عندما نكون أطفالاً.. تكون للأشياء والأحداث والأشخاص معان أخرى تماماً.. معانى أبسط وأكثر تلقائية ولكنها أصدق وأعمق وأكثر تأثيراً! فى ظهر ذلك اليوم البعيد كانت الشمس لا تزال أصغر من سنها الحالى بنحو 32 سنة.. كانت مشرقة أكثر وأشبه بسبوت إضاءة ضخم مسلط على ذلك الزحام البشرى الهائل الذى ساهم فى جعله هائلاً أكثر وأكثر صغر حجمى وقصر قامتى وقلة حيلتى وكل ما تنص عليه المقاييس الجسمانية المأزعرة لأى عيل فى سنى لا يمتلك فى حصالة عمره سوى 6 سنوات فقط.. كنت أشبه بقنفد برى صغير وجد نفسه فجأة تائهاً وشريداً وسط غابة من أشجار البلوط الضخمة.. تمسكت أكثر بيد أمى وتشبثت بها جيداً وأنا أشعر بالذنب تجاهها بعد أن أجبرتها بمحايلتى ورخامتى الطفولية على اصطحابها لى لمشاهدة هذا الرجل الذى لم أشاهده قبل ذلك سوى فى التليفزيون أثناء إذاعة تسجيل خطابه التاريخى بتاع بعد الحرب على طول فى مجلس الشعب.. ثم أثناء تحديه ومفاجأته للعالم وذهابه للكنيست الإسرائيلى.. وإلقاؤه لخطابه التاريخى هناك.. كان موقعنا مثالياً.. كنا نقف بمواجهة الطريق مباشرة.. وكانت جموع البشر تتمركز فى مواقعها على جانب الطريق السريع المؤدى إلى إستاد مدينة طنطا.. كانت صفوف العساكر متشابكى الأيدى تصنع سياجاً بشرياً طويلاً وممتداً بطول الطريق.. نظرت إلى الأسفلت الصامت الهادئ اللامع النظيف استعداداً لنيل شرف مرور رئيس مصرى عظيم هزم إسرائيل من عليه.. الرئيس المصرى الشهيد.. محمد أنور السادات.. بدأت أصداء الهتافات والهيصة القادمة من امتداد الطريق تنبئ بوصول موكب الرئيس السادات.. كانت سيارته المكشوفة المميزة تتهادى على الطريق ببطء.. يقف هو فيها وقفته المميزة.. ببدلته السفارى الكحلى الغامقة المميزة التى تليق برئيس شيك.. تنعكس الشمس على بشرته السمراء المنحوتة بصلادة من جبل تجربته العريضة فى الحياة.. تلقى بظلالها على عظام وجنتيه البارزتين بابتسامة أبوية هادئة ومطمئنة وبنت بلد.. ترتفع يده التى تحمل عصاته الشيك المميزة لترد تحية الحشود والجماهير.. تقترب سيارته أكثر وأكثر.. أرفع رأسى تجاهه عندما تصبح سيارته فى مواجهتى تماماً.. أنظر له بتمعن.. أدقق فى ملامحه.. وفجأة.. تلتقى أعينه بعينى.. يظر تجاهى ويبتسم.. يلوح لى بيده.. وكأنه يبعث لى بتحية خاصة لن أدرك معناها إلا بعد حوالى 20 سنة من تلك اللحظة.. عندما أحلم به حلماً غريباً ومبهماً وغامضاً ومليئاً بالضباب.. يستقبلنى فيه فى مكتبه.. وقد أجمع كل من استمعوا إلى هذا الحلم على أنه يحتمل حاجة من تلات حاجات.. يا إما إنى تقلت فى العشا ونمت على طول.. وهو الاحتمال الذى رجحه البعض.. يا إما إنى ماكنتش متغطى كويس.. وهو الاحتمال الذى رجحه البعض الآخر.. يا إما إنى حابقى إن شاء الله رئيس جمهورية.. وهو الاحتمال الذى لم يرجحه أى حد خالص.. المهم.. يمر الموكب وأعود إلى المنزل.. وأنا أفكر فى دماغ هذا الرجل.. هذا الرجل الدماغ ! بعدها بحوالى سنة تقريباً.. وبالتحديد فى ظهر يوم 6 أكتوبر 1981.. كان جميع من بالمنزل منشغلون وكنت الوحيد الجالس أمام التليفزيون أتابع العرض العسكرى بتاع ذكرى انتصار حرب أكتوبر المجيدة.. كان السادات جالساً مرتدياً بدلته العسكرية المهيبة والمرصعة بالأوسمة والنياشين ونجمة سيناء.. كانت ملامحه فخورة ومنتشية وسعيدة.. كان يرفع رأسه للسماء لمشاهدة عروض الطائرات التى تنفث دخاناً ملوناً ومبهجاً.. أتذكر جيداً تفاصيل ما حدث.. أتذكر توقف السيارات المفاجئ والغريب أمام المنصة.. أتذكر أيضاً هبوط خالد الإسلامبولى من إحدى السيارات موجهاً مدفعه الرشاش تجاه صدر السادات.. أتذكر توقف السادات فى مواجهة ما يحدث ناطقاً جملته الأخيرة.. «مش معقول».. أتذكر حالة الهرجلة والبرجلة والكراسى المتلخفنة فى بعضها البعض.. والمتزامنة مع صراخ المذيع التليفزيونى للعرض «خونة.. خيانة.. خونة».. أتذكر جيداً الوَش الذى أعقب تلك الصرخة من المذيع ثم انقطاع البث الهوائى المباشر.. أتذكر جيداً جريى على أمى فى المطبخ وأنا أصيح.. «ماما.. ماما.. ضربوا السادات»! الرئيس المصرى الشهيد محمد أنور السادات.. نموذج للأسطورة الذاتية الحقيقية كما ينبغى أن تكون.. إتخذ قراراته فى حياته بشجاعة.. ودفع ثمن ما اتخذه من قرارات صاغراً ومسلماً بتصاريف القدر وقواعد الدراما التى تنص على أنه للأبطال دوماً نهايات مختلفة وتراجيدية تتناسب مع مدى ما وصلوا إليه من ذروة فى الصراع الدرامى.. لهذا كان القدر يحتفظ للسادات بنهاية عجائبية وسط أبنائه فى القوات المسلحة.. نهاية كتلك التى جاءت مخضبة بدمائه التى اندفعت من صدره صابغة جميع أوسمته وشاراته ونياشينه بلون واحد فقط.. لون الدم الأحمر القانى! كان هذا هو ما دار فى دماغى الصغيرة وأنا اشاهد هذا المشهد العبثى الذى كان مرسى يلف فيه التراك بسيارته المكشوفة وسط حشود الإخوان المسلمين الذين تم شحنهم على الإستاد للإحتفال بوصول رجلهم للحكم وليس للإحتفال بنصر أكتوبر.. وهو المشهد الذى لم أستطع معه سوى أن أتذكر الرئيس السادات.. وأترحم عليه.. الله يرحمه