عجوز يرتدى نظارته السوداء السميكة.. وبدلة تزدان بنيشان حصل عليها من القوات المسلحة..اعتاد الهروب من جدران منزله لمقهى «سمارة».. باحثا عن الونس مع جليسه..يتعرف على كل ما هو جديد من ونيسه.. ويروى له تاريخ أحفاد 1956. دموع تسابق كلماته.. يروى بها حكايته.. ضحى بعينيه حبا ودفاعا عن بورسعيد الباسلة.. فالكل ينصت إلى بطولاته دون الشعور بأي ملل.. وهو يرى عينيه الذى حرم منها فى وجه كل من يستمع اليه.. فهذه هى قصة «محمد مهران» أسطورة المقاومة الشعبية ببورسعيد. التقت بوابة «صوت الأمة»، ب«مهران»، لاستعادة ذكرياته بعد مرور 59 علي انتصار أحفاد بورسعيد على قوات العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي عام 1956، في ظل احتفالات المدينة الباسلة بالعيد القومي«عيد النصر»، يوم 23 ديسمبر من كل عام. وروي «مهران» بطولاته وصوت الطائرات الحربية بأذنيه وحده، قائلا: «استهدف الاحتلال بورسعيد عقب تأميم قناة السويس، وتحولت المدينة إلى الخراب، وفى 5 نوفمبر 1956 توجهت الطائرات المعتدية لضرب منطقة الجميل، وبعض المناطق السكنية، وبدأت المظلات تهبط، وكانت المدينة تصحو وتنام على أصوات النيران، وترأس «مهران» سرية المقاومة، وقتلهم بمعاونة رفاقه، وتوافدت القوات البريطانية بعد ذلك، وصنعوا خنادق ترابية من حفرات بالشوارع، لكى تصد نيران العدو. وسكت «مهران» برهة من الزمن، والدموع بعينيه، قائلا «رفيق كان فى الحفرة بجانبى، وخرج لملاقاة العدو ولكنه قتل، وخرجت وأخذت رصاصة فى رأسى، وسقطت مغشيا فاقد الوعى، يشير لمن حوله، ووقعت فى أسر العدو». وتوقف الفدائى قليلا وصوته يرتعش، يستعيد هذه اللحظات القاسية، ليروى لنا قصة اقتلاع عينيه قائلا:« قام الضباط الإنجليز بمحاولة التعرف على معلومات عن المقاومة الشعبية ببورسعيد، ورفضت، وساومونى على الحرية، فصرخت فى وجههم:«إن حريتى فى أن ترحلوا عن وطنى، فأحسوا بعنادى، عدة مرات هم يعرضون عليا وأنا أرفض وظللت أعند وأعند، ثم نقلونى إلى قبرص، ولم أعرف إلى أين نحن ذاهبون». وفجأة وجدت نفسى على سرير فى المستشفى، تابع للقوات البريطانية، ووجد ضابط طبيب بريطاني يتحدث إلي، وأخذ يسب مصر ويسب الرئيس جمال عبدالناصر ويسب بورسعيد، وقلت له «لا تفعل هذا مرة أخرى والتزم الأدب، ولكنه لم يستمع لكلامى، وأخذ يسب، ثم قام هذا الطبيب البريطانى بعقد صفقة معى، قائلا:«هل يوجد عميانا فى بلدكم؟ فقلت له نعم، ثم سألنى أيهما أفضل الأعمى أم البصير؟، وقتها توقفت لحظات وقلت له البصير. ورد الضابط الإنجليزى على «مهران» قائلًا: إنت تسببت فى العمى لضابط بريطانى فى بورسعيد، والعدل أن نأخذ عين واحدة منك، ونعطيها للضابط البريطانى، ليرى كل منهما بعين واحدة، وأخرى مغمضة». واشترط الضابط البريطانى على «مهران» لكى تتم هذه الصفقة لابد أن يسجل بصوته، تسجيلا يبث فيه بطيب المعاملة، ويعلن دخول القوات البريطانية بورسعيد، وقام الضباط الإنجليز بتعذيبى، وكنت أصرخ ولا أجد من يجيب لصرخاتى، ثم أخبرنى الضابط، أن التعذيب سيتوقف، وفتح لى جهاز التسجيل، وقال نحن الآن فى قبرص، معنا الشاب المصرى محمد مهران، يتحدث عن السياسة الفاشلة فى مصر، والاستقبال الرائع من شعب بورسعيد للقوات البريطانية، ثم أشار لى لكى أتحدث، وقلت من هنا أطلب من الله النصر للفدائيين المصريين على أعداء مصر، وأعداء العروبة، تحيا مصر، يحيا جمال عبدالناصر، وعلى الفور، أغلق الضابط جهاز التسجيل، وأغلقت عينى معه للأبد، وسارت النيران تسرى فى عينى، ورعشة جسدى لم تتوقف، فلم أفقد عين واحدة، بل فقدت الاثنين، وغاب عنى الرؤية، ولكن بصيرتى ظللت ارى بها كل شىء. تحدث لى الطبيب الذى أجرى لى العملية بجملة واحدة، لن أنساها، وسيظل صدى صوته يرن فى أذنى، قائلا:«فعلنا ذلك لتكون عبرة لأمثالك فى مصر»، وتعالت فى المكان أصوات أنفاس المحيطين والتى انبهرت بما تسمعه. وعن عودته لمصر قال، تم خطفى من قبل أحد الأفراد من القوات المسلحة من الأسر، واعادتى لمصر، رجعت لبلدى والقطن يحل محل العين، واستكمل حديثه وهو يجهش من البكاء قائلا، رجعت إلى مصر فاقد العينين ووجدت نفسى فى مستشفى المعادى العسكرى، وفشل الأطباء فى مداواتى، وقالوا: إنهم فى قبرص أزالوا عصب العين، حتى أظل أعمى بقية حياتى، مهما حاول الطب أن يفعل. وخلال قعدتي بالمستشفى، فجأة سمعت صوتًا فى الغرفة أعرفه جيدًا، صرخت بكل قوة «إنت جمال عبدالناصر.. إنت جمال عبد الناصر»، أخبرونى بأنه عبدالناصر ومعه عبدالحكيم عامر، وزكريا محيى الدين، سلم عليهم، وطلب منى الرئيس جمال عبدالناصر، أن أحكى ما حدث بالتفصيل، إن كان ذلك لا يؤثر على نفسيتى. توقفت قليلًا، وبدأت أروى ما حدث معى فى قبرص، وبمجرد أن سمع «عبد الناصر» قول الضابط الإنجليزى، لتكون عبرة لأمثالك من المصريين، انتفض وقرصنى من رقبتى، وقال لى «الإنجليز غلطوا غلطة كبيرة قوى يا مهران، هما خدوا عينيك مش عشان تكون عبرة للمصريين، لكن عشان تكون قدوة لكل مصرى، ولكل إنسان حر بيقاوم الاستعمار». واختتم «مهران» حديثه قائلا، فقدت أعز ما أملك لإجلاء الإحتلال عن مصر، وكنت أتمنى أن أضحى بأكثر من ذلك مهما طلبوا منى، فروحى فداء لمصر.