لا تعنى الشهادة إلا «الموت فى سبيل الله»، هذا ما نتربى عليه، وما يقدم إلينا من خلال التراث الإسلامى قديمه وحديثه، وما يقال لنا فى خطب الجمعة، وعلى منابر الإعلام المختلفة. هل يقدم لنا كتاب الله حقا أن الشهادة هى «الموت» فى سبيل الله؟ هذا هو موضوع دراستنا هذه. اختزال مفهوم الشهادة نقطة نظام: لأننى لست من أنصار الترادف فى اللغة، بمعنى أننى لا أرى بوجود أكثر من كلمة لمعنى واحد، بل على النقيض فإن الحادث فى اللغة أن للكلمة الواحدة أكثر من معنى فى الكثير من الحالات. لذلك فإننى ألجأ إلى معجم «مقاييس اللغة» لأن صاحبه من مدرسة منكرى الترادف فى اللغة. يقول المعجم: الشين والهاء والدال (شهد) أصل يدل على: أ- حضور ، ب- علم، ج- إعلام. يأتى من الفعل «شهد» كلمتان، كل منهما تمثل اسم فاعل: الأولى: هى كلمة «شهيد» والمثنى منها «شهيدان» أما الجمع فهو «شهداء». الثانية: هى كلمة «شاهد» والمثنى منها «شاهدان» أما الجمع فهو «شاهدون» أو «شهود». اسم الفاعل: شهيد- شاهد. المثنى: شهيدان -شاهدان. الجمع: شهداء -شاهدون -شهود. ما الفارق بين الشهيد والشاهد؟ أ- الشهيد: شهادته حضورية مصحوبة قطعًا بالبصر والسمع، بحيث يشهد على ما يحدث أمامه ويراه بعينه ويسمعه بأذنيه. ب- الشاهد: شهادته شهادة معرفة وخبرة يشهد فيها بصدق أو بكذب أو بتفسير واقعة ما، دون أن يكون بالضرورة حاضرا حدوث الواقعة، وهو ما نطلق عليه عند الاستعانة به اسم «الخبير». أما عن الضرورات المطلوب توافرها «للشهيد» وفقا للتعريف السابق، ففى مقدورنا القول باختصار إن الحياة هى الضرورة الأولى والأهم لتعريف الشهيد، حيث إن الحضورية وسلامة الحواس من سمع وبصر، واستيقاظ هذه الحواس، والذاكرة الحافظة التى تسجل ما يحدث أمامها مع الفطنة العقلية، كل ذلك يقتضى حتمية أن يكون الشهيد «حيًّا» وليس من «الموتى». وبخصوص الأدلة على التعريف السابق لكلمة «شهيد»، فالدليل الأول: أن «الشهيد» هو اسم من أسماء الله الحسنى: الله حى لا يموت، بل هو واهب الحياة: «اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ..». . وهو الحاضر الذى لا يغيب: «هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ... يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» . وهو يسمع ويبصر: «قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى» . ولا يفوته شىء: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدًا» . أما الدليل الثانى، فيكمن فى الشهادة عند كتابة الدَّين فى المعاملات المالية. لا بد لشهادة الشهيد عند كتابة الدَّين أن يكون حاضرًا، يرى ما يحدث بعينيه، ويسمع ما يقال بأذنيه، وأن يكون يقظًا فطنًا عدلاً مهتديًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ... وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء... وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إذَا مَا دُعُواْ... وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ» . كما تظهر الحضورية فى شهادة الشهيد أيضا بكل وضوح فى ما رد به عيسى عليه السلام على ربه فى كتاب الله: «وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ» . وهو الدليل الثالث، فلا تعنى «ما دمت فيهم» إلا ما دامت قد توفرت لى الحضورية بينهم (تجفيف منابع الإرهاب. د/ محمد شحرور ص 63 وما بعدها). هل من يُقتل فى سبيل الله «شهيد»؟ نعم، إنّ من يُقتل فى سبيل الله هو «شهيد» بلا مراء. وقد ورد ذلك فى حديث النبى (ص) بروايات مختلفة، منها على سبيل المثال: روى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (ص): «ما تعدون الشهيد فيكم؟ قال: من قُتل فى سبيل الله فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتى إذن لقليل. قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قُتل فى سبيل الله فهو شهيد، ومن مات فى سبيل الله فهو شهيد، ومن مات فى الطاعون فهو شهيد، ومن مات فى البطن فهو شهيد». وعددت الروايات المختلفة الغريق والمبطون (من مات بمرض فى البطن)، والنفساء، ووصل الأمر فى رواية لأبى داوود عن أبى مالك الأشعرى إلى قوله (ص): «أو مات على فراشه بأى حتف شاءه الله فإنه شهيد وله الجنة» (تجفيف منابع الإرهاب- مرجع سابق ص66، 67). وينبغى ملاحظة أن «من مات فى سبيل الله فهو شهيد» فى حديث مسلم، وحتى لو مات (لم يقُل قُتل) على فراشه فى حديث أبى داوود، حيث يجعل التعريف النبوى من «الشهيد» عنوانًا لكل إنسان يحيا ويتحرك فى سبيل الله. فى مقدورنا الآن القول إن «الشهيد» هو إنسان «حى» لم يدركه الموت، حاضر داخل الحياة الإنسانية بكل حماس وقوة واجتهاد، يسعى ويكدح بحواس يقظة مستنفرة، يشارك فى المسيرة الإنسانية، وعلى أتم استعداد للتعارف مع الأمم الأخرى لإثراء التجربة الإنسانية على أساس أخلاقى، مستعد على الدوام للدفاع عن حريته، وعن حق الآخرين فى الحرية، مناضل ضد الظلم والاستكبار، مضيف للقيمة، مشارك فى أحداث عصره. الشهداء هم من الأحياء وليسوا من الأموات الذين خرجوا من مسيرة التاريخ، أو أصبحوا على هامش الفعل، وخارج نطاق الابتكار. لذلك يصف كتاب الله أمة محمد بأنها كلها «شهداء» إذا كافحوا وجاهدوا واجتهدوا فى حياتهم ليحيوا فى ثراء ورفاهية وقوة ومنعة رافعين لكلمة الله: «وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ» . لما حصر الفكر الإسلامى الشهادة فى القتل فى سبيل الله وأخرج قيمة الحياة من مفهوم الشهادة، خرجنا من الصناعة، ومن الزراعة، ومن الاقتصاد، ومن القوة، ومن إضافة القيمة، وأصبحنا عالة على هامش حياة الناس، قابعين خارج مسيرة التاريخ. لم نعد شهداء على الناس، بل ليس للمسلمين أى حضور أو احترام بين شعوب العالمين، فبماذا سوف نجيب رسول الله (ص) الذى هو علينا «شهيد»؟ الاستثناء وليس القاعدة من الضرورى فى النهاية إيضاح أن الشهيد الذى يُقتل فى سبيل الله هو الاستثناء وليس القاعدة، لأن الأصل فى شهادة الشهيد هو الحياة وليس الموت. ولأن الحياة هى المطلب الأصلى فى شهادة الشهيد فإن كتاب الله أثبت الحياة لمن يُقتل فى سبيل الله، ونهى عن أن يقول أحد عنهم إنهم أموات: «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ» . كما نهى جل وعلا عن أن نحسبهم من الأموات: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» . - إنّ من يسعى ويكدّ ويكدح من أهلنا البسطاء على رزق أولاده وتعليمهم وتربيتهم فى ظل الظروف المعاكسة هو من الشهداء رجلاً كان أو امرأة. - إنّ من يعمل ويجتهد لإعلاء كلمة الله وإعلاء شأن وطنه وأهله فى كل مكان هو من الشهداء. - إنّ من يجرى وراء العلم فى المدرسة والجامعة والدراسات العليا هو من الشهداء. - إنّ من يؤدى فترة التجنيد الإلزامى أو من يتطوع فى الجيش لحماية الحدود وقتال الإرهاب، وكذلك من الشرطة التى تعمل على استتباب الأمن، هو من الشهداء. - إنّ كل حى يعمل ويضيف ويزرع ويصنع ويدرس ويقدم العلم ويقدم الفن والجمال ويسعى للخير هو من الشهداء. هو من أسميه «الشهيد الحى» كما أراده كتاب الله. أصبح المسلم وفقًا للمنهج التقليدى حريصًا على الموت محتقرًا للحياة التى وهبها الله له اختزل الفكر الإسلامى التقليدى الشهادة وقصرها على الموت قتلاً فى سبيل الله، فتوفر لأصحاب الفكر التكفيرى والإرهابى والتخريبى الكثيرون من المغيبين الذين يلتفون بالأحزمة الناسفة لقتل أفراد جيشهم وشرطتهم وكل من يوجد بالصدفة فى موقع الحدث، من مثل شهيد حى يسعى على رزق أولاده، أو شهيدة حية خرجت لإحضار اللبن لرضيعها أو الإفطار لأولادها ليذهبوا إلى مدرستهم بعدها، قائلين فى افتئات على الألوهية والربوبية عن الضحايا بأنهم «سوف يُحشرون على نياتهم»، وكأنهم يملكون حياة الناس ومماتهم ويزاحمون الله الذى هو وحده الذى يحيى ويميت، مثلما جادل النيروز إبراهيم عليه السلام: «إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّىَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ» . أصبح الموت مقدما على الحياة التى هى رأسمال الإنسان الحقيقى، وهى القيمة العليا لأنها هى وجوده على الأرض. أصبح المسلم وفقًا للمنهج التقليدى حريصًا على الموت محتقرًا للحياة التى خلقها الله للإنسان ووهبه إياها لكى يعمل فيها من أجل معرفة الله والفوز برضاه.