كان اللافت طوال أيام مخاض الثورة التونسية رد الفعل المصري، تباري الإعلام الرسمي في بث تصريحات لمسئولين عن مظلة الضمان الاجتماعي وبطاقات التموين، واستحالة تكرار الأحداث في مصر، ومع بزوغ التفاعل الشعبي إزاء الانتفاضة هناك تحركت الميليشيات، فعلي عجل تباري المشايخ في التنديد بالمنتحرين، وأن كلا منهم ينتظر مقعده من النار، ربما كان الاستثناء هو الشيخ القرضاوي الذي قال إن النار أولي بالطغاة ، كما أدلي الشيخ يوسف البدري بتصريح شجاع باعتبار أن الانتحار رسالة لأولي الأمر، فيما دارت وبشدة حلقة اغتيال الضحايا، مرة باعتبار أحدهم يبحث عن ابنة تركت المنزل مع حبيب تحدي الأسرة وثانية بتأكيد أن ظروفا عائلية معقدة هي السبب، وثالثة لأن المنتحر مريض نفسي، وكالعادة اختار بعناية وزير خارجيتنا لا فض فوه توقيتا للحديث ليقتنص فيه أكبر قدر من الكراهية، فقال إن تكرار ما حدث في تونس بمصر"كلام فارغ". الأرقام تقول إن الاقتصاد التونسي أقوي من نظيره المصري، فهو متعدد الروافد، تشكل الصناعة التحويلية فيه نحو 19 %، تجمع تونس طائرات البوينج ، تعد شريكا هاما للاتحاد الأوروبي، معدل دخل الفرد السنوي اقترب من 4500 دولار، 2.8% فقط من السكان تحت خط الفقر (أقل من400دولار سنويا)، عدد سكان لا يتجاوز 10 ملايين نسمة. معدل تنمية ثابت بلغ العام الحالي 3.8% في حين كان أكثر من ذلك خلال الأعوام الماضية، تعليم متقدم وطبقة وسطي محددة المعالم ومستقرة، ورغم ذلك حدثت الانتفاضة لأمرين هما الفساد والقمع البوليسي، لكن ربما للأسباب الإيجابية السابقة كانت الاحتجاجات متحضرة وسلمية، لم تتوغل التنظيمات الأصولية لحصانة مجتمعية سبقت الأمنية، حتي الطبعة الإخوانية هناك ممثلة في حزب النهضة كانت أكثر تنويرا وليست علي استعداد للتفريط في مكتسبات اجتماعية نالتها تونس منذ بورقيبة، مجتمع متجانس إثنيا ودينيا، ولا يخضع لأية تهديدات خارجية. في مصر الوضع أسوأ بكثير، اقتصاد يحقق نموا لكن مثقل بالديون الخارجية والداخلية، بلغت الأولي نحو 540 مليار جنيه في التقديرات الرسمية، ويقول خبراء 745 مليار جنيه، والثانية 33مليار دولار، مجتمع يتجه نحو السلفية، مأزوم طائفيا، مهدد بعدو خارجي دائم، يواجه تنافسا إقليميا ساهم في تآكل أذرعه الخارجية، مهدد في شربة مائه، يعاني من الاحتكار والفساد وتزاوج الثروة والنفوذ، وفوق كل ذلك يتجه نظامه إلي مزيد من القمع وتراجع الحريات، أخلي برلمانه من دسم المعارضة حتي المستأنسة منها وأغلق منافذ الهواء عن صحافته وإعلامه. إذن الأسباب مهيأة للتمرد، لكن التمرد في حالة حدوثه لن يكون في هدوء مثلما يحدث في تونس، فلا طبقة وسطي ولا تعليم ولا تنوير وبالطبع الفقر سيد الموقف، والخاسر في كل الأحوال هو الوطن، فهو الذي سيخسر أبناءه أو مؤسساته. بقراءة تاريخ الأنظمة الفاسدة المتهاوية في ثلاثة عقود علي الأقل سنجد أن التغيير الثوري الشامل لم يكن في صالح الوطن، تأتي الثورة بنزعات انتقامية ثم تبدأ في أكل أبنائها، حدث ذلك في إيران، علي سبيل المثال، كانت تجربة الإصلاح الشامل المرتكز علي مؤسسات قائمة بالفعل هي الأنجح، رأينا ناتج ذلك في أوروبا الشرقية، وفي أمريكا اللاتينية، بل في تركيا، تنجو البلاد من الفوضي وتطور أداءها، واقتصادها و تسد الطريق أمام تنظيمات راديكالية متطرفة. في تونس إلي الآن تمشي الثورة في طريقها السليم، جيش محايد وإصلاح من داخل النظام ورغبة وطنية في استيعاب الجميع، أما في مصر فلا يزال النظام يري أنه الأفضل، ويقدم كل ما في جعبته للفقراء، ومثالا في الحرية، رائدا في الحكمة، لا يريد إصلاحا، بل يريدها فوضي محتملة، لا مشكلة إذن طالما أن عددا كبيرا من أعضائه يجيد قيادة الطائرات.