ربما مرت قضية إيقاف برنامج ريم ماجد «جمع مؤنث سالم» مرور الكرام، خاصة أن مقدمة البرامج المذكورة غائبة عن شاشات التليفزيون، قبل أن تعود لحلقتين فقط، عبر برنامج مشترك مع مؤسسة «دويتشة فيلة». غير أن ما يستوقفنا هنا هو ما ذكرته ريم ماجد، وأكدته مصادر داخل القناة المعنية، من أن إيقاف البرنامج تم بتعليمات من جهات عليا أو جهات سيادية. السؤال الأساسى هو: ما دخل أى جهات عليا أو سيادية بعرض أو إيقاف برنامج تليفزيونى؟ الإجابة معروفة ومؤلمة فى آنٍ معا. تقول ريم، إنها أبلغت منذ عدة أيام من قبل إدارة المحطة أن هناك ضغوطا من جهة سيادية لوقف البرنامج «وأنا افتكرتهم بيهزروا». وبعيدا عن الحقيقة القائلة إنه ليس مقبولا منع برنامج اجتماعى أو سياسى طالما يراعى الضوابط، فإن الوصاية الحقيقية عند المنع تفرض على المشاهدين أكثر من المذيع أو مقدم البرامج أو حتى فريق العمل التليفزيونى. إن منع أى برنامج يمثل اعتداءً على حق المواطنين فى المعرفة والاختيار، والجهة صاحبة القرار مطالبة بتوضيح أسباب القرار. وليس عندنا كلامٌ عن مسألة إيقاف البرامج بتعليمات جهات عليا، التى هى فضيحة بحد ذاتها كشفت عن المدى الذى بلغته الرقابة على البث التليفزيونى، التى باتت تراعى حساسية السلطة بأكثر مما تحترم المشاهد. إن دلالة إيقاف برنامج تليفزيونى واضحة، ولا يحتاج المرء إلى أن يبذل جهدا فى تسليط الضوء على سلبياتها. إن فهم ما يجرى على الساحة الإعلامية فى مصر، يجب أن ينطلق من حقيقة مهمة، مفادها أن الإعلام، ليس مستقلا، فهو يعكس طبيعة وحدود النظام السياسى. الحديث عن إعلام مستقل فى بلد مثل مصر يعتبر شكلا من أشكال المبالغة. وإذا كانت مواد الدستور الخاصة بالإعلام تؤسس لإعلام حُر ومستقل، فإن النظام السياسى يبدو راغبا فى توظيفه لخدمة مصالحه، خاصة أن مرحلة التحوّل فى مصر تتطلب أدوارا محددة بدعوى مواجهة أشكال الدعاية المضادة للنظام. الأكيد أن المشهد الإعلامى فى مصر يتسم بالفوضى، غير أن هذه التغييرات أو التحولات ربما تعطى مؤشرا على أن الإعلام بصورته الراهنة وبأدائه المتواضع الذى يتسم بلغة التعبئة والحشد والدعاية والزعيق بدلا من التوعية والتنوير وإثارة القضايا بشكل موضوعى ومهنى مستقل، بدلا من أسلوب يتعمّد التشهير بالأشخاص، يحمل معطيات هزيمته. فى المقابل، يُبدى البعض توجسا أقرب إلى التشاؤم، مشيرين إلى أنه على الضفة الأخرى، اختفت أصواتٌ أكثر تعقلا واعتدالا فى حين بقى الزاعقون والمحسوبون على الماضى المريب أكثر من المستقبل، الذى نريده أن يكون أفضل وأكثر تنويرًا. حدث هذا وسط أجواء تجعلنا نؤمن أن المضمون فى القنوات الخاصة فقد بوصلته، إلا قليلا، وذلك إثر قيم جديدة وعادات طارئة. فقد صارت الفضائح على الشاشة جالبة للإعلان والمشاهدين، وصارت الخناقات على الهواء جالبة للإعلان والمشاهدين، وصارت اللغة السوقية والاتهامات والتخوين جالبة للإعلان والمشاهدين، وصارت شتيمة دول والاعتذار المتأخر جالبة للإعلان والمشاهدين. هل هناك محاولة لصياغة تصور جديد للإعلام؟ الإجابة المنطقية بالإيجاب. بالتأكيد هناك محاولة، لكن فى ظل الارتباك العام وعدم وجود برلمان أو وزارة إعلام، لم يتم إنجاز خطوات تُذكر فى هذا الإطار. من ناحية أخرى كشف استطلاع للرأى أجراه مركز «ابن خلدون» للدراسات الإنمائية أن 76% من المصريين غير راضين عن أداء وسائل الإعلام، لافتقاره إلى الحيادية والتنوع، وذلك خلال الفترة من أغسطس 2013 حتى أغسطس 2014. هذا الاتجاه العام يدفعنا إلى المطالبة بمراجعة الأداء الإعلامى، فهو من ناحية ليس بقرة مقدسة لا يجوز المساس بها، ومن ناحية أخرى فإن دور الإعلام وحدوده ورسالته من الأمور المهمة، حتى لا يسقط فى فخ التبعية لأى طرف من الأطراف على الساحة، وحتى لا يتحول إلى جزء من آلة الدعاية، بما يفقده مصداقيته. وربما تكون أولى الخطوات فى المراجعة أن نقر بأن دور الإعلام فى عهود سابقة لم يكن مساعدا ولا مشجعا على التوعية والتنوير وتوصيل الحقائق بشكل موضوعى، بل إنه فى النهاية يتحمل نصيبه من الإخفاق السياسى. هذا درسٌ مهم، لأننا لا يمكن أن نتصور نتيجة مختلفة للأداء الإعلامى، طالما أننا نتصرف بنفس الطريقة التى أدت إلى الإخفاقات السابقة. إن مهمة الإعلام فى هذه المرحلة أن يعمل على التخلص من حالة السخونة الجارية فى المجتمع المصرى، التى تولدت بعد عهد الثورات، التى أفقدت الكثيرين رشدا يعجز عن التفكير أو أن يكون التفكير فيه عاجزا مضطربا وحائرا ومندفعا. وببساطة، فإن الإعلام يحتاج بشدة إلى الخروج من حالة «التحريض» و«التعبئة» إلى الحالة «المهنية» التى تقوم على المعلومات والمعرفة. كما يحتاج التخلص من حالة عبادة الفرد إلى الولوج إلى ساحة المحاسبة والتقييم، ووزن الأمور وإيرادها فى المكان الصحيح. وسواء كان الموضوع هذا أو ذاك، فإن الجوهر خلق المسافة ما بين السياسة والإعلام، فرغم الروابط بينهما، فإنهما مجالان منفصلان، لكل منهما ساحته وميزانه. باختصار، وحتى لا تتكرر مهزلة إيقاف برنامج بتعليمات جهات سيادية، نريد إعلاما يخاطب الرأى العام، ويتحرك بوعى ومهنية، لا إعلاما يتلقى الأوامر من جهات أمنية.