أخذت المساحة الكاكية اللون تتسع بين الأنامل المعروقة للسيدة سوزان العجوز المتطوعة لخدمة كنيسة ألفريد، وهى تحثنى بصوت واهن يتناسب مع الأعوام التسعين، التى تحملها على كتفيها على قبول المعطف الجلدى الواقى من المطر، كهدية مجانية من التبرعات، التى تفد إلى «الأبشوب» لأنه الوحيد، الذى سيمكننى من السير فى أمطار قرية ألفريد، التى تهبط كشلال لا تستطيع المظلات القوية أن تحمى حاملها منه. راحت تتمتم فى أمومة حانية: «قالوا لى أنك جئت إلينا من بلاد مصر، التى بنت الأهرامات وأبوالهول، وأنكم هناك تعيشون فى أجواء حارة تصل إلى مائة وعشرين فهرنهايت، لذا أشفق عليك من ثلوجنا التى تهبط إلى ما تحت الصفر بعشرين درجة. أنصحك بأن ترتدى هذا المعطف السهل الارتداء فوق جميع ثيابك ليعفيك من أن تنشغل يدك بحمل المظلة وليصنع حاجزا قويا أمام البرد القارص». شكرتها وقد قررت أن أداعبها: «ولكن ألا تعتقدين أن هذا المعطف كان فيما مضى لجندى مات أو أصيب فى الغزو الأمريكى للعراق أو أفغانستان؟!» فصاح «شون»، وهو أحد طلابى من الخلف، وكان يتابع حوارنا ضاحكا: «لا أستبعد تخمينك طبعا ولذا أنصحك بفحص المعطف الكاكى جيدا حتى إذا وجدنا فيه ثقوبا كان معنى ذلك أن قناصا عراقيا قد اصطاده، وإن لم نجد فيمكنك أن ترتديه دون خوف من أن يظهر لك الجندى فى الكوابيس الليلية مطالبا بمعطفه!! هاهاها». وسرعان ما توقفت ورفيقى عن الضحك وإطلاق النكات عندما لاحظنا سحابة الحزن، التى زحفت على وجه الملائكية العجوز، وهى تعلق فى ألم: «ولِمَ لا؟ فأنتما لا تبالغان فى تصوراتكما عن رحلة المعطف العسكرى، وما يمكن أن تحمله من مفاجآت وقصص قد يفوق واقعها الخيال، ما دامت أمريكا العسكرية مجنونة بجر شبابها إلى بحار الدم فى بلاد لا ناقة لنا فيها ولا جمل. نحن شعب يحب الحياة والبهجة، ولكن السيدين بوش الأب والابن مغرمان بالموت من أجل أوهام السيطرة وعنجهية النفوذ اللذين أفقدانى أخى الحبيب فى حرب فيتنام، التى جرت علينا العار، عندما تغلب فلاحو هوتشى منه البسطاء الفقراء على جيشنا القوى بعدته وعتاده.. هل تعرفين لماذا يا عزيزتى؟ لأننا لم نكن ندافع عن قضية، وإنما كنا نسجل غزوا واعتداء وهيهات ما بين الأمرين!» أحطت كتفها بذراعى، وأنا أتمنى النجاح فى التخفيف عنها: «وماذا نفعل فى أقدارنا يا سيدتى إلا أن نتحملها بشجاعة وصبر إلى أن ينجح الشعب الأمريكى فى استرداد وعيه بإنسانيته ويدفع إلى قمته السياسية بمن يعبر عن إرادته الشعبية الحقيقية.. ها هى 2005 توشك على الانتهاء وستأتى الانتخابات الجديدة، وتقولون كلمتكم فى رفض ما أحزنكم وزيف الوعى، وأنا أتقبل هديتك بكل الشكر. وعندما أرتدى المعطف الكاكى فى الصباح وأنا أنطلق إلى الجامعة سأقول لنفسى وأنا أردد الدعاء المستجاب: «أعوذ بك من أن أظلِم أو أُظلَم، لن تتمكن أيها البرد القارص من النفاذ إلى عظامى، كما اعتدت من قبل.. ففى وجهك يقف معطف سوزان الدافئ الذى يعبق بحنانها وإنسانيتها!!». استعادت سوزان روحها المرحة الودود من جديد وهى تداعب «شون» قائلة: «لن يطارد شبح صاحب المعطف «هدى» ليطالبها به لأن صاحبه على قيد الحياة، فهو لولدى الذى رفض بعد تجنيده بالجيش الذهاب إلى حروب لم يقتنع بأسبابها ليعيش حياة هادئة دون أن يشهر سلاحا فى وجه إنسان كما ربيته». فحملت المعطف لأخرج به، ولكنها أصرت على ألا أخرج إلا بعد أن أتجول فى «الأبشوب»، وهو عبارة عن قاعة كبيرة تعلو قاعة الصلاة فى الكنيسة تمتلئ بالتبرعات التى يقدمها الناس إلى الكنيسة، وهى تتنوع ما بين الملابس المستعملة والمفروشات والأدوات المنزلية والتحف والكتب، التى تقوم سوزان بدأب وحب نادرين مع بعض صديقاتها من عجائز (ألفريد) بفرزها وتصنيفها وعرضها بصورة شديدة الدقة لبيعها بأثمان زهيدة للجمهور. فتذكرت «وكالة البلح» بالقاهرة، حيث يجد البسطاء ومحدودو الدخل ما يحتاجونه من بضائع. فمن الواضح أن المجتمعات الإنسانية تبتكر ما يمكن أن يحمى فقراءها من جشع أغنيائها بإتاحة الفرصة لانفراجة فى باب الحرمان المادى الموصد، ولكى لا ينتهى الأمر بإعصار جماهيرى يأخذ فى طريقه الظالم والمظلوم. ولأنه فى داخل كل منا يكمن (بابا نويل) الراغب فى نشر السعادة على قلوب البشر قررت سوزان ورفيقاتها أن تقيم أوكازيون فريدا ب«الأبشوب»، وذلك بأن تتيح الفرصة لكل زائر فى الحصول على أكبر كمية من البضائع بأقل سعر ممكن وعندما سألتها: «أنت فى حالة أوكازيون دائم، فكيف بالله عليك تقدمين المزيد من التخفيض؟!» قالت: «نحن نضع حقائب ورقية فارغة متوسطة الحجم، ولكل شخص الحق فى ملء الحقيبة بالبضائع، التى يختارها بشرط ألا يمزق الحقيبة الورقية، وفى المقابل سيكون عليه أن يدفع دولارا واحدا للبضائع التى تمتلئ بها الحقيبة الواحدة. فانتابتنى حالة الجشع التى عاناها (قاسم) أخو (على بابا) عندما دخل مغارة الأربعين حرامى، وهو يهتف: دهب.. ياقوت.. ومرجان. وبدأ فى ملء الحقائب بالهدايا، التى لم أفكر أننى سأعجز عن حملها بمفردى فى شوارع ألفريد الثلجية. (لكن العبدفى التفكير والرب فى التدبير) عندما اندفع «شون» يملأ حقائبه قائلا لى: لا تشغلى بالك فسوف نتعاون فى حمل حقائبك إلى البيت. خرجت من «الأبشوب» أحمل ست حقائب مكبوسة بكتب ومفارش وملاءات وتحف.. بدولاراتى الست، كطفل أيقظته هدايا بابا نويل على يوم سعيد.