تثبت العادات والتقاليد أن معظم أشكال الاحتفال المتوارثة عند المصريين بقدوم رمضان ولياليه، أصلها يكمن فى العهد الفاطمى، ربما تكون هناك تغييرات فى الشكليات، لكن الجوهر واحد وقائم ومستمر، رغم أن الفاطميين وقياداتهم كانوا من أنصار مذهب الشيعة، ولكن التقاليد والاحتفالات كما قلنا لا تخضع لنصوص ولا مذاهب، بقدر ما تتبع ميولًا عميقة لدى المجتمعات فى ممارسة ما يناسبها وما تعتقد، دون قيد أو شرط، فالشكل الذى كان يحتفل به الخليفة وأعوانه وحاشيته وعساكره ومنشدوه ما زال ساريًا بمستويات مختلفة، حسب الجديد الذى يطرأ على المجتمع، وهنا يستثمر الحاكم قدوم شهر رمضان المبارك ليقترب من رعيته بتوزيع العطايا والمنح، فبعد انتقال الخليفة فى منتصف الشهر إلى دار الفطرة، وهى الدار التى تتكدَّس فيها المواد التموينية الرمضانية، والتى يحلو للخليفة أن يغدق بها على جموع الناس بالقسطاس، فيقسم الأصناف إلى أكوام تختلف فى أوزانها وبالطبع كمياتها، بداية من ربع قنطار -كما ورد فى «المقريزى» ثم ما كتبه أبو الفتوح رضوان- إلى عشرة أرطال، إلى رطل، إلى ما أقل، وبعد أن يطمئن الخليفة على شكل القسمة، ينصرف ومعه الوزير الذى يعطى القائمين على العمل بعضًا من المال يصل إلى ستين دينارًا، ثم تأتى القوائم التى تحتوى على أسماء الموهوبين والممنوحين من عطايا الخليفة، وتبدأ عملية التوزيع المنظمة على الناس فى صينيات، وفى كل صينية كلمة بليغة من صاحب الديوان، ويقدر المقريزى المبالغ التى تنفقها دار الفطرة على مدى شهر رمضان بنحو سبعة آلاف دينار، ولو قارنا ما كان يحدث فى ذلك الوقت، سنجده يحدث الآن بحذافيره فى المساجد المصرية، وربما يكون هذا التقليد يحدث فى بلاد إسلامية أخرى، وإن كان هذا الشكل الاحتفالى يتزيّن بمظهر دينى، لكنه فى الأصل سلوك اجتماعى عميق لدى المصريين منذ أزمنة بعيدة، والغرض منه سياسى، ليرضى الناس عن الخليفة وحكومته وعسكره، بعد أن يكون قد أرضى الله سبحانه وتعالى، أما فى قصر الخليفة، فتُقام الموائد النوعية الخاصة، فتمتد من اليوم الرابع لرمضان المائدة فى قاعة تسمى «قاعة الذهب»، ويدعى إلى هذه المائدة رهط من الموظفين الكبار والأعيان وبعض من الأمراء، وكذلك يدعى قاضى القضاة فى ليالى الجمع فقط، ولو حضر الوزير إحدى الليالى يجلس بالطبع فى صدر المجلس، وحوله كل هؤلاء، ويجلسون فى ترتيب تنظمه المستويات والرتب، إذن هل هناك اختلاف؟، لا أظن، فهذا الشكل الاحتفالى الفاطمى الذى لم يوجد قبل ذلك فى مصر، وظل موجودًا بعد ذلك بدرجات ومستويات ومفردات مختلفة حتى الآن، حتى التفصيلة التى تخص حضور الوزير من عدم حضوره، نجدها مكرّرة فى عصور مختلفة فى ما بعد، ويقول المقريزى بأن المائدة -ويسميها السماط- تكون بامتداد القاعة كلها، أى بطول 174 مترًا، وبعرض أربعة أمتار.. «ويهتم فيه -أى السماط- اهتمامًا عظيمًا تامًّا بحيث لا يفوته شىء من أصناف المأكولات الفائقة والأغذية الرائقة»، ويكون هناك حشد من الخدم والفراشين الذين يقومون بخدمة الضيوف الآكلين، من حمل كيزان الماء المبخر، وبعد أن تنتهى الوليمة كل ليلة، يفيض قدر كبير من الطعام، فيحمل كل واحد من هؤلاء الضيوف ما يكفى أسرته وزيادة، ولم يكن هذا مستهجنًا آنذاك، لأنهم كانوا يعتبرون ذلك نوعًا من البركة التى تعود على المانح والممنوح فى الوقت نفسه، وإن كانت هذه الأماسى دون الخليفة، فتسير كما أسلفنا، أما إذا حضرها الخليفة، فكان يجلس فى كوة من المكان تسمى «الروشن»، فيتناول الإفطار مع حاشيته، ويظل معهم حتى السحور، وفى هذا الامتداد الزمنى يحضر المقرئون لترتيل القرآن الكريم، وكذلك يأتى المؤذنون فيكبرون ويعددون بالأذكار فضائل السحور، ولا ينسون فى ثنايا ذلك الدعاء للخليفة بالنصر دومًا ودوام الصحة وطول العمر، وكل واحد يتفنن فى إنتاج الدعوات الخاصة، أما المقرئون فتحدّث بينهم مباراة حامية الوطيس فى استعراض أصواتهم وفنونهم فى القراءة، لأن الخليفة من الطبيعى أن يصطفى من رهط المقرئين، بعضًا ليكونوا قريبين منه، ويصاحبونه فى المناسبات المختلفة فى ما بعد، ومما يذكر أن تلاوة القرآن فى العهد الفاطمى كانت متألقة فى مصر إلى حد بعيد، وربما لم يدون المؤرخون لهذه الظاهرة بشكل تفصيلى وفنى كما يجب، لكن المؤرخين كانوا مشغولين برصد مظاهر الاحتفالات عمومًا، ورصد الدور العظيم الذى كان يقوم به ويحدثه الخليفة وحاشيته، وإلى جوار المقرئين والمؤذنين، كان هناك الوعّاظ، فتوضع لهم المخاد والأرائك الخاصة، ليكونوا مرتاحين وهم يعددون فضائل رمضان، كما يعددون فضائل الخليفة المانح العاطى العادل، ثم ينشدون بعد ذلك الموشحات الصوفية، وبعد انقضاء دور المقرئين والمؤذنين والوعاظ، تبدأ فقرة أخرى، وهى الخاصة بالرقص، ليستمر إلى ما بعد منتصف الليل، وفيه توزَّع الحلوى والقطائف، وهى كذلك إبداع مصرى فاطمى ما زال قائمًا حتى الآن، ولم يهمله المصريون، بل لا معنى لرمضان دون قطايف وكنافة وما شابه من حلوى رمضانية أصيلة، ويقول المقريزى: «وتكون المائدة معبّأة من أصناف الحيوان والحلوى من بقلويات وقطائف وغيرها ما لا يحصى»، وعندما يحل اليوم التاسع والعشرون من رمضان يكون احتفالًا عظيمًا بنهايته وختم القرآن الكريم، ويحضر الخليفة والوزير وبقية من عددناهم سلفًا، ويكون للسيدات دور فى إرسال بعض ما أبدعن من طعوم ومأكول ومشروب، وفى هذه الليلة المباركة الختامية يرتل المقرئون القرآن الكريم من الفاتحة إلى الخاتمة، وعند الختام تحمل الأوانى إلى أصحابها، ثم ينشد المؤذنون الصوفيات المعهودة والجديدة، إلى كل الكرنفالات التى سردتها كتب التاريخ، والتى لا تختلف كثيرًا عما جرى فى العهود التى أتت فى ما بعد، وكل ذلك لا يجد غضاضة لدى المصريين، الذين يجدّدون شكل الاحتفالات، مع الإبقاء على الجوهر الذى ترسَّخ منذ العهد الفاطمى.