بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد النصر بالعريش    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين بمُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة Thinqi    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. في القاهرة والمحافظات    رئيس قناة السويس: ندرس تنفيذ مشروع للتحول لمركز إقليمي لتوزيع قطع الغيار وتقديم خدمات الإصلاح والصيانة السريعة    حماية العمالة غير المنتظمة.. "العمل": آلاف فرص العمل ل"الشباب السيناوي"    الإسكان: تنفيذ 24432 وحدة سكنية بمبادرة سكن لكل المصريين في منطقة غرب المطار بأكتوبر الجديدة    بالفيديو والصور- ردم حمام سباحة مخالف والتحفظ على مواد البناء في الإسكندرية    الاتصالات الفلسطينية: عودة خدمات الإنترنت بمناطق وسط وجنوب قطاع غزة    معلق مباراة الأهلي ومازيمبي في دوري أبطال أفريقيا    فانتازي يلا كورة.. جدول مباريات الجولة 35 "المزدوجة"    مصرع شخص في حادث تصادم ببني سويف    انتداب الطب الشرعي لمعاينة جثث 4 أشخاص قتلوا على يد مسجل خطر في أسيوط    25 مليونًا في يوم واحد.. سقوط تجار العُملة في قبضة الداخلية    "المكون الثقافي وتأثيره في السياسات الخارجية المصرية" ندوة بمكتبة الإسكندرية    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة إلى أوكرانيا    خبير دولي: مصر رفضت مخطط التهجير الخبيث منذ اليوم الأول للعدوان على غزة    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    أسعار البيض والدواجن اليوم الجمعة.. البلدي ب 117 جنيهًا    المندوه: لاعبو الزمالك في كامل تركيزهم قبل مواجهة دريمز    تواجد مصطفى محمد| تشكيل نانت المتوقع أمام مونبلييه في الدوري الفرنسي    تشافي يطالب لابورتا بضم نجم بايرن ميونخ    اتحاد جدة يعلن تفاصيل إصابة بنزيما وكانتي    11 مساء ومد ساعة بالإجازات.. اعرف المواعيد الصيفية لغلق المحلات اليوم    كاتب صحفي: الدولة المصرية غيرت شكل الحياة في سيناء بالكامل    منها «ضمان حياة كريمة تليق بالمواطن».. 7 أهداف للحوار الوطني    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    وزير الخارجية الأمريكي يلتقي مع الرئيس الصيني في بكين    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    شاهد البوسترات الدعائية لفيلم السرب قبل طرحه في السينمات (صور)    في ذكرى ميلادها.. أبرز أعمال هالة فؤاد على شاشة السينما    احتجت على سياسة بايدن.. أسباب استقالة هالة غريط المتحدثة العربية باسم البيت الأبيض    موضوع خطبة الجمعة اليوم: تطبيقات حسن الخلق    دعاء صباح يوم الجمعة.. أدعية مستحبة لفك الكرب وتفريج الهموم    الصحة: إجراء الفحص الطبي ل مليون و688 ألف شاب وفتاة ضمن مبادرة «فحص المقبلين على الزواج»    تنظيم قافلة طبية مجانية ضمن «حياة كريمة» في بسيون بالغربية    طريقة عمل هريسة الشطة بمكونات بسيطة.. مش هتشتريها تاني    نائب وزير خارجية اليونان يزور تركيا اليوم    حزب الله ينشر ملخص عملياته ضد الجيش الإسرائيلي يوم الخميس    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    انطلاق انتخابات التجديد النصفي لنقابة أطباء الأسنان بالشرقية    خبير: أمطار غزيرة على منابع النيل فى المنطقة الإستوائية    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور في 20% من عينات الألبان في الولايات المتحدة    جامعة الأقصر تحصل على المركز الأول في التميز العلمي بمهرجان الأنشطة الطلابية    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميًّا    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«النساء».. ننشر الكتاب المجهول للفقيه ابن قيم الجوزية
نشر في صوت الأمة يوم 12 - 09 - 2017

التراث العربى حافل برصيد ضخم من الحكايات والروايات عن النساء، ما جعل النساء موضوعًا ثريًا للمؤلفين والفقهاء، تركوا لنا العشرات من الكتب والمراجع عن عالم النساء بكل جوانبه. ومن أشهر هذه الكتب كتاب «أخبار النساء» والذى اختلف المحققون فى صاحبه، فبعضهم قال إنه ابن قيم الجوزية، والبعض قال إنه الجوزى. ولعل الفريق الأول أكثر شهرة وثقة. ولد ابن قيم الجوزية فى دمشق سنة 691 ه 1292م ، وتتلمذ على يد الإمام ابن تيمية وأصبح من مريديه. وكان تلميذًا مخلصًا لمعلمه يدعو له وينشر فتاواه ويناضل فى سبيله، حتى أنه سجن معه فى قلعة دمشق سنة 726 ه 1326م. وبعد وفاة ابن تيمية، هذب ابن القيم مؤلفات أستاذه وشرحها. يتناول ابن القيم فى فصول الكتاب عددًا مهمًا من الموضوعات منها أنه عدد أوصاف النساء المثالية، وتحدث عن الخلق والخُلق للمرأة، وتصدى للحديث عن الحب والعشق فى حياة المرأة، وعن المحظورات والمباحات عندهن، ولم يغفل عن التطرق إلى صفة الوفاء عند المرأة لزوجها وحبيبها، وكيف تقضى حياتها مخلصة له بعد وفاته، وقد أغلقت قلبها أمام كل الرجال من أصحاب السلطان والأموال، وبالمقابل تعرض لغدر النساء وكيف تنسى المرأة وعودها لزوجها أو حبيبها وتنهزم أمام رغبة أو شهوة.
قصة جارية رفضت إغراءات أمير المؤمنين
ذكر أنّ معاوية بن أبى سفيان جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له بدمشق على قارعة الطّريق، وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه، إذ نظر إلى رجلٍ يمشى نحوه وهو يسرع فى مشيته راجلاً حافيًا، وكان ذلك اليوم شديد الحرّ، فتأمّله معاوية ثمّ قال لجلسائه: لم يخلق الله ممّن أحتاج إلى نفسه فى مثل هذا اليوم. ثمّ قال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّته فوالله لئن كان فقيرًا لأغنينّه، ولئن كان شاكيًا لأنصفنّه، ولئن كان مظلومًا لأنصرنّه، ولئن كان غنيًا لأفقرنّه. فخرج إليه الرسول متلقيًا فسلّم عليه فردّ عليه السّلام. ثمّ قال له: ممّن الرّجل؟ قال: سيّدى أنا رجلٌ أعرابيٌّ من بنى عذرة، أقبلت إلى أمير المؤمنين مشتكيًا إليه بظلامةٍ نزلت بى من بعض عمّاله. فقال له الرّسول: أصبحت يا أعرابي؟ ثمّ سار به حتّى وقف بين يديه فسلّم عليه بالخلافة ثمّ أنشأ يقول:
معاوى يا ذا العلم والحلم والفضل.. ويا ذا النّدى والجود والنّابل الجزل، أتيتك لمّا ضاق فى الأرض مذهبى.. فيا غيث لا تقطع رجائى من العدل، وجد لى بإنصافٍ من الجّائر الذى.. شوانى شيّاً كان أيسره قتلي، سبانى سعدى وانبرى لخصومتى.. وجار ولم يعدل، وأغصبنى أهلي، قصدت لأرجو نفعه فأثابنى.. بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكبل، وهمّ بقتلى غير أن منيّتى.. تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي، أغثنى جزاك الله عنّى جنّةً.. فقد طار من وجدٍ بسعدى لها عقلي، فلمّا فرغ من شعره قال له معاوية: يا إعرابى إنّى أراك تشتكى عاملاً من عمّالنا ولم تسمعه لنا! قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وهو والله ابن عمّك مروان بن الحكم عامل المدينة. قال معاوية: وما قصّتك معه يا أعرابى. قال: أصلح الله الأمير، كانت لى بنت عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوّجنى منها. وكنت كلفًا بها لما كانت فيه من كمال جمالها وعقلها والقرابة. فبقيت معها يا أمير المؤمنين، فى أصلح حالٍ وأنعم بالٍ، مسرورًا زمانًا، قرير العين. وكانت لى صرمةً من إبلٍ وشويهات، فكنت أعولها ونفسى بها. فدارت عليها أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ فذهبت بقدرة الله. فبقيت لا أملك شيئًا، وصرت مهينًا مفكّرًا، قد ذهب عقلى، وساءت حالى، وصرت ثقلاً على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها حال بينى وبينها، وأنكرنى وجحدنى وطردنى، ودفعها عنّى. فلم أقدر لنفسى بحيلةٍ ولا نصرةٍ. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم مشتكيًا بعمّى، فبعث إليه، فلمّا وقف بين يديه، قال له مروان: يا أيّها الرّجل لم حلت بين ابن أخيك وزوجته؟ قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندى زوجة ولا زوجته من ابنتى قط. قلت أنا: أصلح الله الأمير، أنا راضٍ بالجّارية، فإن رأى الأمير أن يبعث إليها ويسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها فأتت الجّارية مسرعةً، فلمّا وقفت بين يديه ونظر إليها وإلى حسنها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار لى، يا أمير المؤمنين خصمًا وانتهرنى، وأمر بى إلى السّجن. فبقيت كأنى خررت من السّماء فى مكانٍ سحيقٍ، ثمّ قال لأبيها بعدى: هل لك أن تزوّجها منّى، وأنقدك ألف دينارٍ، وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن طلاقها؟ قال له أبوها: إن أنت فعلت ذلك زوّجتها منك.

فلمّا كان من الغد بعث إليّ، فلمّا أدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان، فقال لى: يا أعرابى طلّق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربى ثم ردّنى إلى السّجن، فلمّا كان فى اليوم الثّانى قال: عليّ بالأعرابى. فلمّا وقفت بين يديه، قال: طلّق سعدى. فقلت: لا أفعل. فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خدّامه فضربونى ضربًا لا يقدر أحدٌ على وصفه، ثمّ أمر بى إلى السّجن؛ فلمّا كان فى اليوم الثّالث قال: عليّ بالإعرابى، فلمّا وقفت بين يديه قال: عليّ بالسّيف والنّطع وأحضر السيّاف، ثمّ قال: يا أعرابى، وجلالة ربّى، وكرامة والدى، لئن لم تطلّق سعدى لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك.

فخشيت على نفسى القتل فطلّقتها طلقةً واحدةً على طلاق السّنّة، ثمّ أمر بى إلى السّجن فحبسنى فيه حتّى تمّت عدّتها ثمّ تزوّجها، فبنى بها، ثمّ أطلقنى. فأتيتك مستغيثًا قد رجوت عدلك وإنصافك، فارحمنى يا أمير المؤمنين. فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجهدنى الأرق، وأذابنى القلق، وبقيت فى حبّها بلا عقلٍ، ثمّ انتحب حتىّ كادت نفسه تفيض. ثمّ أنشأ يقول:
فى القلب منّى نارٌ.. والنّار فيه الدّمار

والجّسم منّى سقيمٌ.. فيه الطّبيب يحار

والعين تهطل دمعًا..فدمعها مدرار

حملت منه عظيمًا.. فما عليه اصطبار

فليس ليلى ليلٌ.. ولا نهارى نهار

فارحم كئيبًا حزينًا.. فؤاده مستطار

اردد عليّ سعادى.. يثيبك الجبّار

ثمّ خرّ مغشيًّا عليه بين يدى أمير المؤمنين كأنّه قد صعق به قال: وكان فى ذلك الوقت معاوية متكّئًا، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه قام ثمّ جلس، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اعتدى والله مروان بن الحكم ضرارًا فى حدود الدّين، وإحسارًا فى حرم المسلمين: ثمّ قال: والله يا أعرابى لقد أتيتنى بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ قال: يا غلام عليّ بداوةٍ وقرطاسٍ فكتب إلى مروان: أمّا بعد، فإنّه بلغنى عنك أنّك اعتديت على رعيّتك فى بعض حدود الدّين، وانتهكت حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما ينبغى لمن كان واليًا على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر نفسه عن لذّاته. وإنّما الوالى كالرّاعى لغنمه، فإذا رفق بها بقيت معه، وإذا كان لها ذئبًا فمن يحوطها بعده. ثمّ كتب بهذه الأبيات:
ولّيت، ويحك أمرًا لست تحكمه.. فاستغفر الله من فعل امرئٍ زاني، قد كنت عندى ذا عقلٍ وذا أدبٍ.. مع القراطيس تمثالاً وفرقان

حتّى أتانا الفتى العذريّ منتحبًا.. يشكو إلينا ببثٍّ ثمّ أحزان

أعطى الإله يمينًا لا أكفّرها.. حقًّا وأبرأ من دينى ودياني

إن أنت خالفتنى فيما كتبت به.. لأجعلنّك لحمًا بين عقباني

طلّق سعاد وعجّلها مجهّزةً.. مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان

فما سمعت كما بلّغت فى بشرٍ.. ولا كفعلك حقًا فعل إنسان

فاختر لنفسك إمّا أن تجود بها.. أو أن تلاقى المنايا بين أكفان

ثمّ ختم الكتاب. وقال: عليّ بنصر بن ذبيان والكميت صاحبيّ البريد. فلمّا وقفا بين يده قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم ولا تضعاه إلاّ بيده. قال فخرجا بالكتاب حتّى وردا به عليه، فسلّما ثمّ ناولاه الكتاب. فجعل مروان يقرأه ويردّده، ثمّ قام ودخل على سعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرت إليه قالت له: سيّدى ما الذى يبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، ورد عليّ فى أمرك يأمرنى فيه أن أطلّقك وأجهّزك وأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركنى معك حولين ثمّ يقتلنى، فكان ذلك أحبّ إليّ. فطلّقها وجهّزها ثمّ كتب إلى معاوية بهذه الأبيات:
لا تعجلنّ أمير المؤمنين فقد.. أوفى بنذرك فى رفقٍ وإحسان

وما ركبت حرامًا حين أعجبنى.. فكيف أدعى باسم الخائن الزاني

أعذر فإنّك لو أبصرتها لجرت.. منك الأماقى على أمثال إنسان

فسوف يأتيك شمسٌ لا يعادلها.. عند الخليفة إنسٌ لا ولا جان

لولا الخليفة ما طلّقتها أبدًا.. حتّى أضمّنّ فى لحدٍ وأكفان

على سعادٍ سلامٌ من فتىً قلقٍ.. حتّى خلّفته بأوصابٍ وأحزان

ثمّ دفعه إليهما، ودفع الجّارية على الصّفة التى حدّث له. فلمّا وردا على معاوية فكّ كتابه وقرأ أبياته ثمّ قال: والله لقد أحسن فى هذه الأبيات، ولقد أساء إلى نفسه. ثمّ أمر بالجّارية فأدخلت إليه، فإذا بجاريةٍ رعبوبةٍ لا تبقى لناظرها عقلاً من حسنها وكمالها. فعجب معاوية من حسنها ثمّ تحوّل إلى جلسائه وقال: والله إنّ هذه الجّارية كاملة الخلق فلئن كملت لها النّعمة مع حسن الصّفة، لقد كملت النّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هى أفصح نساء العرب. ثمّ قال: عليّ بالأعرابى.

فلمّا وقف بين يديه، قال له معاوية: هل لك عنها من سلوٍ، وأعوّضك عنها ثلاث جوارٍ أبكارٍ مع كلّ جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍ منهنّ عشر خلعٍ من الخزّ والدّيباج والحرير والكتّان، وأجرى عليك وعليهنّ ما يجرى على المسلمين، وأجعل لك ولهنّ حظًا من الصّلات والنّفقات؟ فلما أتمّ معاوية كلامه غشى على الأعرابيّ وشهق شهقةً ظنّ معاوية أنّه قد مات منها. فلّما أفاق قال له معاوية: ما بالك يا أعرابي؟ قال: شرّ بالٍ، وأسوأ حالٍ، أعوذ بعدلك يا أمير المؤمنين من جور مروان. ثمّ أنشأ يقول:
لا تجعلنى هداك الله من ملكٍ.. كالمستجير من الرّمضاء بالنّار

أردد سعاد على حرّان مكتئبٍ.. يمسى ويصبح فى همٍّ وتذكار

قد شفّه قلقٌ ما مثله قلقٌ.. وأسعر القلب منه أيّ إسعار

والله والله لا أنسى محبّتها.. حتّى أغيّب فى قبرى وأحجاري

كيف السّلوّ وقد هام الفؤاد بها.. فإن فعلت فإنى غير كفّار

فأجمل بفضلك وافعل فعل ذى كرمٍ.. لا فعل غيرك، فعل اللؤم والعار

ثمّ قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتنى كلّ ما احتوته الخلافة ما رضيت به دون سعدى. ولقد صدق مجنون بنى عامر حيث يقول:
أبى القلب إلاّ حبّ ليلى وبغّضت.. إليّ نساءٌ ما لهن ذنوب.


الحياء تاج العشق.. الخطوط الحمراء عند لقاء العشاق
فقال له: أنا أقعدك فى موضعٍ تسمع من غنائها ولا تراها ولا تراك، ولم يزل به حتّى دخل وسمع غناءها، فأعجبه، فقال له: هل لك أن أخرجها لك؟ فامتنع بعض الامتناع، ثمّ أجابه. فأخرجها إليه، وأقعدها بين يديه، وغنّته، فشغف بها، وشغفت به، وكان أديبًا ظريفًا، واشتهر أمره معها بمكّة حتّى سمّوها سلامة القسّ.

وخلا معها يومًا، فقالت له: أنا، والله، أحبّك فقال لها: أنا، والله، كذلك. قالت له: أحبّ أن أضع فمك على فمى. قال: وأنا، والله. قالت: فما يمنعك من ذلك، فوالله إنّ الموضع لخالٍ؟ فقال لها: ويحك، إنّى سمعت الله عزّ وجل يقول فى كتابه: «الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتّقين»، وأنا أكره أن تكون خلّة ما بينى وبينك عداوة يوم القيامة. ثمّ نهض وعيناه تذرفان من حبّها وعاد إلى الطّريقة التى كان عليها من النّسك والعبادة، وكان يمرّ فى بعض الأيّام ببابها فيرسل إليها بالسّلام فيقال له: ادخل فيأبى، وقال فيها أشعارًا كثيرةً، وغنّته بها. فمنها:
إنّ التى طرقتك بين ركائب.. تمشى بمزهرها وأنت حرام

باتت تعلّلنا، وتحسب أنّنا.. فى ذاك أيقاظ ونحن نيام

حتّى إذا سطع الصّبح لناظرٍ.. فإذا الذى ما بيننا أحلام

قد كنت أعزل فى السّفاهة أهلها.. فأعجب بما تأتى به الأيام

فاليوم أعذرهم وأعلم أنّما.. طرق الضّلالة والهدى أقسام

وفيها قوله:
على سلاّمة القلب السّلام.. تحية من زيارته لمام

أحبّ لقاءها، وألوم نفسى.. كأنّ لقاءها شيءٌ حرام

إذا ما حنّ مزهرها إليها.. وحنّت نحوه، أذن الكرام

فمدّوا نحوها الأعناق حتّى.. كأنّهم وما ناموا نيام

وله فيها أشعار كثيرة تركت ذكرها ها هنا لأنّها مستقصاةٌ من أخبارها فى كتاب طبقات المغنّين.

- قال: وفدت عزّة وبثينة على عبدالملك بن مروان فلمّا دخلتا عليه انحرف إلى عزّة، وقال لها: أنت عزّة كثير؟ قالت: لست لكثير بعزّة ولكنّى أمّ بكرٍ الضّمريّة. قال أتروين قول كثيرٍ فيك؟

لقد زعمت أنى تغيّرت بعدها.. ومن ذا الذى يا عزّ لا يتغيّر

تغيّر جسمى والخليقة كالتى.. عهدت، ولم يخبر بسرّك مخبر

قالت: لست أروى هذا، ولكنّى أروى غيره حيث يقول:
كأنّى أنادى صخرةً حين أعرضت.. من الصّمّ لو يمشى بها العصم زلّت

صفوحاً فما تلقاك إلاّ بحيلةٍ.. فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت

ثمّ عطف على بثينة فقال لها: ما رأى جميل حين لهج بذكرك بين النّساء كلّهن؟ قالت: الذى رأى فيك النّاس حين جعلوك خليفة من بين رجال العالمين. فضحك حتّى بدت سنٌّ له سوداء، كان يخفيها، وأجزل جائزتهما وقضى حوائجهما.

- وقال محمّد بن يحيى المدنى: سمعت عطاء يقول: كان الرّجل يحبّ الفتاة فيطوف بدارها حولاً كاملاً يفرح إن رأى مرآها، وإن ظفر منها بمجلسٍ تشاكيا وتناشدا الأشعار، فاليوم يشير إليها، وتشير إليه، فإذا التقيا لم يشكيا حبّا، ولم ينشدا شعرا، وقام إليها كأنّه أشهد على نكاحها أبا هريرة وأصحابه.

- وحكى أبو الحسن المداينى قال: هوى بعض المسلمين جاريةً بمكّة فأرادها، فامتنعت عليه، فأنشدها:
سألت الفتى المكّيّ هل فى تزاورٍ.. وقبلة مشتاق الفؤاد، جناح؟

فقال: معاذ الله أن يذهب الهوى.. تلاصق أكبادٍ بهنّ جراح

فقالت له: بالله، إنّك سمعته وسألته فأجابك بهذا الجّواب؟ قال: نعم. فزارته وجعلت تقول: إيّاك أن تتعدى ما أمرك به عطاء.

- قيل لأعرابيّ: ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أمتّع عينى فى وجهها، وقلبى من حديثها، وأستر منها ما لا يحبّه الله ولا يرضى بكشفه إلا عند حلّه، قيل: فإن خفت ألا تجتمعا بعد ذلك؟ قال: أكل قلبى إلى حبّها، ولا أصير بقبيح ذلك الفعل إلى نقض عهدها.

- وعن عبدالملك بن قريب الأصمعى قال: بصرت الزّبّاء بعمر بن أبى ربيعة، وهو يطوف بالبيت، فتنكّرت له وفى كفّها خلوقٌ، فمسحته بثوبه، فقال:
أدخل الله ربّ موسى وعيسى.. جنّة الخلد من ملانى خلوقا

مسحت كفها بجيب قميصى.. حين طفنا بالبيت مسحا رقيقا

لو تجازى القلوب بالودّ أمسى.. قلبها مائلا إلينا شفيقا

فنظر إليه عبدالله بن عمر فى تلك الحالة ينشد الأبيات، فقال: ما هذا زى المحرم وما يحلّ للمحرم أن يقول مثل هذا القول فى هذا الموضع فقال: يا أبا عبدالرّحمن قد سمعت منّى ما سمعت، فوربّ هذه البنية، ما حللت إزارى على حرام قط.

- قال العتيبى: قيل لبعض الأعراب، ما الذى ينال أحدكم من عشيقته إذا خلا بها؟ قال اللمس والقبل والحديث، قال فهل يطؤها؟ قال: بأبى أنت وأمّى ليس هذا عاشقًا هذا طالب ولد.

قال: وكان الشّرط بين العاشق ومعشوقه إذا خلوا أن يكون له نصفها الأعلى من سرّتها إلى قمّة رأسها يصنع فيها ما شاء، ولبعلها من سرّتها إلى أخمصها، وأنشد ابن الأعرابيّ فى مثل ذلك:
فللخلّ شطرٌ مطلقٌ من عقاله.. وللبعل شطرٌ ما يرام منيع

وأنشد أبو عمرو بن العلاء فى نحوه:
لها نصفان من حلٍ وبلٍ.. ونصف كالبحيرة ما يهاج

يقول نصفها الأعلى لعشيقها طلقٌ، ونصفها الآخر عليه كالبحيرة - فإنّها كانت فى الجّاهلية حرامًا لا تهاج ولا تركب ولا تمنع من كلأ ولا ماء - وأنشد الأصمعى لبعض ظرفاء العرب يخاطب بعل عشيقته:
فهل لك فى البدال أبا زنيم.. وأقنع بالأكارع والعجوب

قال إبراهيم بن بشارة النّظام: قد يمكن الرجل أن يحتجز عن ذلك ما دام ليس له هنالك إلاّ الحديث والقبلة، فأمّا إذا ترشّفها وعانقها من دون ثيابها فلا بد أن ينعظ وينشط وإذا أنعظ وهو فى الإزار معها انتقض العزم، كما قال عبدالرّحمن بن أمّ الحكم:
وكأس ترى بين الإناء وبينها.. قذى العين قد نازعت أم أبان

ترى شاربيها حين يعترونها.. يميلان أحيانا ويعتدلان

فما ظنّ ذا الواشى بأبيض ماجدٍ.. وبيضاء خودٍ حين يلتقيان

دعتنى أخا أمّ عمرو ولم أكن.. أخاها ولم أرضع لها بلبان

دعتنى أخاها بعد ما كان بيننا.. من الأمر ما لا يفعل الأخوان

- قال الأصمعى: قلت لأعرابيّةٍ من بنى عذرة: أنتم أكثر النّاس عشقاً فما تعدّون العشق فيكم؟ قالت: الغمزة والقبلة والضمّة، ثمّ قالت:
ما الحبّ إلا قبلةٌ.. وغمز كف، وعضد.

ما الحبّ إلا هكذا.. إن نكح الحبّ فسد.

ثمّ قالت: وأنتم يا حضر، كيف تعدّون العشق فيكم؟ قلت: يقعد بين رجليها ويجهد نفسه، فقالت: يا ابن أخى، ما هذا عاشق هذا طالب ولد.

- قيل لبعض الأعراب، وقد طال عشقه لجاريةٍ: ما أنت صانعٌ لو ظفرت بها ولا يراكما غير الله؟ قال: إذا، والله لا أجعله أهون النّاظرين، لكنّى أفعل بها ما أفعل بحضرة أهلها، حديثٌ يطول، ولحظٌ كليل وترك ما يكرهه الرّب، وينقطع به الحبّ.

- وكان عبدالرّحمن بن أبى عمّار فقيه أهل الحجاز، قد مرّ بنخّاسٍ معه فتيات، فنظر إليهنّ، فتعلّق بواحدةٍ منهنّ، فاشتد وجده بها، واشتهر بذكرها، حتّى أتى إليه عطاء ومجاهد يعزلونه.

فلم يكن جوابه إلاّ أن قال:
يلوموننى فيك أقوامٌ أجالسهم.. فما أبالى أطال اللوم أم قصرا

فانتهى خبره إلى عبدالله بن جعفر فخرج حاجّا بسببه، وبعث إلى مولى الجّارية واشتراها منه بأربعين ألفا، وأمر قيّمة جواريه فحلّتها وزيّنتها. وبلغ النّاس قدومه، فدخلوا إليه للسّلام عليه وفيهم عبدالرّحمن بن عمّار، فلمّا أراد الشّخوص استجلسه، فقال له: ما فعل حبّ فلانة؟ قال: مشوب اللحم والدّم والمخّ والعظم والعصب، وأمر الجّارية فأخرجت إليه، وقال: هى هذه؟ قال: نعم، أصلحك الله، قال: إنّما اشتريتها لك، فوالله ما دنوت منها، فشأنك بها، فهى لك مباركة، وأمر له بمائة ألف درهمٍ، وقال له: خذ هذا المال لئلّا تهتمّ بها وتهتمّ بك، قال، فبكى عبدالرّحمن فرحا وقال: يا أهل البيت قد خصّكم الله بأشرف ما خصّ به أحدا من صلب آدم، فلتهنئكم هذه النّعمة، وبارك لكم فيها، فكان هذا الفعل بعض ما اشتهر به عبدالله بن جعفر من الجّود.

- وقيل لأعرابىّ: أتعرف الزّنا، قال: وكيف لا. قيل: فما هو؟ قال: مصّ الرّيقة، ولثم العشيقة، والأخذ من الحديث بنصيب. قيل: ما هكذا نعدّه فينا! قال: فما تعدّونه؟ قيل: النّق الشديد أن تجمع بين الرّكبة والوريد، وصوتٌ يوقظ النّوام، وفعلٌ يوجب كثيرا من الآثام. قال: لله ما يفعل هذا العدوّ البعيد، فكيف الصّديق الودود.

وقيل لآخر: ما كنت صانعًا لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أطيع الحبّ فى لثامها، وأعصى الشّيطان فى آثامها، ولا أفسد بضع عشرة سنين فيما يبقى ذميما عاره، وينشر قبيح أخباره فى ساعة تفقد لذّتها. إنّى إذا لئيمٌ، ولم يلدنى كريمٌ.

وقيل لآخر: ما أنت صانعٌ إن ظفرت بمن تحب؟ قال: أحلل ما يشتمل عليه الخمار وأحرّم ما كتمه الإزار، وأزجر الحبّ عمّا يغضب الرّب.

وقيل لليلى هذا قيسٌ مات لما به من عشقك، قالت: ولقد خفت والله أن أموت بذلك منه. قيل لها: فما عندك حيلةٌ تخفّف ما به؟ قالت: صبرى، وصبره، أو يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

وقيل لعفراء، وقد بلغها ما نزل بعروة، فكادت تبوح بسرّها فقيل لها: أما عندك له حيلةٌ تخفّف ما به؟ فقالت: والله، لأن أسرّ بذلك وأشوق إليه منه، ولكن لا سبيل إلى احتمال العار، ودخول النّار.

وقيل لميّة، بعد موت قابوس: ما كان يضرّك لو أمتعته بوجهك قبل موته؟ قالت: منعنى من ذلك خوف العار، وشماتة الجّار، ولقد كان بقلبى منه أكثر ممّا كان بقلبه، غير أنّى وجدت ستره أبقى لنا لما فى الصّدر من المودّة، وأحمد للعافية.

- وسئلت أعرابيّةٌ عن الهوى، فقالت: هو الهوان غلطٌ باسمه، وإنّما يعرف ما نقول من أبكته المعارف والطّلول.

- وسئلت أعرابيّةٌ عن صفة الهوى، فقالت:
الحبّ أوّله ميلٌ تهيم به.. نفس المحبّ فيلقى الموت كاللعب

يكون مبدؤه من نظرةٍ عرضت.. أو مزحةٍ أشعلت فى القلب كاللهب

كالنّار مبدؤها من قدحةٍ، فإذا.. تضرّمت أحرقت مستجمع الحطب

وأنشد لأبى جعفر الطّربخيّ:
ليس خطب الهوى بخطبٍ يسيرٍ.. لا ينبّئك عنه مثل خبير

ليس أمر الهوى يدبّر بالرّأى.. ولا بالقياس والتّفكير

إنّما الحبّ والهوى خطراتٍ.. محدثات الأمور بعد الأمور

- قال العتبيّ: سمعت أعرابيّةً تقول: مسكين العاشق، كلّ شيءٍ عدوّه: هبوب الرّيح تقلقه، ولمعان البرق يؤرقه، ورسوم الدّيار تحرقه، والعزل يؤلمه، والتّذكير يسقمه، إذا دنا الليل منه هرب النّوم عنه، ولقد تداويت بالقرب والبعد فما أنجح فيه دواء، ولقد أحسن الذى يقول:
بكلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنا.. على أنّ قلب الدّار خيرٌ من البعد

وقال أعرابيٌّ: إنّ لى عينا دموعا، وقلبا مروّعا، فماذا يصنع كلّ واحدٍ منهما بصاحبه مع أنّ داءهما دواؤهما، وسقمهما شفاؤهما.

وذكر أعرابيٌّ وجده بامرأةٍ فقال: ما ازدادت منّى بعدا إلاّ ازددت بها قربا.

وذكر أعرابيٌّ امرأةً كان يواصلها فى شبابه، فقال: ما كانت أيّامى معها إلاّ كأباهيم القطا قصرا، ثمّ طالت بعدها شوقاً إليها، وأسفاً عليها، فاليوم بعدها دهر، والسّاعة شهر.

وتزوّج الحجّاج ابنة عبدالله بن جعفر، فلمّا دخلت عليه نظر إليها وعبرتها تجود على خدّها، فقال لها: بأبى وأمّى، ممّ تبكين؟ فقالت: من شرفٍ اتّضع، ومن ضعةٍ شرفت، فلمّا كتب إليها عبدالملك بن مروان بطلاقها، قال لها: إنّ أمير المؤمنين امرنى بطلاقك. قالت: هو والله أبرّ بى ممّن زوّجك إياى، فلمّا مات أبوها لم تبك عليه، فقيل لها فى ذلك، فقالت: والله أنّ الحزن ليبعثنى، وإنّ الغيظ ليصمتنى.

- كانت عند رجل امرأةٌ يقال لها أم مالك وكان بها معجبا، فأقسمت عليه أمّه أن يطلّقها، فذهب عقله، ونحل جسمه. فحضره الموت، فدخلت عليه أم مالك تعوده، فلمّا ولّت قال لأمّه: يا عجوز ليهنك فقد ابنك فى الدّنيا، والإثم لك فى الآخرة. ثمّ أنشأ أن يقول:
لنا حاجةٌ فى آل مروان دونها.. من النّفر الغرّ الوجوه قبيل

فمت كمدا إنّ كان يومك قد أتى.. أو اصبر على ما خلّيت فقليل

فلمّا خرجت عنه، فاضت نفسه، وما وصلت إلى منزلها حتّى سقطت ميّتة.

- كانت لرجلٍ فى الأهواز ضيعةٌ بالبصرة، وكان يتعاهدها فى حين الانتفاع بالثّمار، فتزوّج بها امرأةً، وانتهى الخبر إلى امرأته الأهوازيّة فاستخرقت كتاباً على لسان بعض إخوانه بالبصرة يعزيه فى البصريّة ويقول: إلحق المال الذى خلّفت ولا تتأخّر، وأعطت الكتاب لبعض الملّاحين وجعلت له جعلاً، فلمّا وصل الكتاب إلى زوجها وجد لموتها وجداً عظيماً، وقال للأهوازيّة: أصلحى لى سفرتى، فإنّى راكبٌ إلى البصرة. ففعلت، فلمّا أصبح الغد ركب فرسه، وأعطته السّفرة، ثمّ قبضت على عنان فرسه وقالت له: ما تكثر اختلافك إلى البصرة إلاّ ولك بها امرأةً تزوّجتها؟ فقال لها: والله مالى بالبصرة امرأةٌ.

للذى وقف عليه من الكتاب. فقالت له: لست أدرى ما تقول؛ وإنّما تحلف وتقول كل امرأةٍ لى غيرك طالقٌ ثلاثاً بقول جميع المسلمين؟ فللذى وقف عليه الرّجل من موت البصريّة قال فى نفسه: تلك ماتت، فلم أغير صدر هذه: فقال لها: كلّ امرأةٍ لى غيرك فى جميع الأقاليم فهى طالقٌ ثلاثاً بقول جميع المسلمين. فقالت له: لا تتعبن فقد طلّقت الحبيبة، فندم الرّجل، وأسقط ما فى يديه.

- ولمّا تزوّجت ليلى صاحبة قيس بن الملوّح، هام على وجهه مع الوحش، وكان يقول:
لها فى سواد القلب تسعة أسهمٍ.. وللنّاس فى ذاك المكان عشير

ولست بمحصٍ حبّ ليلى لسائلٍ.. من النّاس إلاّ من يقول كثير

وتنشر نفسى بعد موتى لذكرها.. فموت نفسى مرّةُ ونشور

أتانى بعد ظهر الغيب أن قد تزوّجت.. فكادت بى الأرض البراح تمور فقلت، وقد أيقنت أن ليس بيننا.. تلاقٍ، وعينى بالدّموع تفور:
لئن كان تبدى برد إيمانها العلى.. لأفقر منّى أنّنى لفقير.

فما أسرع الأخبار أن قد تزوّجت.. فهل يأتيننى بالطّلاق. تشير؟

- خاصمت امرأةٌ زوجها إلى المطّلب بن حبط المخزومى قاضى المدينة، وكانت قالت له: أسأت إليّ وأوجعتنى، ووالله ما أستطيع، فإنّ بنتك تمسى من الجوع والجهد وما أقمن إلاّ على الوطن. فقال: أنت طالقٌ إن كان لا يقمن إلاّ على الوطن! فأخبرت القاضى بما قالت، وبما قال. فقال القاضى: بطلب المقادير، وربّ الكعبة، إنّ الأيّل ليكون بالمكان الجدب الخسيس المرعى فتقيم فيه بحبّ الوطن. فقال الزّوج: كأنّ المسألة، أصلح الله القاضى، أشكلت عليك هى طالقٌ ألف مرّة.

عن عروة بن الزّبير، عن عائشة، رضى الله عنها يقول: إنّ امرأة رفاعة أتت إلى النّبيّ، صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنّ رفاعة طلّقنى، فبتّ طلاقى، وإنّى تزوّجت بعده بعبدالرّحمن بن الزّبير وما معه إلاّ مثل هدبة الثّوب، فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،

وقال: أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة! لا، حتّى تذوقى عسيلة الزّوج الثّانى ويذوق عسيلتك.




هل الغدر طبع أصيل فى بنات حواء؟
وكان أبو ذرّ الغفّارى يقعد على منبر رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم فينشده:
هى الضّلع العوجاء لست تقيمها.. ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها.

أيجمعن ضعفًا واقتدارًا على الفتى.. أليس عجيبًا ضعفها واقتدارها؟

وفى الحديث شاوروهنّ وخالفوهنّ، فإنّ فى خلافهنّ البركة.

قال علقمة بن عبدة:
فإن تسألونى بالنّساء فإنّنى.. بصيرٌ بأدواء النّساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله.. فليس له فى ودّهنّ نصيب

وقال آخر:
تمتّع بها، ما ساعفتك، ولا تكن.. جزوعًا إذا بانت، فسوف تبين.

وإن هى أعطتك الليان فإنّها.. لغيرك من طلّابها ستلين؛

وخنها وإن كانت تفى لك، إنّها.. على قدم الأيّام سوف تخون

وإن حلفت أن ليس تنقض عهدها.. فليس لمخضوب البنان يمين

وقال أبو عبيدة: حجّت امرأة عجير السّلولى معه، فأقبلت لا تطرق على شابٍّ فى الرّفقة إلاّ وتكشف وجهها، فقال فى ذلك:
أيا ربّ لا تغفر لعتمة ذنبها.. وإن لم يعاقبها العجير، فعاقب

حرامٌ عليك الحجّ لا تطعمينه.. إذا كان حجّ المسلمات الثّوائب

وقال أعرابىٌّ:
لا تكثرى قولاً منحتك ودّنا.. فقولك هذا للفؤاد مريب،

تعدين ما أوليتنى منك قابلاً.. وللفارس العجلان منك نصيب؟

أراد رجلٌ أن يشترى قينةً وقد كان أحبّها، فبات عند مولاها ليلةً فأمكنته من نفسها وكان الامتناع منه، فأنشأ يقول:
ما رأينا بواسط كسليمى.. منظرًا لو تزينه بعفاف

بت فى جنبها وبات ضجيعى.. جنب القلب طاهر الأطراف

فأقيمى مقامنا ثمّ بينى.. لست عندى من فتية الأشراف

وقال آخر:
لا أشتهى رنق الحياة ولا التى.. تخاف وتغشاها المعبدة الحرب

ولكنّنى أهوى مشارب أحرزت.. عن النّاس حتّى ليس فى صفوها عيب

وقال أعرابىٌّ أيضًا

تبعتك لما كان قلبك واحدًا.. وأمسكت لمّا صرت نهبًا مقسما.

ولن يلبث الحوض الوثيق بناؤه.. على كثرة الورّاد أن يتهدّما

وقال أبو نواس:
ومظهرةٍ لخلق الله حبًّا.. وتلقى بالتّحيّة والسّلام

أتيت فؤادها أشكو إليه.. فلم أخلص إليه من الزّحام

فيا من ليس يكفيها خليل.. ولا ألفا خليلٍ كلّ عام،

أراك بقيّةً من قوم موسى.. فهم لا يصبرون على طعام.

وكان رجلٌ يحبّ امرأةً فخطب فى اليوم الذى ماتت فيه، فقيل له فى ذلك فقال:
خطبت كما لو كنت قدّمت قبلها.. لكانت بلا شكٍ لأوّل خاطب

إذا غاب بعلٌ كان بعلٌ مكانه.. فلا بدّ من آتٍ وآخر ذاهب

وعن المطّلب بن الوداعة السّهمىّ قال: كانت ضباعة بنت عامر، من بنى عامر بن صعصعة، تحت عبدالله بن جدعان. فمكثت عنده زمانًا لا تلد، فأرسل إليها هشام بن المغيرة: ما تصنعين بهذا الشّيخ الكبير الذى لا يولد له: فقولى له فليطلّقك. فقالت ذلك لعبدالله بن جدعان، فقال لها: إنّى أخاف إن طلّقتك تتزوّجى هشام بن المغيرة؟! قالت له: فإنّ لك علىّ أن لا أفعل هذا. قال لها: فإن فعلت، فإنّ عليك مائةً من الإبل تنحرينها وتنسجين ثوبًا يقطع ما بين الأخشبين وتطوفين بالبيت عريانةً. قالت: لا أطيق ذلك.

وأرسلت إلى هشام فأخبرته، فأرسل إليها ما أهون ذلك، وما يكن بك من ذلك، أنا أيسر من قريش فى المال، ونسائى أكثر النّساء بالبطحاء، وأنت أجمل النّساء ولا تعابين فى عريك، فلا تأبى ذلك عليه. فقالت لابن جدعان: طلّقنى، فإن تزوّجت هشامًا فعلىّ ما قلت. فطلّقها بعد استيثاقه منها. فتزوّجها هشام، فنحر عنها مائة جزور، وأمر نساؤه فنسجن ثوبًا يملأ ما بين الأخشبين، ثمّ طافت بالبيت عريانةً. قال المطّلب: فأتبعها بصرى إذا أدبرت وأستقبلها إذا أقبلت، فما رأيت شيئًا ممّا خلق الله منها وهى واضعة يدها على فرجها وقريش قد أحدقت بها، وهى تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه.. وما بدا منه فلا أحلّه

قال الزّبير بن بكار: خطب الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب من عمّه الحسين بن على رضى الله عنهما فقال له: يا ابن أخى، قد انتظرت هذا منك انطلق معى، فخرج معه حتّى أدخله منزله، ثمّ أخرج إليه ابنتيه فاطمة وسكينة، وقال له: اختر أيّهما شئت! فاختار فاطمة، فزوّجه إيّاها. فلمّا حضرت الحسن الوفاة قال لها: إنّك امرأة مرغوب فيك، متشوّف إليك لا تتركين، وإنّى ما أدع فى قلبى حسرةً سواك. فتزوّجى من شئت سوى عبدالله بن عمر بن عثمان. ثمّ قال لها: كأنّى قد خرجت وقدمت جاءك لابسًا حلّته، مرجلاً جمته، يسير فى جانب النّاس معترضًا لك، ولست أدع من الدّنيا همًّا غيرك. فلم يدعها حتّى استوثق منها بالإيمان.

ومات الحسن، فأخرجت جنازته، فوافاه عبدالله بن عمر، وكان يجد بفاطمة وجدًا شديدًا، وكان رجلاً جميلاً كان يقال له المطرف من حسنه، فنظر إلى فاطمة وهى تلطم وجهها على الحسن، فأرسل إليها مع وليدة له: أنّ لابن عمّك أربًا فى وجهك فارفقى به. فاسترخت يدها واحمرّ وجهها حتّى عرف ذلك جميع من حضرها. فلمّا انقضت عدّتها خطبها فقالت: كيف أفعل بإيمانى؟ قال لها: لك بكلّ مالٍ مالان؛ وبكلّ مملوكٍ مملوكان. فوفّى لها وتزوجها فولدت له محمّدًا. وكان يسمّى من حسنه الدّيباج والقاسم ورقيّة.

وقال الزّبير: لمّا حضرت الوفاة حمزة بن عبدالله بن الزّبير، خرجت عليه فاطمة بنت القاسم بن على بن جعفر بن أبى طالب فقال لها: كأنّى بك تزوّجت طلحة بن عمر بن عبدالله بن معمر، فحلفت له بعتق رقيقها، وإنّ كلّ شىءٍ لها فى سبيل الله أن تزوّجته أبدًا. فلمّا توفّى حمزة بن عبدالله وحلّت، أرسل إليها طلحة بن عمر فخطبها فقالت له: قد حلفت. وذكرت يمينها، فقال لها: أعطيك بكلّ شىءٍ شيئين. وكانت قيمة رقيقها وما حلفت عليه عشرين ألف دينار، فأصدقها ضعفها فتزوّجته، فولدت له إبراهيم ورملة. فزوّج طلحة ابنته رملة من إسماعيل بن على بن العبّاس بمائة ألف دينار وكانت فائقة الجمال والخلق، فقال إسماعيل لطلحة بن عمر: أنت أتجر النّاس. قال له والله ما عالجت تجارةً قط. قال: بلى حين تزوّجت فاطمة بنت القاسم بأربعين ألفًا فولدت لك إبراهيم ورملة، فزوّجت رملة بمائة ألف دينار فربحت ستّين ألفًا وإبراهيم.

وعن هشام بن الكلبى قال: قال عبدالله بن عكرمة: دخلت على عبدالرّحمن بن هشام أعوده فقلت: كيف تجد؟ فقال: أجد بى والله الموت، وما موتى بأشد علىّ من أمّ هشام، أخاف أن تتزوّج بعدى. فحلفت له أنّها لا تتزوّج بعده فغشى وجهه نورًا، وقال: الآن فلينزل الموت متى شاء. فلمّا انقضت عدّتها تزوّجت عمر بن عبدالعزيز. فقلت فى ذلك؟.

فإن لقيت خيرًا فلا يهنيها.. وإن تعست بؤسًا فللعين والفم، فلمّا بلغها ذلك كتبت إلىّ: قد بلغنى ما تمثّلت به، وما مثلى فى أخيك إلاّ كما قال الشّاعر:
وهل كنت إلاّ والهًا ذات ترحةٍ.. قضت نحبها بعد الحنين المرجّع

فدع ذكر من قد وارت الأرض شخصه.. ففى غير من قد وارت الأرض مقنع

قال: فبلغ منّى كلّ مبلغ. فحسبت حسابها فإذا هى قد عجّلت بالتزوّج وبقى عليها من عدّتها أربعة أيّام. فدخلت على عمر فأخبرته فانقضى النّكاح.

قال الزّبير بن بكار: كانت امرأةٌ من العرب تزوّجت رجلاً، فكانت تجد به، ويجد بها وجدًا شديدًا، فتحالفا وتعاهدا ألا يتزوّج الباقى منهما. فما لبث أن مات بعلها، فتزوّجت، فلامها أهلها على نقض عهدها، فقالت:
لقد كان حبّى ذاك حبًّا مبرّحًا.. وحبّى إذا مات ذاك شديد.

وكانت حياتى عند ذلك جنّةٌ.. وحبّى لذا طول الحياة يزيد

فلمّا مضى، عادت لهذا مودّتى.. كذاك الهوى بعد الممات يبيد

حكى الهيثم بن عدى قال: عاهد رجلٌ امرأته وعاهدته ألا يتزوّج الباقى منهما، فهلك الرّجل، فلم تلبث المرأة أن تزوّجت. فلمّا كان ليلة البناء بها رأت فى أوّل الليل شخصًا فتأمّلته، فإذا هو زوجها، وهو يقول لها: نقضت العهد ولم ترعى له. وأصبحت فأتمّت نكاحها.

وروى ابن شهاب: أنّ رجلاً من الأنصار غزا فأوصى ابن عمٍّ له بأهله، فأتى ابن عمّ الرّجل ليلة من الليالى فتطلّع على حال زوجة ابن عمّه فإذا بالبيت مصباحٌ يزهر ورائحةٌ طيّبةٌ، وإذا برجلٍ متّكئ على فراش ابن عمّه وهو يتغنّى ويقول:
وأشعث غرّة الإسلام منّى.. خلوت بعرسه بدر التّمام

أبيت على ترائبها ويغدو.. على جرداء لاحقة الحزام

كأنّ مجامع الرّبلات منها.. فئام ينتمين إلى فئام

فلم يقدّر الرّجل أن يملك نفسه حتّى دخل عليه فضربه حتّى قتله. ورفع الخبر إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فصعد المنبر وخطب وقال: عزمت عليكم أن كان الرّجل الذى قتل حاضرًا ويسمع كلامى فليقم. فقال: أبعده الله، ما كان من خبره؟ فأخبره وأنشده الأبيات، فقال: أضربت عنقه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: أبعده الله، فقد هدر دمه.

قال أبو عمرو الشّيبانى: كان أبو ذؤيب الهذلى يهوى امرأةً يقال لها أم عمرو، وكان يبعث إليها خالد ابن أخيه زهير، فراودت الغلام عن نفسها، فامتنع وقال: أكره أن يبلغ أبا ذؤيب. فقالت له: ما يرانى وإيّاك إلاّ الكواكب. فبات معها وقال:
ما ثمّ إلاّ أنا والكواكب.. وأمّ عمرو فلنعم الصّاحب

فلمّا رجع إلى أبى ذؤيب استراب به، وقال: والله إنّى لأجد ريح أمّ عمرو منك. ثمّ جعل لا يأتيه إلاّ استراب به، فقال خالد:
يا قوم ما لى وبى ذؤيب.. كنت إذا ما جئته من غيب،

يمسّ عطفى، ويشمّ ثوبى.. كأنّنى أربته بريب.

فقال أبو ذؤيب، وهى من قصيدة من جيّد شعره:
دعا خالدًا أسرى ليالى نفسه.. يولى على قصد السّبيل أمورها

فلمّا توفّاها الشّباب وغدره.. وفى النّفس منه غدرها وفجورها

لوى رأسه عنّى، ومال بودّه.. أغانيج خودٍ كان حينًا يزورها

تعلّقها منه دلال ومقلة.. يظلّ لأصحاب السّفاه يثيرها

فأجابه خالد:
فلا يبعدنّ الله عقلك إن غزا.. وسافر والأحلام جمٌّ غيورها

وكنت إماماً للعشيرة تنتهى.. إليك إذا ضاقت بأمرٍ صدورها

وقاسمها بالله جهدًا لأنتم.. ألذّ من الشّكوى إذا ما يسورها

فلم يغن عنه خدعه حين أزمعت.. صريمته والنّفس مرّ ضميرها

قال: وكان أبو ذؤيب أخذها من ملك بن عويمر، وكان ملك يرسله إليها، فلمّا كبر أخذت أبا ذؤيب، فلمّا كبر أخذت خالدًا. وقال:
تريدين كيما تجمعينى وخالدًا.. وهل يصلح السّيفان، ويحك، فى غمد؟

أخالدٌ، ما راعيت منّى قرابةً.. فتحفظنى بالغيب أو بعض ما تبدى.

قال أبو عبيدة: كان صخر بن عبدالله الشّريد يتعشّق ابنة عمّه سلمى بنت كعب، وكان يخطبها فتأبى عليه، فأقام على ذلك حينًا ثمّ أغارت بنو أسدٍ على بنى سليمٍ فغلبوهم وصخر غائب. وأخذت سلمى فيمن أخذ من النّساء، وقتل عددٌ منهم، وأسر آخرون. وأقبل صخر فنظر إلى ديارهم بلقعًا وأخبر الخبر، فشدّ عليه سلاحه، واستوى على فرسه، وأخذ أثرهم حتّى لحقهم، فلمّا نظروا إليه قالوا: هذا كان شرّد من بنى سليم، وقد أحبّ الله ألا يدع منهم أحدًا. فجعل يبرز إليه الفارس بعد الفارس فيقتله، فلمّا أكثر فيهم القتل، حلّت أسارى بنى سليم بعضها بعضًا، وثاروا على بنى أسد.

ونظر صخر إلى سلمى وهى مع عبدأسود، قد شدّها على ظهره، فطعنه صخرٌ فقتله واستنقذ سلمى ورجع بها. وقد أصابته طعنة أبى ثور الأسدى فى جنبه، وتزوّج سلمى. وكان يحبّها ويكرمها، ويفضّلها على أهله. ثمّ بعد ذلك انتقض جرحه فمرض حولاً، وكان نساء الحىّ يدخلن إلى سلمى عوائد فيقلن: كيف أصبح صخر؟ فتقول: لا حىّ فيرجى ولا ميت فينسى. ومرّ بها رجلٌ وهى قائمةٌ وكانت ذات خلقٍ وأرداف، فقال: أيباع هذا الكفل؟ فقالت: عن قريبٍ فسمعها صخر، ولم تعلم، فقال لها: ناولينى السّيف أنظر هل صدئ أم لا؟ وأراد قتلها، فناولته ولم تعلم، فإذا هو لا يقدر على حمله فقال:
أرى أمّ صخرٍ ما تملّ عيادتى.. وملّت سليمى مضجعى ومكانى

وما كنت أخشى أن أكون جنازةً.. عليك ومن يغترّ بالحدثان

فأىّ امرئ ساوى بأمٍ حليلةٍ.. فلا عاش إلاّ فى شقا وهوان

أهمّ بأمر الحرم لو أستطيعه.. وقد حيل بين العير والنّزوان

لعمرى لقد أيقظت من كان نائمًا.. وأسمعت من كانت له أذنان

فللموت، خيرٌ من حياةٍ كأنّها.. محلة يعسوب برأس سنان.

قال: ونتأت فى موضع الجرح قطعةً فأشاروا عليه بقطعها، فقال لهم: شأنكم. فلمّا قطعت مات.

أطرف حوادث الغيرة وحالات «التلبس» فى حياة أهل العشق
قلنا يا رسول الله، ما الغيرة التى يحبّها الله، قال: « أن يغار أن يأتى معاصى الله، وينتهك محارمه»، قلنا وما الغيرة التى يكرهه: قال « أن يغار أحدكم فى غير كنهه»، وعن عبدالملك بن عمير بن عبدالله بن بكار أنّه قال: «الغيرة غيرتان: غيرةٌ يصلح بها الرّجل أهله، وغيرةٌ تدخله النّار».

ويروى: أنّ سارة كانت تحبّ إبراهيم خليل الرّحمن، فمكثت معه دهرًا لا ترزق ولدًا، فلمّا رأت ذلك وهبت له هاجر، وكانت أمةً لها قبطيّةً، فولدت لإبراهيم إسماعيل، صلّى الله عليهما، فغارت من ذلك سارة ووجدت فى نفسها، وعتبت على هاجر، فحلفت لتقطعنّ عضوًا من أعضائها فقال لها إبراهيم، صلّى الله على نبينا وعليه: هل لك أن تبرى يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: أثقبى أذنيها وخصّفيها، والخصف هو الخياطة. ففعلت ذلك بها، فوضعت فى أذنى هاجر قرطين فازدادت حسنًا. فقالت سارة: إنّى إنّما زدتها جمالاً: فلم تتركه على كونها معه. ووجد بها إبراهيم وجدًا شديدًا، فنقلها إلى مكّة وكان يزورها فى كلّ وقتٍ من الشّام لشغفه بها، وقلّة صبره عنها.

وعن ابن أبى مليكة: أنّ ابن عمرو سمع امرأته تكلّم امرأةً من وراء جدار، بينها وبينها قرابةً لا يعلمها ابن عمرو، قال: فجمع لها جرائد ثمّ أتى فضربها بها.

وعن علقمة: أنّ معاذ بن جبل كان يأكل تفّاحةً ومعه امرأته فدخل عليها غلامٌ، فناولته امرأته تفّاحةً قد أكلت منها فأوجعها ضربًا.

وقال بعضهم: لذّة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر لذّتها. واستدل بإفراط غيرتها على إفراط حرصها، وهذا القول خطأ قد علمنا أنّ الرّجل أشدّ غيرةً على المرأة من المرأة على الرّجل. وربّما كان الذى يبدو من المرأة عند تسرّى زوجها بالسّرارى وتزويجه المهيرات، وحين تراه مع بعضهنّ توهيمًا للفعل أنّ ذلك من الطّربة والكراهة المشاركة فيه. وبعض ذلك يكون من طريق الألفة والنّفاسة به، وليس شكل ما تلقى المرأة إذا رأت فراشها، من شكل ما يلقى الرّجل إذا رأى على فراش امرأته رجلاً، لأنّ المرأة قد عاينت أنّ الرّجل له أربع نسوةٍ وألف جاريةٍ يطؤهنّ بملك اليمين، لما أحلّه الله فى الشّريعة، وكذلك غيرة فحول الحيوان على إناثها، لأنّ فحل الحيوان يقاتل دونها كلّ فحلٍ يعرض لها حتّى تصير إلى الغالب. قال الرّاجز.

يغار والغيرة فى خلق الذّكر والأمم تختلف فى الغيرة. فمن الصّقالبة ناسٌ لا يتزوّجون من قربٍ منهم فى النّسب ولا الدّار، وإذا مات البعل خنقت المرأة نفسها أسفًا عليه.

والمرأة فى الهند إذا مات زوجها وأرادوا حرقه، جاءت ليحرقوها معه.

والدّيلميّ يخرج من الدّيلم إلى حدود ما بين دار الإسلام والدّيلم، ومعه امرأته وإخوانه وعمّاته فيبيعهنّ صفقةً واحدةً، ويسلّمهنّ إلى المبتاع، لا تدمع عينه ولا عينٌ واحدةٍ من عياله.

وأهل طبرستان لا يتزوّج الرّجل الجارية منهنّ حتّى يستبطن بها حولاً محرّمًا ثمّ يقدم بها فيخطبها إلى أهلها ويتزوّجها، ثمّ يزعمون مع ذلك أنّه يجدها بكرًا، وقد عانقها فى إزارٍ واحدٍ سنةً كاملةً وهو لا يستبطن بها، ويحتمل وحشة الاغتراب، وانقطاع الأسباب. وإنّ من أعجب العجب أن يمكثا متعانقين فى لحافٍ واحدٍ يحتجران عن ألّذ الأمور تكرّمًا، وهذا التّكرّم عند علوج طبرستان من العجائب.

قال معاوية، رضى الله عنه: ثلاث خصالٍ من السّؤدد، الصّلع، واندماج البطن، وترك الإفراط فى الغيرة.

ولمّا نزل قيس بن زهير ببعض العرب قال لهم: إنّى غيورٌ، وأنا فخورٌ، وأنا أنفٌ، ولكن لا أغار حتّى أرى، ولا أفخر حتّى افعل، ولا آنف حتّى أضام. فعابوه بقوله لا أغار حتّى أرى ويظنّ به إنّما عنى رؤية السّبب لا رؤية المرافقة.

وعابوا معاوية أيضًا بقوله هذا ونسبوه إلى قلّة الغيرة وما أرى فى قوله وترك الإفراط فى الغيرة عيبًا لأنّ الإفراط المجاوز للحقّ ولمقدار المصلحة وظلم الخليلة العفيفة والحرمة الكريمة غير لائقٍ.

وعاب النّاس قول هدبة بن خشرم حيث يقول:
فلا تنكحى إن فرّق الدّهر بيننا.. أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا

فهذا يأمرها بتزويج الأنزع القليل شعر القفا والوجه.

ولا أرى فيه عيبًا أيضًا لأنّ إنّما قال ذلك ليذكّرها جمال نفسه ليزهدها فى غيره.

وأمّا قول نصيبٍ:
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت.. فيا ليت شعرى من يهيم بها بعدي

فإنّى لم أجد له تأويلاً. وعاب ذلك عليه عبدالملك بن مروان، وقال لجلسائه: أو لو كنتم قائلين هذا البيت ما كنتم تقولون؟ قالوا: لا ندرى، فكيف كان أمير المؤمنين قائلاً: قال: كان يقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت.. فلا صلحت دعد لذى خلّةٍ بعدي

وكان الرّجل من العرب إذا خرج مسافرًا بدأ بالشّجرة يعقد خيطًا على ساقها أو على غصنً من أغصانها، فإذا رجع إلى أهله بدا إلى الشّجرة فنظر إلى الخيط، فإن كان منحلّاً حكم أنّ امرأته خانته، وإن كان على حاله حكم أنّها حفظته.

وأنشد أبو زيدٍ النحويّ:
هل ينفعك اليوم إن همت بهم.. كثرة ما توصى وتعفى والرّتم

والرّتم اسمٌ للخيط الذى يعقد فى الخنصر لتذكّر الحاجة.

وكان معاوية بن أبى سفيان يتمثّل بقول الشّاعر:
ومراكبٍ رجع السّلام بكفّه.. ومودّعٍ لم يستطع تسليما

وقال آخر:
وأضحى الغيور، أرغم الله أنفه.. على ملتقانا قائمًا يتمطّق

وقد مدّ شدقيه من الغيظ والأذى.. كما مدّ شدقيه الحمار المحنّق

وقال الرّاعى:
وظلّ الغيور آرضًا ببنانه.. كما عضّ برذون على الفاس جامح

لقد رابنى أنّ الغيور يودّنى.. وأنّ نداماى الكهول الجحاجح

وصدّ ذوات الظّعن عنّى وقد رأت.. كلامى لمراء السّنا الطّوامح؟

وقال عبدالله بن الدّمينة:
ولمّا لحقنا بالحمول، ودوننا.. خميص الحشا تؤذى القميص عواتقه،

عرضنا، فسلمنا، فسلم كارهًا.. علينا، وتبريحٍ من الغيظ خانقه.

فرافقته مقدار ميلٍ وليتنى.. على زعمه، ما دمت حيًّا أرافقه

وقال مسكين الدّارميّ:
وإنّى امرؤٌ لا ألقى إلاّ قاعدًا.. إلى جنب عرسى لا أفارقها شبرًا

ولا مقسمٌ لا تبرح الدّهر بيتها.. ليجعلها قبل الممات لها قبرًا.

إذا هى لم تحصن أمام قناعها.. فليس بمنجيها بنأيٍ له قصرًا،

ولا حاملى ظنّى، ولا قول قائلٍ.. على غيرها، حتّى أحيط بها خبرًا.

فهبنى امرأً راعيت ما دمت شاهدًا.. فكيف إذا ما سرت عن بيتها شهرًا؟

وقال مسكين أيضًا:
ألا أيّها الغائر المستشيط.. على ما تغار إذا لم تغر؟

تعار على النّاس أن ينظروا!.. وهل يغبن للحاصنات النّظر؟

فما خير عرسٍ إذا خفتها.. وبتّ عليها شديد الحذر؟!

تكاد تصفّق أضلاعه.. إذا ما رأى زائرًا أو زفر.

فمن ذا يراعى له عرسه.. إذا ضمّه، والمطيّ، السّفر؟

وثلاثةٌ من شعراء أولاد العجم ممّن كان مشتهرًا بالغزل مذكورًا، بالشّعر بالبادية، كلّهم قتلوا منهم: وضّاح اليمن، ويسار الكواعب، وسحيم عبدبنى الحسحاس. وإنّما قتلوا كفّاً عن أولئك النّساء، وحفظًا لهنّ، حين رأوا التعرّض، وشنعة تلك الأشعار لا يشغلهم عنها إلاّ قتلهم مخافة أن يكون ذلك القتل يحقّق المقالة القبيحة. ألا ترى أنّ الحجّاج بن يوسف فى عتوّه لم يتعرّض لابن نميرٍ فى تشبّهه بزينب أخته مخافة أن يكون ذلك سببًا للخوض فى ذكرها، فيزيد زائدٌ، ويكثر مكثّرٌ. وكذلك معاوية بن أبى سفيان لم يعترض لعبدالرّحمن بن حسّان بن ثابت وكان يتشبّب بابنته، حتّى قال:
ثمّ حاضرتها إلى القبّة الخضراء.. نمشى فى مرمرٍ مسنون

ومن أحقّ بالقتل من سحيم عبدبنى الحسحاس؟ حيث يقول:
وبتنا وسادانا إلى علجانةٍ.. وحقفٍ تهاداه الرّياح تهاديا

توسّدنى كفّاً وتثنى بمعصمٍ.. عليّ، ونحوى رجلها من ورائيا

وهبّت شمالٌ آخر الليل قرّةً.. ولا ثوب إلاّ درعها وردائيا

فما زال ثوبى طيّباً من نسيمها.. إلى الحول حتّى أنهج الثّوب باليا

ومرّوا به ليقتلوه على الذى اتّهم بها، فضحكت، فقال:
فإن تضحكى منّى فيا ربّ ليلةٍ.. تركتك فيها كالقباء المفرج

وحكى العتبيّ، قال: سمع عقيل بن علقمة المرّى بنتًا له ضحكت، فشهقت فى آخر ضحكها. فأخذ السّيف وحمل عليها وهو يقول:
فرقت، أنّى رجلٌ فروقٌ.. من ضحكةٍ آخرها شهيق

قال: فنادت يا أخوتاه! فبادروا فحالوا بينه وبينها.

وحكى أبو حاتم السّجستانى عن الأصمعى، قال: كان عقيل بن علقمة غيورًا، وكان الخلفاء يصاهرونه، وكانت له ابنةٌ يقال لها الجرباء. فكان إذا خرج إلى الشّام خرج بها لفرط غيرته. فخرج بها مرّةً وبابنٍ يقال له عميس، فلمّا كانوا بدير سعدٍ قال عقيل:
قضت وطرًا من دير سعدٍ وربّما.. غلا غرضٌ ناطحته بالجماجم

ثمّ قال لابنه أجز يا عميس. فقال:
فأصبحن بالموماة يحملن فتيةً.. نشاوى من الإدلاج، ميل العمائم

ثمّ قال لابنته: أجيزى، يا جرباء. فقالت:
كأنّ الكرى أسقاهم صرّ خدية.. عقارٌ تمشّت فى المطا والقوائم.

فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؟ هذه صفةٌ من قد شربها.

وأخذ السّوط فأهوى نحوها، وجاء عميس فحال بينه وبينها، فضربه فأوجعه فرماه عميس بسهمٍ، فشكّ فخذيه فبرك، فمضوا وتركوه حتّى إذا بلغوا أدانى المياه منهم، قالوا: اللهمّ أسقطنا جزورًا لنا. فأدركوه وخذوا معكم الماء. ففعلوا، فإذا عقيلٌ بارك وهو يقول:
أنّ ابنى زملانى بالدّم.. من يلق أبطال الرّجال يكلم

ومن يكن درءٌ به يقوم.. شنشنةً أعرفها من أخزم

ثمّ زوّجها يزيد بن عبدالملك. وقد ذكرنا خبره فى ما مضى.

قال: وممّا يحدث الهوى فى قلوب النّساء لغير أزواجهنّ، ويدعوهنّ إلى الحرص على الرّجال، والطّلب لهنّ أمورٌ منها: أن يظهر لها زوجها شدّة الحذر عليها، والاحتفاظ بها، والغيرة فى غير موضعها. أو يكون الرّجل منهمكًا فى الفساد، مظاهرًا لها بالزّنا. فإنّ ذلك ممّا يغريها من طلب الرّجال، والحرص عليهم. كما قال الشّاعر:
ما أحسن الغيرة فى حينها.. وأقبح الغيرة فى كلّ حين.

من لم يزل متّهمًا عرسه.. متّبعًا فيها لرجم الظّنون،

أوشك أن يغريها بالذى.. يخاف، أو ينصبها للعيون.

حسبك من تحصينها ضمّها.. منك إلى عرضٍ نقيٍّ ودين

لا تطلع منك على ريبةٍ.. فيتّبع المقرون حبل القرين

ذكر الشّعبيّ إنّ عبدالله بن رواحة أصاب جاريةً له، فسمعت به امرأته، فأخذت شفرةً فأتته حين قام وقالت له: أفعلتها يا ابن رواحة؟ فقال: ما فعلت شيئًا. فقالت: لتقرأن قرآنًا، وإلاّ بعجتك بها. قال: ففكّرت فى قراءة القرآن وأنا جنب فهبت ذلك، وهى امرأةٌ غيراء فى يدها شفرةً لا آمن أن تأتى بما قالت. فقلت:
وفينا رسول الله يتلو كتابه.. إذا أنشقّ معروفٌ من الصّبح ساطع

أرانا الهدى، بعد العمى، فقلوبنا.. به موقناتٌ، أن ما قال واقع

يبيت يجافى جنبه عن فراشه.. إذا استثقلت بالكافرين المضاجع

قال: فألقت السّكّين من يدها، وقالت: آمنت بالله، وكذّبت البصر. قال: فأتيت النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته بذلك، فضحك وأعجبه ما صنعت.

وكان بعض العلماء لشدّة شهوة الباه فى قلوب النّساء، وتمكّنه فيهنّ، وشدّة غيرته، يقول: ليس المصيبة فى معاتبة الرّجل المرأة، إنّما المصيبة فى معاتبتها إيّاه. فإنّها إن نظرت إليه ووقع بقلبها موقع حظوةٍ لم يلبث أن تصير فى يده، وتبعث الرّسائل والأشعار والتّحف.

قال إسحاق: رأيت رجلاً بطريق مكّة، تعادله فى المحمل جاريةٌ قد شدّ عينيها والغطا مكشوف، ووجها بادٍ، فقلت له فى ذلك. فقال: إنّما أخاف عليها من عينيها، لا من عيون النّاس.

قال سعيد بن سليمان لئن يرى حرمتى ألف رجلٍ على حالٍ يكشف منها، ولا تراهم، أحبّ إليّ من أن ترى حرمتى رجلاً واحدًا غير منكشف.

واستأذن ابن أمّ مكتومٍ على رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وعنده امرأتان من نسائه، فقال لهما: « قوما وأدخلا البيت» ، فقالتا: يا رسول الله، هو أعمى، فقال: « أفعمياوان أنتما؟».

أروع صور وفاء المرأة لزوجها فى التراث العربى
قلت: نعم. قالت: الذى أعطاكهنّ هو الذى أخذهنّ فإن شاء ردّهنّ، فاسأله من طريق اليقين لا من طريق الاختيار. فأعجبنى ما رأيت من جمالها وحسن منطقها، فقلت لها: هل لك من بعلٍ؟ قالت: كان والله فدعى فأجاب إلى ما منه خلق، ونعم البعل كان. قلت لها: فهل لك فى بعلٍ لا تذمّ خلائقه، ولا تخشى بوائقه؟ فأطرقت ساعةً ثمّ رفعت رأسها وعيناها تذرفان دموعًا فأنشأت تقول:
كنّا كغصنين من بانٍ غذاؤهما.. ماء الجداول فى روضات جنّات

فاجتثّ صاحبها من جنب صاحبه.. دهرٌ يكرّ بفرحاتٍ وترحات

وكان عاهدنى إن خاننى زمنٌ.. أن لا يضاجع أنثى بعد موتات

وكنت عاهدته أيضًا، فعاجله.. ريب المنون قريبًا مذ سنينات

فاصرف عتابك عمّن ليس يصرفه.. عن الوفاء له خلب التّحيّات

قال: فانصرفت وتركتها.

قال الأصمعى: قال لى الرّشيد: امض إلى بادية البصرة فخذ من تحف كلامهم وطرف حديثهم. فانحدرت، فنزلت على صديقٍ لى بالبصرة، ثمّ بكّرت أنا وهو على المقابر، فلمّا صرت إليها إذا بجاريةٍ نادى إلينا ريح عطرها قبل الدّنوّ منها، عليها ثيابٌ مصبغاتٌ وحلى، وهى تبكى أحرّ بكاء. فقلت: يا جارية ما شأنك؟ فأنشأت تقول:
فإن تسألانى فيم حزني؟ فإنّنى.. رهينة هذا القبر يا فتيان.

أهابك إجلالاً، وإن كنت فى الثّرى.. مخافة يومٍ أن يسؤك مكاني

وإنّى لأستحييك، والتّرب بيننا.. كما كنت أستحييك حين ترانى.

فقلنا لها: ما رأينا أكثر من التّفاوت بين زيّك وحزنك فأخبرى بشأنك؟ فأنشأت تقول:
يا صحب القبر، يا من كان يؤنسنى.. حيًّا، ويكثر فى الدّنيا مواساتى،

أزور قبرك فى حليٍّ وفى حللٍ.. كأنّنى لست من أهل المصيبات؛

فمن رآنى، رأى عبرىً مفجعةً.. مشهورة الزّيّ تبكى بين أمواتى.

فقلنا لها وما الرّجل منك: قالت: بعلى، وكان يحب أن يرانى فى مثل هذا الزّيّ، فآليت على نفسى أن لا أغشى قبره إلاّ فى مثل هذا الزّيّ لأنّه كان يحبّه أيّام حياته، وأنكرتماه أنتما عليّ.

قال الأصمعى: فسألتها عن خبرها ومنزلها. وأتيت الرّشيد فحدّثته بما سمعت ورأيت، حتّى حدّثته حديث الجّارية. فقال: لا بدّ أن ترجع حتّى تخطبها إليّ من وليّها، وتحملها إليّ، ولا يكون من ذلك بد. ووجّه معى خادمًا ومالاً كثيرًا. فرجعت إلى قومها فأخبرتهم الخبر، فأجابوا وزوّجوها من أمير المؤمنين وحملوها معنا وهى لا تعلم. فلمّا صرنا إلى المدائن نما إليها الخبر، فشهقت شهقةً فماتت، فدفنّاها هنالك. وسرت إلى الرّشيد فأخبرته الخبر، فما ذكرها وقتًا من الأوقات إلاّ بكى أسفًا عليها.

توفّى رجلٌ وبقيت امرأته شابّةً جميلةً، فما زال بها النّساء حتّى تزوّجت. فلمّا كانت ليلة زفافها رأت فى المنام زوجها الأوّل آخذًا بعارضتيّ الباب وقد فتح يديه وهو يقول:
حيّيت ساكن هذا البيت كلّهم.. إلاّ الرّباب فإنّى لا أحييها

أمست عروسًا وأمسى مسكنى جدثٌ.. بين القبور وإنّى لا ألاقيها

واستبدلت بدلاً غيرى، فقد علمت.. أنّ القبور توارى من ثوى فيها

قد كنت أحسبها للعهد راعيةً.. حتّى تموت وما جفّت مآقيها

ففزعت من نومها فزعًا شديدًا، وأصبحت فاركًا وآلت أن لا يصل إليها رجلٌ بعده أبدًا.

ولمّا قتل عثمان، رضى الله عنه، وقفت يومًا على قبره نائلة بنت الفرافصة الكلبى، فترحّمت عليه ثمّ انصرفت إلى منزلها، ثمّ قالت: إنّى رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثّوب، وقد خفت أن يبلى حزن عثمان فى قلبى. فدعت بفهرٍ فهتفت فاها، وقالت: والله لا يقعد رجلٌ منّى مقعد عثمان أبدًا. وخطبها معاوية فبعثت إليه أسنانها، وقالت: أذات عروسٍ ترى؟ وقالوا: لم يكن فى النّساء أحسن منها مضحكًا.

كان هدبة بن خشرم العذرى قتل ابن عمرٍ يقال له زياد بن زيد فطلبه سعيد بن العاص، وهو يلى المدينة لمعاوية فحبسه، فقال فى السّجن قصيدته التى يقول فيها:
عسى الكرب الذى أمسيت فيه.. يكون وراءه فرجٌ قريب

وفى سجنه يقول أيضًا:
ولمّا دخلت السّجن يا أمّ مالك.. ذكرتك والأطراف فى حلق سمر

وعند سعيد غير أنّى لم أبح.. بذكرك إلاّ من يذكّر بالأمر

وسئل عن هذا، فقال: لمّا رأيت ثغر سعيدٍ شبّهت به ثغرها، وكان سعيد حسن الثّغر. فحبس هدبة سبع سنينٍ ينتظر به احتلام المستورد بن زيادة، فلمّا احتلم، أخرج صبح تلك الليلة إلى عامل المدينة فرغّبه فى العفو، وعرض عليه عشر ديّاتٍ، فأبى إلاّ القود. وكان ممّن عرض الدّيّات عليه الحسن بن على، عليهما السّلام، وعبدالله بن جعفر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم. فلمّا أبى، بعث هؤلاء وغيرهم من إخوانه بالحنوط والأكفان فدخل عليه رسولهم السّجن فوجدوه يلعب بالنّرد. فجلسوا ولم يقولوا له شيئًا، فلمّا لحظهم إذا بطرف بردٍ خرج من بعض الأكفان فأمسك، ثمّ قال: كأنّه قد فرغ من أمرنا؟ فقالوا: أجل. فقام فاغتسل ثمّ رجع إليهم فأخذ من كلّ واحدٍ ثوبًا وردّ ما بقى. وأخرج ليقاد منه، فجعل ينشد الأشعار. فقالت له حيا المدينة: ما رأيت أقسى قلبًا منك، تنشد الأشعار، وقد دعى بك لتقتل، وهذه خلفك كأنّها غزالٌ عطشانٌ تولول؟ يعنى امرأته. فوقف، ووقف النّاس معه، فأقبل على حيا فقال:
وجدت بها ما لم تجد أمّ واجدٍ.. ولا وجد حبّى بابنٍ أم كلاب

وإنّى طويل السّاعدين شمرطلٌ.. على ما اشتهيت من قوّةٍ وشباب.

فأغلقت الباب فى وجهه. وعرض له عبدالرّحمن بن حسّان فقال: أنشدني! فقال له: على هذه الحال؟ قال: نعم. فابتدأ ينشده:
ولست بمفراحٍ إذا الدّهر سرّنى.. ولا جازعٍ من صرفه المتقلّب

ولا أتمنّى الشّرّ، والشّرّ تاركى.. ولكن متى ما أحمل الشّرّ أركب

قال: ونظر رجلٌ إلى امرأته فدخلته غيرةٌ، وقد كان زيادة جدع أنفع بسيفه:
فإن يك أنفى بأن عنّى جماله.. فما حسبى فى الصّالحين بأجدعا

فلا تنكحى إنّ فرّق الدّهر بيننا.. أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا

وعن أبى حمزة الكنانى قال: كنت فى حرس خالد بن عبدالله القسرى، فقال خالد: من يحدّثنى بحديثٍ عسى يستريح إليه قلبي؟ فقلت: أنا. فقال: هات. فقلت: إنّه بلغنى أنّه كان فتىً من بنى عذرة، وكانت له امرأةٌ منهم، وكان شديد الحبّ لها، وكانت له مثل ذلك، فبينما هو ذات يومٍ ينظر وجهها إذ بكى، فنظرت إلى وجهه وبكت، فقالت له: ما الذى أبكاك؟ قال: والله، أتصدقينى إن صدقتك؟ قالت: نعم. قال لها: ذكرت حسنك وجمالك وشدّة حبّى، فقلت أموت فتتزوّج غيرى. فقالت: والله والله، أنّ ذاك الذى أبكاك؟ قال: نعم. قالت: وأنا ذكرت حسنك وجمالك وشدّة حبّى لك فقلت أموت فيتزوّج امرأةً غيرى. قال الرّجل: فإنّ النّساء حرامٌ عليّ بعدك. فلبثا ما شاء الله.

ثمّ إنّ الرّجل توفّى فجزعت عليه جزعًا شديدًا فخاف أهلها على عقلها أن يذهل، فأجمع رأيهم على أن يزوّجوها، وهى كارهةٌ، لعلّها تتسلّى عنه. فلمّا كان فى الليلة التى تهدى فيها إلى بيت زوجها، وقد نام أهل البيت، والماشطة تهيّء من شعرها، إذ نامت نومةً يسيرةً فرأت زوجها الأوّل داخلاً عليها من الباب وهو يقول: خنت يا فلانة عهدى، والله لا هنيت العيش بعدى فانتبهت مرعوبةً، وخرجت هاربةً على وجهها، وطلبها أهلها فلم يقعوا لها على خبر.

قال إسحق خرجت امرأةٌ من قريش من بنى زهرة إلى المدينة تقضى حقًّا لبعض القرشيّين. وكانت ظريفةً جميلةً، فرآها من بنى أميّة رجلٌ فأعجبته، وتأمّلها فأخذت بقلبه، وسأل عنها فقيل له: هذه حميدة بنت عمر بن عبدالله بن حمزة. ووصفت له بما زاد فيها كلفه، فخطبها إلى أهلها فزوّجوه إيّاها على كرهٍ منها، وأهديت إليه فرأت من كرمه وأدبه وحسن عشرته ما وجدت به، فلم تقم عنده إلاّ قليلاً حتّى أخرج أهل المدينة بنى أميّة إلى الشّام، فنزل بها أمرٌ ما ابتليت بمثله، فاشتدّ بكاؤها على زوجها وبكاؤه عليها، وخيّرت بين أن تجمع معه مفارقة الأهل والولد والأقارب والوطن أو تتخلّف عنه مع ما تجد به، فلم تجد أخفّ عندها من الخروج معه مختارةً له على الدّنيا وما فيها. فلمّا صارت بالشّام صارت تبكى ليلها ونهارها ولا تتهنّأ طعامًا ولا شرابًا شوقًا إلى أهلها ووطنها، فخرجت يومًا بدمشق مع نسوةٍ تقضى حقًّا لبعض القرشيّين فمرّت بفتىً جالسٍ على باب منزله، وهو يتمثّل بهذه الأبيات:
ألا ليت شعرى، هل تغيّر بعدنا.. صحون المصلّى، أم كعهدى القرائن؟

وهل أدور حول البلاط عوامرٌ.. من الحيّ، أم هل بالمدينة ساكن؟

إذا لمعت نحو الحجاز سحابةٌ.. دعا الشّوق منّى برقها المتيامن

وما أشخصتنا رغبة عن بلادنا.. ولكنّه ما قدّر الله كائن.

فلمّا سمعت المرأة ذكر بلدها وعرفت المواضع، تنفّست نفسًا صدّع فؤادها فوقعت ميتةً. فحملت إلى أهلها وجاء زوجها، وقد عرف الخبر، فانكبّ عليها فوقع عنها ميّتًا. فغسّلا جميعًا وكفنا ودفنا فى قبرٍ واحدٍ.

وكانت خولة بنت منظور بن زياد الفزارى عند الحسن بن على بن أبى طالب، رضى الله عنهم، وكانت أختها عند عبدالله بن الزّبير، وهى أحسن النّاس ثغرًا، وأتمّهم جمالاً. فلمّا رأى ذلك عبدالملك بن مروان قتل عبدالله بن الزّبير زوجها، ثمّ خطبها، فكرهت أن تتزوّجه وهو قاتل زوجها، فأخذت فهرًا وكسّرت به أسنانها. وجاء رسول عبدالملك فخطبها، فأذنت له ليراها، فأدّى إليها رسالته ورأى ما بها، فقالت: ما لى عن أمير المؤمنين رغبة، ولكنّى كما ترى، فإن أحبّنى فأنا بين يديه، فأتاه الرّسول فأعلمه بذلك، فقال: أنا، والله، إنّما أردتها على حسن ثغرها الذى بلغنى، وأمّا الآن فلا حاجة لى فيها.

وممّن يضرب به المثل فى الوفاء جماعة بنت عوف بن محلم الشّيبانى وذلك أنّ عمرو بن عبدالملك طلب مروان القرط وهو مروان بن زنباع العبسيّ فخرج هاربًا حتّى هجم على أبيات بنى شيبان، فنظر إلى أعظمها بيتًا ببصره فإذا هو بيت جماعة بنت عوف فألقى نفسه بين يديها فاستجارها فأجارته. ولحقته خيل عمرو فبعثت إلى أبيها

فعرّفته أنّها أجارته فمنعهم عوف عنه وانصرف أصحاب عمرو. فأرسل عمرو إلى عوف قد آليت ألا أقطع طلبى إلاّ أن يضع يده فى يدى. فقال عوف: والله ما يكون ذلك أبدًا لكنّ يدى بين يديك ويده. قال، فرضى عمرو بذلك. فوضع مروان يده فى يد عوف ووضع عوف يده فى يد عمرو. فقال عمرو: لا حرّ بوادى عوف. فذهبت مثلاً.

العتبيّ قال: كان خالد بن عبدالله القسريّ ذات ليلةٍ مع فقهاء من أهل الكوفة فقال بعضهم: حدّثونا حديثًا لبعض العشّاق. قال أحدهم: أصلح الله الأمير، ذكر هشام بن عبدالملك غدر النّساء وسرعة رجوعهنّ. فقال له بعض جلسائه: أنا أحدّثك، يا أمير المؤمنين: بلغنى عن امرأةٍ من يشكر يقال لها أمّ عقبة بنت عمرو بن الأعران، وإنّها كانت عند ابن عمٍّ لها يقال له غسّان، وكان شديد المحبّة لها، والوجد بها، وكانت له كذلك. فأقام بها على هذا الحال ما شاء الله، لا يزيد كلّ واحدٍ منهما بصاحبه إلاّ اعتباطًا.

فلمّا حضرت غسّان الوفاة قال لها: يا أمّ عقبة اسمعى ما أقول، وأجيبى عن نفسك بحقٍّ. فقالت له: والله لا أجبتك بكذبٍ، ولا أجعله آخر حظّك معى. فقال: إنّى رجوت أن تحفظى العهد، وأن تكونى لى إن متّ عند الرّجاء. أنا والله واثقٌ بك، غير إنّى بسوء الظّنّ أخاف غدر النّساء. ثمّ اعتقل لسانه فلم ينطق حتّى مات. فلم تمكث معه إلاّ قليلاً حتّى خطبت من كلّ مكانٍ، ورغب فيها الأزواج لاجتماع الخصال الفاضلة فيها من العقل والجمال والمال والعفاف والحسب. فقالت مجيبةً له:
سأحفط غسّانًا، على بعد داره.. وأرعاه حتّى نلتقى يوم نحشر.

وإنّى لفى شغلٍ عن النّاس كلّهم.. فكفّوا، فما مثلى من النّاس يغدر.

سأبكى عليه، ما حييت، بدمعةٍ.. تحول على الخدّين منّى فتكثر

فيئس النّاس منها حينًا. فلمّا طالت بها الأيّام نسيت عهده، وقالت: من قد مات فقد فات. وأجابت بعض خطّابها فتزوّجها المقدام بن حابس، وقد كان بها معجباً. فلمّا كانت الليلة التى أراد بها الدّخول، أتاها فى منامها زوجها الأوّل فقال لها:
غدرت، ولم ترعى لبعلك حرمةً.. ولم تعرفى حقًّا، ولم ترعى لى عهدًا

غدرت به لمّا ثوى فى ضريحه.. كذلك ينسى كلّ من سكن اللحدا

فانتبهت مرتاعةً مستحيةً منه كأنّه يراها أو تراه كأنّه فى جانب البيت. فأنكر حالها من حضرها، وقلن لها: ما لك؟ وما بالك؟ قالت: ما ترك لى غسّانٌ فى الحياة إربًا، أتانى السّاعة فأنشدنى هذه الأبيات. ثمّ أنشدتها بدمعٍ غزيرٍ، وانتحابٍ شديدٍ من قلبٍ جريحٍ موجعٍ. فلمّا سمعن ذلك منها أخذن بها فى حديثٍ آخر لتنسى ما هى فيه، فتغفّلتهنّ ثمّ قامت كأنّها تقضى حاجةً فأبطأت عليهنّ. فقمن فى طلبها، فوجدنها قد جعلت السّوط فى حلقها وربطته إلى عمود البيت وجبذت نفسها حتّى ماتت. فلمّا بلغ ذلك زوجها المقدام، حسن عزاؤه عنها، وقال: هكذا فليكن النّساء فى الوفاء، قلّ من يحفظ ميتًا، إنّما هى قلائلٌ حتّى ينسى وعنه يتسلّى.

استعدى آل بثينة مروان بن الحكم على جميل بن معمر، فهرب حتّى أتى رجل شريف من بنى عذرة فى أقصى بلادهم وله بناتٌ سبعٌ كأنّهنّ البدور جمالاً. فقال الشّيخ لبناته: تحلّين بأجود حليّكنّ، والبسن فاخر ثيابكنّ، ثمّ تعرضن لجميلٍ. فمن اختار منكنّ زوّجته إيّاها. ففعلن ذلك مرارًا وجعلن يعارضنه: فلم يلتفت إليهنّ. وأنشأ يقول:
حلفت لكى تعلمن أنّى صادقٌ، وللصّدق فى خير الأمور وأنجح

لتكليم يومٍ من بثينة واحد.. ورؤيتها عندى، ألذّ وأملح،

من الدّهر أن أخلو بكنّ فإنّما.. أعالج قلبًا طامحًا حيث يطمح

قال أبوهنّ: دعن هذا، فوالله لا أفلح أبدًا.

كانت أمّ هانى بنت أبى طالب تحت زوجها هبيرة بن أبى ليث المخزومى، فهرب يوم فتح مكّة إلى اليمن فمات كافرًا. فخطب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أمّ هانى فقالت: والله لقد كنت أحبّك فى الجاهليّة فكيف فى الإسلام؟ ولكنّنى امرأةٌ مصيبةٌ وأكره أن يؤذك. فقال النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم: « نساء قريشٍ خير نساءٍ ركبن المطايا، أحناهنّ على ولدٍ صغيرٍ، وأرغاهنّ، على زوجٍ ذى يدٍ».

أبو بكر الأنبارى، عن أبى اليسر قال: دخلت منزل نخّاسٍ لشراء جاريةٍ، فسمعت فى بيت بازاء البيت جاريةً تقول:
وكنّا كزوجٍ من قطا فى مفازةٍ.. لدى خفض عيشٍ معجبٍ مونقٍ رغد

أصابهما ريب الزّمان فأفردا.. ولم أر شيئاً قطّ أوحش من فرد

فقلت للنّخّاس: أعرض عليّ هذه المنشدة. فقال إنّها حزينةٌ. قلت: ولم ذلك؟ قال: اشتريتها من ميراثٍ، فهى باكيةٌ على مولاها. ثمّ لم ألبث أن أنشدت:
وكنّا كغصنى بانةٍ وسط دوحةٍ.. نشم جنا الجنّات فى عيشةٍ رغد

فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطعٌ.. فيا فردةٌ باتت تحنّ إلى فرد

قال أبو السّمراء: فكتبت إلى عبدالله بن طاهر بخبرها. فكتب إليّ: أن ألق عليها هذا البيت، فإن أجازته فاشتراها ولو كانت بخراج خراسان. والبيت:
قريبٌ صدّ، بعيدٌ وصل.. جعلت منه لى ملاذا

فقالت:
فعاتبوه، فزاد شوقًا.. فمات عشقًا، فكان ماذا؟

قال أبوالسّمراء: فاشتريتها بألف دينارٍ وحملتها إليه. فماتت فى الطّريق، فكانت إحدى الحسرات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.