هل جننت يا عزيزى؟ كيف تحلم بأن تقنع المجرم الذى تربى على اعتبار أن الرسم حرام، وأن السلوك المتحضر كان يقتضى منه الرد على وقاحة الرسوم الكاريكاتورية المنشورة على صفحات جريدة «شارلى إبدو» الفرنسية برسوم كاريكاتورية مضادة بدلاً من أن يوجه رصاصاته إلى صدور رساميها؟ ألم يخبره شيوخه بأن الرسامين فى النار؟ إذن فهو يعجّل بتنفيذ إرادة الله فى إرسالهم إلى الجحيم! هل فقدت عقلك؟ كيف تطلب منه أن يستخدم فى معاركه أسلحة العقل والفنون التى يحرم عليه شيوخه استخدامها؟ هذا رجل تم تلقينه منذ نعومة أظفاره أن الفرشاة والألوان والأقلام التى تستخدم للرسم على اختلاف أنواعها أسلحة فتاكة محرمة! أخبره شيوخه بهذا فأخرجوا عبارة المصورون فى النار من زمانها ومكانها وظروفها التاريخية عندما كان يسعى الإسلام لإيقاف صناعة الأوثان، ليسهل انتشار كدين جديد وتتوطد أركانه فى نفوس أهل الجزيرة. كيف إذن تتجرأ وتطلب من القاتل أن يرد على الرسم برسم؟ الأعجب أنك تريد منه أن يرد على الرأى بالرأى، وهو الذى تربى على اعتبار أن استخدام العقل خطيئة! كيف تقول له إن القرآن لم يحرض على قتل من يسيئون إلى رسول الإسلام الكريم؟ بل ولم يحرض على قتل من يسيئون إلى الذات الإلهية نفسها. كيف تقنعه بهذا وهو شخص يمتلئ رأسه بتفسيرات عجيبة ما أنزل الله بها من سلطان، لآيات واضحة تم تأويلها فى بطون الكتب الصفراء؟ رغم أن لها دلالاتها القاطعة التى لا تحتمل التأويل. هذا شخص نشأ وتشكل وجدانه على أيدى جهلاء بالوا فى عقله فى واقع مريض، فلا تنتظر منه سوى أن يؤمن بكل جوارحه أن الرسوم مسيئة بينما طلقات الرصاص بريئة! فى واقع كهذا يعج بحرمانية كل الأشياء التى يمكن لها أن ترتقى بالنفوس لا بد أن يكون القتل هو الجزاء الذى يجب إيقاعه بصاحب الرأى المخالف. هذا رجل أخبره شيخه أن الموسيقى حرام، وأن لعب الكرة حرام على الكبار والصغار، وأن أكل الموز والخيار حرام على النساء، ووضع له قائمة لا يمكن حصرها من المحرمات جعلته يراقب نفسه قبل أن يتجرع شربة ماء بريئة من الصنبور، وأوصلته إلى حالة مرضية جعلته يشيح بوجهه لكى لا يرى عورة فى جسد طفلة رضيعة على اعتبار أنها قد تثير شهوته! العجب العجاب أن مغالاة شيخه فى تحريم تلك التوافه لم تمنعه من أن يحلل له ارتكاب كبيرة مرعبة مثل القتل! كبيرة مفزعة لا يتورع عن ارتكابها ولا يتمهل فى إصدار أحكامها! الأمر الذى يجعلك تتأكد من أن تحريم الحلال والطاهر والبرىء للاشتباه فى وجود أشباح لمحظورات تحوم حولهم لا بد وأن يوقظ أحط الغرائز البدائية فى نفوس البشر. البخيل الذى يحرم نفسه وأطفاله من الطعام لا يرق قلبه لموت أطفال غيره من الجوع. نحن نتحدث هنا عن حالة رجل قضى طفولته فى مناخ يحرم الرسم والغناء ويكفر الآخرين حتى ولو كانوا من أتباع الديانات التى يقر شيوخه بأنها سماوية. لماذا تتعجب إذن عندما يضرب من يختلفون معه بالرصاص وأنت الذى تغاضيت عن نعيق شيخه الذى يزرع العنف فى رأسه ويحرضه لكى يضرب زوجته ويقمعها إن تجاسرت وعبرت عن رغبتها فى الافتراق عنه بالمعروف الذى يحلله لها دينه الذى يزعم أنه يحترمه؟ البعض فى عالمنا العربى والإسلامى، ويا للعجب، يحتد ويرى أن ما حدث جريمة صغيرة لا يجب تضخيمها فى عالم يمتلئ بجرائم القتل الممنهجة التى يقوم بها الغرب فى حق المسلمين فى العراق وأفغانستان وفلسطين. والبعض الآخر يرى أنها جريمة دبرتها الاستخبارات الفرنسية بالاتفاق مع المتطرفين لكى تتمكن أوروبا من صناعة الحادى عشر من سبتمبر الخاص بها، لتبرر لحكوماتها القرارات العنصرية التى ستتخذها بحق من يعيشون على أراضيها من المسلمين. الفريقان للأسف تغفل تفسيراتهما الحقيقة التى لا يجوز إنكارها، وهى أن الفاعل الذى ضغط على الزناد هو نتاج لثقافة اجتماعية مريضة نشأت على أرضنا نحن وارتوت من مائنا، فالجريمة لا تكمن فقط فى التدبير، بل تكمن أيضا فى وجود قاتل يقوم بالتنفيذ، عن قناعة تامة بعدالة قضيته، حتى ولو تم استخدامه كمخلب قط يتم تحريكه فى إطار مؤامرة كبرى. فى مجتمعات تعج ثقافتها الدينية بحرمانية كل الأشياء التى يمكنها أن تهذب النفوس، لا تتعجبوا عندما يصبح القتل هو الوسيلة الوحيدة للحوار. سلمان رشدى مؤلف رواية آيات شيطانية أهدر آيات الله الإيرانيون دمه ورصدوا الجوائز لقتله، بينما اكتفى المقر البابوى فى الفاتيكان بإصدار بيان يعترض فيه على رواية شفرة دافنشى ، ويعتبر أن مؤلفها دان براون يسىء إلى المسيح والمسيحية. إذا أردتم لأطفالكم أن يستخدموا السينما والقلم والفرشاة والبيانو ليردوا بهم على افتراءات خصومهم يجب عليكم أولاً أن تهذبوا أرواحهم لكى يرسخ فى ضمائرهم أن الفنون جميعها أسلحة راقية يمكن الرد بها على الخصوم، ولا يجب اعتبارها ملاعبا للفسق والانحلال حتى لو أساء البعض استخدامها. القتل على الهوية والتصفية الجسدية لمن يتبنى رأيا نرى أنه يجرح مشاعرنا الدينية أصبحا صناعة محلية تبرع فيهما مجتمعاتنا وتتفنن فى تصديرهما إلى الآخرين، وتجد للأسف من يدافعون عنهما.