة هناك!! فالذين عاشوا عمرهم على خطوط النار هم الذين يعرفون معنى الوطن.. الذين قدموا آلاف الشهداء فى معارك التحرير والاستقلال كانوا ينزفون آخر نقطة فى دمائهم وهم يهتفون باسم مصر. فى زمن آخر كانت بورسعيد كغيرها من مدن مصر تتلقى بالامتنان ما تقدمه الدولة لأبناء الشهداء.. أولوية فى تعيينهم بالوظائف المتاحة، وفرصة للالتحاق بالجامعات، كان هذا هو ما تستطيع الدولة يومها تقديمه، ولم تطلب بورسعيد أكثر من ذلك، كان يكفيها أن ترى علم مصر يرتفع فى مدخل القناة، وأن ترى السد العالى يرتفع بحصيلة عبور القناة، وأن ترى- فى لحظة أخرى من التاريخ- أنها قادرة على أن توقف العدوان فى رأس العش، وتبدأ معركة الثأر التى انتهت بالعبور العظيم. الآن.. تقف بورسعيد على موعد جديد مع التاريخ، تعلن «العصيان المدنى» لتبدأ مرحلة جديدة فى عمر الثورة وفى مسيرة النضال الوطنى المتواصل، طلبًا للحرية والخبز والعدالة، الحكم الذى فشل فى فرض كلمته بالقتل والسحل والحلول الأمنية، يلجأ الآن إلى الحل على طريقة «مرزوق أفندى.. إديله حاجة»، أى إهانة لهذا الوطن أن تحكم بمصر بهذه الطريقة المهينة، وأى كارثة أنْ لا يعرف الحكم الفاشى والفاشل أن الكرامة والكبرياء ومعنى الوطن هى أشياء لا تُشترى!!