الفارق بيننا وبين أى مكنة فرم لحوم ليس كبيرا، هذا إذا كان هناك فارق من أصله. فى ماكينة فرم اللحوم، تضع اللحم الصحيح من ناحية فيخرج على هيئة شرائح طولية مفرومة من الناحية الأخرى، يختلف شكله إلا أنه فى كينونته كلحم لا يختلف، وكذلك نحن. تتلقى عقولنا وحواسنا طوال الوقت مؤثرات ومُدخَلات بكافة الأشكال والألوان، مؤثرات ومُدخلات سمعية وحسية وبصرية وشمية ونفسية، وكأى ماكينة فرم لحوم، تقوم أجهزتنا بفرم تلك التأثيرات الكثيرة والمختلفة ثم إخراجها على هيئة تصرفات وأفعال وقرارات ووجهات نظر فى الحياه. وهنا يأتى الفارق الوحيد بيننا وبين ماكينة فرم اللحم، العقل. مفتاح التحكم البشرى فى المُدخلات الذى ميزنا به الله عن الماكينة. ماكينة فرم اللحوم لا تستطيع الإعتراض على وضع لحم فاسد فيها وتحويله إلى لحمة مفرومة، بينما نحن نستطيع رفض المدخلات الفاسدة. نستطيع رفض الإستماع إلى تلك الرداءة السمعية المسماة موسيقى المهرجانات، مع الإعتذار طبعا للموسيقى. نستطيع رفض مشاهدة تلك الأفلام الرخيصة بتاعة كل عيد، مع الإعتذار للأفلام. نستطيع رفض تلك الهوجة التليفزيونية الحمقاء التى باتت مزعجة تماما وموترة للأعصاب بشكل لم تعد معه أجهزتنا العصبية المسكينة قادرة على تحمل كل هؤلاء البشر اللى كل واحد فيهم واخدله ترابيزة فى ستوديو وعمال يزعق وخلاص. نستطيع رفض تناول تلك الأطعمة البلاستيك السريعة على اختلاف أنواعها. نستطيع رفض كل تلك الخزعبلات والخرافات المجتمعية والتاقضات العجيبة التى كبرنا عليها والتى مع الوقت تحولت إلى قواعد ومسلمات، ثم من فرط تناقضاتها صبغت طريقة تفكيرنا نفسها باللا منطق وبفقدان المعايير اللازمة لأى تفكير سليم، حيث أننا لو فكرنا بشكل صحيح سوف يستتبع ذلك هدم معظم ما كبرنا عليه ونشأنا على ضفاف خزعبلاته، وهكذا يؤثر المجتمع السلامة ويقرر الإستمرار فى تناقضاته درءا لخطورة إقرار أن معظم ما كنا نظن أنه هكذا، ما طلعش هكذا كما كنا نتصور. نستطيع رفض الإنجرار إلى تلك الدوامة الحمقاء من الهرتلة، إلا أننا ننجر إليها يوميا بمنتهى السهولة، ليس حبا فيها بقدر ما هو إنسجاما وتوائما مع مجتمع غارق حتى أذنيه فى الهرتلة. نحن بمنتهى البساطة نضع يوميا بداخل ماكينة عقولنا وجهازنا العصبى كافة أشكال العبث والهرتلة، موسيقى وأفلام فاسدة، أفكار ملوثة، قراءات تافهة، تفاعلات إجتماعية زائفة وغير حقيقية، تناقضات فجة، همجية مجانية، زعيق ع الفاضى، تفاهة وسفاهة وفتى وكذب ونفاق، نضع كل هذا التلوث بداخل ماكينتنا، ثم ننتظر بعد ذلك خروج تفكير صحيح ومنطقى وسليم من الجهة الأخرى، شأننا فى ذلك شأن رجل يضع أحذية قديمة فى ماكينة فرم اللحم ثم ينتظر خروج اللحم المفروم من الجهة الأخرى، طب بأمارة إيه؟! لم يعد هناك للأسف مجال فى تلك الأيام الملغفنة للحديث فى أى أمور فلسفية. فالناس لا يريدون حديثا ينتهى إلى وضع كرة الأحداث فى ملعبهم، أو التأكيد على أن هناك خللا روحيا عظيما قد أصابنا جميعا، هو المسؤول عن تلك الحالة العامة من الهرتلة، والإنهيار الأخلاقى غير المسبوق، وخلط ما هو واقعى بما هو إفتراضى. لم يعد هناك مجال للحديث فى أى أمور فلسفية، على الرغم من أن ذلك هو أنسب الأوقات للحديث فى الفلسفة. فإذا كانت الفلسفة هى حب الحكمة، فما أحوجنا الآن إلى الحكمة. إنها تقريبا أكثر ما ينقصنا فى تلك الأيام الملغفنة التى نحياها فى توتر وقلق غير مسبوقين، نظن أنهما فقط بسبب ما يمر بالبلد عموما من قلاقل ومن عَوَء، بينما هما بسبب ما يمر بروحنا نحن أنفسنا من قلاقل وعوء وشعور متزايد بالقلق.