فقدت الصحافة المصرية مساء السبت الماضي الكاتب الصحفي والمفكر اليساري البارز د. محمد السيد سعيد نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، فعلي الرغم من أن الرجل يصنف علي أنه مفكر يساري إلا أنه كان يتمتع بقبول جميع التيارات السياسية نظراً لرؤيته الواسعة وتحليلاته الموضوعية حتي إنه كان يصف نفسه دائماً بأنه «الليبرالي بين اليساريين ويساري بين الليبراليين» ويعد الراحل محمد السيد سعيد واحداً من أبرز المفكرين السياسيين الذين ظهروا في مصر، خلال العقدين الماضيين. وكان سعيد الأكثر هدوءاً وبعداً عن الصخب الإعلامي والمشاغبات الفكرية العبثية وكان سعيد مناضلاً يسارياً حقيقياً فقد كنا نراه في وسط القاهرة مع الجموع الغاضبة والمحتجة من حركة «كفاية» جنباً إلي جنب مع الراحل عبدالوهاب المسيري.. ورغم أنه كان يعاني من مرض السرطان ونال العلاج الكيماوي من جسده كثيراً إلا أن صلابته في مواجهة هراوات الأمن المركزي وكرابيج جلادي النظام كانت تجعلك تظن أنه مازال في ريعان شبابه اعتقل سعيد عام 1989 لتضامنه مع عمال الحديد والصلب في مشكلاتهم وتعرض لتعذيب وحشي داخل السجن، وأفرج عنه بعد ضغوط كبيرة من النخبة المصرية وعلي رأسها نقابة الصحفيين، وقد قررت السلطات الأمنية والثقافية الرسمية شطب اسمه من قائمة الكتاب والمثقفين المقرر لقاؤهم مع الرئيس مبارك في احتفالية افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب عقاباً له علي طلبه تعديل الدستور ليسمح بتداول سلمي للسلطة وذلك خلال لقائه مبارك في عام 2005 وهو الطلب الذي أغضب الرئيس وقتها وجعله يتحدث بطريقة غير لائقة مع سعيد، ويعتبر سعيد قيمة فكرية وسياسية كبيرة، لم ينل حظه في الترقي في مؤسسة الأهرام نظراً لما عرف عنه من مواقف متشددة إزاء سياسات النظام الذي يملك هذه المؤسسة وينفق عليها من أموال المواطنين، وعلي الرغم من أن سعيد كانت خبرته محصورة في الأطر البحثية بمعناها الاحترافي، إلا أنه استطاع أن يؤسس واحدة من أفضل الاصدارات اليسارية التي ظهرت في مصر خلال الأعوام القليلة وهي جريدة «البديل» أهم ما ميز سعيد أنه كان لا يكتب إلا ما يقتنع به، وكان صدقه وشفافيته وأبحاثه التي يكتبها بمنطق البحث المجرد وليس تزلفاً لجهة أو سلطة سياسية أو فكرية ولعل هذا ما حقق له منزلة التوقير والاحترام عند النشطاء السياسيين وفي الجماعة الصحفية المصرية وفي أوساط المجتمع السياسي المصري سواء كانوا متفقين معه أو حتي مختلفين مع ما يكتبه، يذكر أن الفقيد ولد في مدينة بورسعيد عام 1950، وتخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1972 وشارك في حرب أكتوبر عام 1973 وعقب انتهاء الحرب التحق بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عام 1975 وشارك في تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان والحركة المصرية من أجل التغيير. ******** وداعاً محمد السيد سعيد أتقدم لأسرة صديقي و زميل عمري الكاتب الكبير و المحلل السياسي المتميز بكل العزاء، فقد حاولت في آخر اتصال بيني وبينه، حاولت أن أسمع صوته، كانت الأخبار التي تصلني غير مشجعة عن حالته الصحية و كنت أود أن يعرف قدره الكبير عندي و لكن للأسف القدر لم يمهلني و لم يمهله لكي يسمع مني كم سأفتقده. رحل عن عالمنا رئيس تحرير و مؤسس البديل، محمد السيد سعيد، هذا الرجل الجميل النبيل الرقيق النظيف الزاهد من ماديات الحياة فاختار الله أن يتركنا و يقابله مبكرا مختاراً أفضل الرجال، ليرتاح محمد من ضراوة المرض و لينام إلي جانب الشهداء و الملائكة. وترك من ورائه دنيا ليس لها قانون غير قانون الغابة و القوي يفتك بالضعيف، دنيا ليس فيها سماحة للتواصل و لا التقدير للغير إلا بتبادل المصالح. محمد السيد سعيد كان رجلاً مختلفاً سيظل قدوة لكل من عمل معه. هذا الرجل دمث الخلق و الطباع و الذي ترك عالمنا، كان كريماً مع الزمالة القديمة، فما أن اتصلت به و البديل في حالة ميلاد، إلا و استقبلني علي صفحاتها بكل الود و الإعزاز.لن أنسي يا محمد أنني واصلت الكتابة في البديل أسبوعاً بعد آخر وأنت تشجعني بالنشر في صفحة الرأي و نشرت عندك مقالات و مقالات، كانت هي التي قامت بتحديث كتابي الذي ظهر خلال شهر سبتمبر الماضي، و قلت في مقدمة الكتاب لولا محمد السيد سعيد ما كان من الممكن أن تنشر هذه المقالات و التي كانت في بعض الأحيان نارية و في البعض الآخر ساخرة ثم كانت أيضا ناقدة و مدافعة بقوة عن المقهور و المتضرر. وداعاً يا محمد...أعتذر إليك لأنني لم أودعك و لم أكن إلي جانبك في النهاية... و لكن كلنا، محبوك و مريديوك، سوف نوفي بالوعد و نرد الجميل إلي ابنك الوحيد الذي من أجله تركت الجاه و المال وقت أن كنت مديرا لمكتب الأهرام في واشنطن و عدت إلي مصر. الرجال قليلون و أنت منهم وإلي الجنة يا محمد.