جيش الاحتلال الإسرائيلي يؤكد فشله في اعتراض صاروخ اليمن وسقوطه بمحيط مطار تل أبيب    مينا مسعود يحضر العرض المسرحي في يوم وليلة ويشيد به    رئيس وزراء أستراليا المنتخب: الشعب صوت لصالح الوحدة بدلا من الانقسام    وزير الصحة يوقع مذكرة تفاهم مع نظريه السعودي للتعاون في عدد من المجالات الصحية الهامة لمواطني البلدين    تعاون مشترك بين الهيئة العربية وXGY الصينية في تصنيع الرنين المغناطيسي    مصر تدشن مشروعًا وطنيًا لتصنيع أكياس وقرب الدم بالشراكة مع اليابان.. استثمارات ب1.4 مليار جنيه في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس    طفل مصري يحصد المركز الأول عالميًا في تكنولوجيا المعلومات ويتأهل لمنافسات الابتكار بأمريكا    الصحفيون المصريون يتوافدون فى يوم عرسهم لإجراء انتخابات التجديد النصفى    كامل الوزير عن أزمة بلبن: تلقيت توجيهات من الرئيس السيسي بحل المشكلة بسرعة    كامل الوزير: هجمة من المصانع الصينية والتركية على مصر.. وإنشاء مدينتين للنسيج في الفيوم والمنيا    كامل الوزير: 2700 قطعة أرض صناعية خُصصت عبر المنصة الرقمية.. وأصدرنا 1439 رخصة بناء    الرئيس السيسي يشهد احتفالية عيد العمال بالسويس    وزير الإسكان يتابع تنفيذ المشروعات التنموية بمدينة السويس الجديدة    قفزة مفاجئة في أسعار الذهب اليوم في مصر: شوف وصل كام    روسيا تحث أوبك+ على المساهمة بشكل متكافئ في توازن العرض والطلب    النواب عن تعديلات الإيجار القديم: مش هنطرد حد من الشقة والورثة يشوفوا شقة بره    حقيقة خروج المتهم في قضية ياسين من السجن بسبب حالته الصحية    السيسي يوجه الحكومة بالانتهاء من إعداد مشروع قانون العمالة المنزلية    حزب الله يدين الاعتداء الإسرائيلي على سوريا    سوريا: قصف الاحتلال الإسرائيلي للقصر الرئاسي تصعيد خطير وسعي لزعزعة استقرار البلاد    مصر : السياسات الإسرائيلية تستهدف تقويض الوضع الإنساني بغزة وتؤجج الوضع الإقليمي    ترامب لا يستبعد حدوث ركود اقتصادي لفترة قصيرة في أمريكا    رئيس الوزراء يُشارك في حفل تنصيب الرئيس الجابوني بريس نجيما    مكتب نتنياهو: لم نرفض المقترح المصري بشأن غزة وحماس هي العقبة    تمهيدا للرحيل.. نجم الأهلي يفاجئ الإدارة برسالة حاسمة    الأهلي سيتعاقد مع جوميز ويعلن في هذا التوقيت.. نجم الزمالك السابق يكشف    إنتر ميلان يواصل مطاردة نابولي بالفوز على فيرونا بالكالتشيو    نادي الهلال السعودي يقيل مدربه البرتغالي.. ويكشف عن بديله المؤقت    رسميًا.. الأهلي السعودي بطلًا لدوري أبطال آسيا    الإسماعيلي يطالب بإعادة مباراة سموحة وسماع تسجيل الفار    بورنموث يحقق مفاجأة بالفوز على آرسنال بهدفين    مصر تحصد 11 ميدالية في البطولة الأفريقية للسباحة بالقاهرة    طقس اليوم الأحد.. موجة أمطار تضرب القاهرة وباقي المحافظات    الشرطة الألمانية تلاحق مشاركي حفل زفاف رقصوا على الطريق السريع بتهمة تعطيل السير    «إدمان السوشيال ميديا .. آفة العصر».. الأوقاف تصدر العدد السابع من مجلة وقاية    مصرع شخص وإصابة 6 في انقلاب سيارة على الطريق الصحراوي بأسوان    ضبط 39.9 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    الأرصاد الجوية تحذر: أجواء شتوية وأمطار رعدية حتى الأحد    توجيه وزاري باتخاذ الإجراءات العاجلة لاحتواء تلوث بترولي قرب مدينة أبورديس    سبب حريق الأتوبيس الترددي علي الطريق الدائري| المعاينة الأولية تكشف    الدكتور عبد الحليم قنديل يكتب عن : ردا على غارات تزوير عبدالناصر    كامل الوزير: البنية التحتية شرايين حياة الدولة.. والناس فهمت أهمية استثمار 2 تريليون جنيه    50 موسيقيًا يجتمعون في احتفالية اليوم العالمي للجاز على مسرح تياترو    تامر حسني ينعى المنتج الراحل وليد مصطفى برسالة مؤثرة على إنستجرام    الرئيس السيسي يتابع مستجدات مشروع تطوير محطة «الزهراء» للخيول العربية    كشف أثري جديد عن بقايا تحصينات عسكرية ووحدات سكنية للجنود بسيناء    ابجد ..بقلم : صالح علي الجبري    قصة قصيرة بعنوان / صابر..بقلم : محمد علي ابراهيم الجبير    الأوقاف تحذر من وهم أمان السجائر الإلكترونية: سُمّ مغلف بنكهة مانجا    " قلب سليم " ..شعر / منصور عياد    أزهري يكشف: ثلاثة أماكن في المنزل تسكنها الشياطين.. فاحذر منها    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : هيّا معا نفر إلى الله ?!    "ماتت من كنا نكرمك لأجلها".. انتبه لخطأ كبير في هذه العبارة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المعركة لازالت مستمرة?!    رسميًا| خالد البلشي نقيب للصحفيين لفترة ثانية والمسلماني يهنئ    عاجل| موعد امتحانات الشهادة الإعدادية 2025 في الجيزة    فحص 700 حالة ضمن قافلتين طبيتين بمركزي الدلنجات وأبو المطامير في البحيرة    الصحة: العقبة الأكبر لمنظومة التبرع بالأعضاء بعد الوفاة ضعف الوعي ونقص عدد المتبرعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتّاب: «أحلام فترة النقاهة» خلاصة إبداع نجيب محفوظ.. وإضافة لمسيرة السرد العربى «2»
نشر في الشروق الجديد يوم 02 - 09 - 2015

فى الحلقة السابقة نشرنا ردود أفعال على نبأ استعداد «الشروق» نشر جزء ثان من «أحلام فترة النقاهة»، وبخاصة نشر خطاب د. يحيى الرخاوى للمهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق، والذى شكر فيه المعلم قائلا: «شكرا، واحتراما، وتحية، ودعاء، جزاكم الله عن شيخنا، ومصر، والثقافة خيرا. تقديرا لثقتكم الغالية، وبعد نشر التحقيق المهم المنشور فى جريدة الشروق عن هذا العمل المهم «أحلام فترة النقاهة»، وخصوصا ما جاء فيه على لسان الحاج صبرى، أكرمه الله، قمت بما شرفت بتكليفى به وقرأت العمل قيد الطبع، وحمدت الله، وأشكركم مرة أخرى على هذه الثقة، وهذه الفرصة». وفى السطور التالية ننشر بقية آراء الكتاب والأدباء حول «أحلام فترة النقاهة»: د. شاكر عبدالحميد، زير الثقافة الأسبق، والناقد الكبير د. صلاح فضل، والروائى إبراهيم فرغلى، والكاتب الشاب وجدى الكومى.
شاكر عبدالحميد: الأحلام حكمة إبداعية بديعة لكل ما كتبه محفوظ
فى أحلامنا فقط نكون صادقين. هذا ما قاله الفيلسوف الألمانى «نيتشه»، أما جلجامش فيطالب فى أسطورته الجبل أن يأتى لصديقه «إنكيدو» بحلم مطمئن فيقول له: «يا أيها الجبل يا موطن الإلهة أرسل حلما لإنكيدو، أبعث إليه بحلم مطمئن». وفى سياق آخر يقول «نينورتا» إله الآبار فى هذه الأسطورة: «ثم أنى لم أفش سر الإلهة، فقد عرفه الرجل الحكيم فى الحلم»..
هكذا كان نجيب محفوظ، فيما أعتقد، يبحث خلال فترة النقاهة، عن حلم مطمئن؛ حلم مطمئن له ولوطنه، كما أنه كان قد وصل إلى أعلى مراتب الإبداع والشهرة وتحقيق الذات والحكمة. وهكذا كانت أحلامه هذه تسعى وراء طمأنينة مفتقدة، وتجسد أيضا حكمة راسخة تراكمت لديه فى وعيه ووجدانه عبر كثير من الخبرات والسنين والكتابات.
فطالما اهتم محفوظ فى عمله بالملاحظة والإدراك والالتقاط والتحليل والرصد والتجسيد للجوانب الخفية من النفس البشرية.
وقد أدرك محفوظ ذلك ورصده هذا علماء ونقاد بارزون منهم، تمثيلا لا حصرا: يحيى الرخاوى، عز الدين إسماعيل، فرج أحمد فرج، وإبراهيم فتحى، وغيرهم.
كما أن الكثير من عناوين محفوظ تعكس هذا الولع لديه بالجانب الخفى من النفس البشرية، ومنها تمثيلا لا حصرا: همس الجنون، السراب، المرايا، رأيت فيما يرى النائم.
الحلم بشكل عام قد يمثل ذاكرة للنهار تتجلى خلال الليل، هذا رأى «فرويد». وعند يونج الحلم أداة للتنبؤ بالمستقبل، والحلم كذلك أسلوب مواجهة لأوجاع الحياة وأمراضها. ووسيلة أيضا للنقاهة من هذه الأوجاع والأمراض.
وقد عكست «أصداء السيرة الذاتية» هذه الوظائف الثلاثة للحلم: ذاكرة الماضى، والتنبؤ بالمستقبل، وأسلوب مواجهة للأوجاع والأمراض.
وفى هذا السياق أتوقع ايضا أن يكون الترحيب والفرح والاحتفاء كبيرا من القراء عامة والنقاد والدارسين ايضا بصدور الجزء الثانى ل «أحلام فترة النقاهة» عن دار الشروق فى زمن أصبح فيه الولع بنجيب محفوظ، وكل ما يمثله علامة مميزة للمزاج المصرى ونموذجا وقدوة تدعو إلى الفخر لدى كثير من المصريين والعرب أيضا.
فى هذه الأحلام يقدم لنا نجيب محفوظ عالما موازيا رمزيا ليليا لعالم الحياة النهارية الحالية والماضية الخاصة به وبالآخرين؛ لحياته وذكرياته وأمنياته وعلاقاته ورغباته وإحباطاته وأفراحه وأحزانه. وفى هذه الأحلام نجد تداخل الأمكنة والأزمنة والبشر والانفعالات والذكريات ونجد عالما خصبا يموج بالحركة، فنجد وسائل نقل: الترام والدراجات والقطارات والطائرات والسفن، وكذلك الحركة الخاصة بالراوى أو السارد من خلال المشى فى الشوارع أو عبر الأحلام. فى أحد الأحلام الذات تعبر عن رغبتها فى الطيران من السعادة بلا أجنحة، ونجد الأماكن والمكاتب والقصور وغرف المستشفيات. ومن بين هذه الأماكن يبرز البيت وتبرز الرغبة فى العودة إليه فى كثير من الأحلام، حيث نجد هنا رغبة غلابة متكررة دائمة البحث عن البيت الأليف والمألوف الذى يبعث الشعور بالطمأنينة ورغبة أيضا مصاحبة فى الابتعاد عن تلك البيوت المخيفة الموحشة غير المألوفة أو الأليفة. وهنا البيت يرتبط رمزيا بوطن آمن مستقر لا ذلك الوطن الذى يتصارع فيه الجميع عليه حتى يتحول إلى ما يشبه الجثة الهامدة أو الهيكل العظمى.
وهكذا نجد فى أحلام كثيرة لدى محفوظ بيوتا تخلو من البشر والحركة والحميمية لكنها تزخر أيضا بالذكريات والأمنيات والرغبات. وترتبط الأماكن فى الأحلام أيضا بالانفعالات ومنها تمثيلا لا حصرا: انفعالات القلق والحزن والحيرة والضيق والشرود الذى يتحول إلى حسرة ورعب شامل.
نادرا ما تكون الذات موجودة فى الأحلام بمفردها، وإنما ثمة آخر: الحبيبة الجميلة الغائبة والتى غالبا ما تكون قد ماتت، وهناك الأم والأصدقاء والمعلمون وأفراد الأسرة وبعض الزعماء» خاصة سعد زغلول ومصطفى النحاس، وبعض النقاد.
وهناك رغبة مستمرة فى العودة إلى مرحلة الشباب والقوة والماضى والأمن النسبى فى مواجهة حالات الشك والحيرة والالتباس وغياب اليقين بشكل عام. الأب غائب تقريبا فى الأحلام، أما الأم فحاضرة فى أكثر من حلم. وغياب الأب قد يرتبط بغياب السلطة أو القيد أو الرقابة أو الحماية والطمأنينة بشكل عام فى حياة اليقظة. هناك اختفاء لشخصيات وظهورهم مرة أخرى، وعودة الموتى لتصحيح أخطاء ارتكبوها أو أرتكبها غيرهم. هذه ليس مجرد أحلام فقط بل فيها كوابيس فترة النقاهة أيضا، هناك موت وخوف وقلق، وبيوت تحترق وجرائم وحيوانات متوحشة وفزع ليلى. بنية الأحلام متماسكة ونهايتها مفتوحة غير مغلقة لكنها تقبل تأويلات عدة، حالات من الترقب والارهاص الخفى بما قد يكون موشكا على الحدوث بشكل عام، فهى تعكس حالة من البحث عن حلم مطمئن للناس جميعا ولكل المجتمع المصرى، وتجسد أيضا حكمة إبداعية جميلة لكل إبداعات محفوظ وأحلامه بشكل خاص.
إبراهيم فرغلى: نجيب محفوظ لا ينتهى!
أحلام فترة النقاهة فى تقديرى هى واحدة من أهم النصوص فى الأدب العربى المعاصر، لأنها بقدر ما تبدو نصوصا تخييلية على تخوم الأساطير والحكمة والعجائبية، فإنها تبصر الواقع وتراه بشكل يكشف مدى قوة البصيرة التى يمتلكها نجيب محفوظ. ففى هذه النصوص المكثفة المتوازنة بدقة بين مضمونها ودلالاتها، يبدو أنه يتغول فى غابات خياله بعيدا إلى ذكريات الطفولة والصبا فيما هو يغزل لنا ممرا سرديا بديعا بين رؤاه وبين حيواتنا نحن، لكى نرى بها واقعنا.
انظر مثلا ما يقوله عم نجيب فى واحدة من أحلامه:
«الشارع الجانبى لا يخلو من مارة وأناس فى الشرفات، والسيدة تسير على مهل، وتقف أحيانا أمام معارض الأزياء. يتعرض لها أربعة شبان دون العشرين، تتجهم فى وجوههم وتبتعد عن طريقهم، ينقضون عليها ويعبثون بها، تقاوم والناس تتفرج دون أى مبادرة. الشبان يمزقون ثوبها ويعرون أجزاء من جسدها. السيدة تصوت مستغيثة. راقبت ما حدث، فتوقفت عن السير، وملكنى الارتياع والاشمئزاز، وودت أن أفعل شيئا أو أن يفعله غيرى، ولكن لم يحدث شىء. وبعد أن تمت المأساة وفر الجناة، جاءت الشرطة، وتغير المكان، فوجدت نفسى مع آخرين أمام مكتب الضابط، واتفقت أقوالنا. ولما سئلنا عما فعلناه كان الجواب بالسلب، وشعرت بخجل وقهر، وكانت يدى ترتجف وهى توقع بالإمضاء على المحضر».
كأنه شهد معنا الوقائع المخزية التى صحبت الثورة وربما قبلها وصولا لما يحدث اليوم من وقائع تحرش مخزية بالمرأة المصرية تعبر عن حال من البؤس النفسى والانحطاط (لا يوجد وصف آخر لفعل التحرش بالمناسبة)، الذى بلغه قطاع لا يستهان به ممن يطلق عليهم رجال أو شباب فى مصر. كأن محفوظ يعرف أن سلبية الشعب المصرى أمام مسئولياته تجاه نفسه وشرفه وحقه لا يمكن إلا أن تسفر عن وقائع انتهاك كهذه.
وصحيح أنه تم الاحتفاء بالأحلام عبر نشرها مسلسلة مطولا فى نصف الدنيا والكتابة الاحتفائية عنها بعد نشرها فى كتب، لكنى لا أظن أن هناك دراسة نقدية موضوعية خاضت فيها بشكل عميق يتناسب مع أهميتها. وأظن أن دراسات من هذا النوع ستكون قادرة على كشف الكثير من حيث المضمون والدلالات الرمزية من جهة، ومن حيث الأسلوب أيضا خصوصا وأننى فهمت أن عم صبرى الذى كان الأستاذ نجيب يقوم بإملائه هذه النصوص بعد أن فقد القدرة على الكتابة يقول إن محفوظ كان يحفظها ثم يمليها عليه.
بالتالى فإن قرار الشروق نشر مجموعة الأحلام الجديدة، خبر جيد، لأنه بالإضافة لأنه سيضم نصوصا جديدة من المهم أن يطلع القارئ المصرى والعربى عليها خصوصا أن الأستاذ نجيب كان قد أعدها للنشر، فإنه قد يكون فرصة جيدة لاهتمام النقاد بدراسة هذه النصوص بشكل فيه من الجدية ما يتناسب مع جدتها وإضافتها لمسيرة السرد العربى المعاصر.
الصديق سيد محمود رئيس تحرير صحيفة القاهرة قال لى مرة ونحن نتحدث عن سيدة الغناء العربى أم كلثوم إنها لا تنتهى، وأنا بدورى أقول إن نجيب محفوظ لا ينتهى، ليس لأن أعماله لم تقر أجيدا رغم كل هذا الصخب والضجيج، بل لأن جيلا جديدا واعدا سوف يقرأها بروح مختلفة ويضيف لنا دلالات جديدة لم ننتبه لها، كما أن مثل هذه النصوص الجديدة التى اكتشفت بعد ما يناهز عشرة أعوام على رحيله تأكيد آخر لأنه لا ينتهى، طابت روحه أينما كان.
صلاح فضل: محفوظ فى أحلامه سكب عصارة خبرته المتجوهرة
أسس محفوظ بعبقرية النمل الدءوب ديوان الرواية العربية وانتزع شرعيتها من يد الجيل السابق عليه بإنتاجه المتواصل ومشروعاته المتراكبة، كان يعرف أنه ابن ثقافة تقدس نشوة الشعر وتعشق وجيز الكلمات ومأثور الحكم، وكان هو نفسه يمتلك طاقة شعرية فذة عرف كيف يوزعها بعدل على مواقفه وتقنياته وكلماته، وامتص بجذره الممتد فى عروق الأدب شعرية الكتابة وفلسفتها منذ الجاحظ حتى طه حسين، والتمس غذاءه المبكر فى أغوار الآثار الفرعونية التى فتنته، فشرع فى احتضانها بوعيه الإنسانى المعاصر ورؤيته المادية العلمية للتاريخ.
ابتكر محفوظ الأسلوب الشفاف الذى لا تشعر بكيانه اللغوى ولا تصدم بجسده المجازى، فهو يذيب طيات الدهن البلاغى المتراكم فى أعطاف التعبير، ليصب نموذجا زجاجيا صافيا يشف بشكل مباشر عن الشخصيات والمواقف والنبرات والأصوات، دون أية شائبة تشعرك بجسمها الحامل لهذه السوائل الملونة، فيعيد تشكيل العبارات العامية بترتيب نحوى بسيط يدخلها منظومة اللغة العربية الموحدة، القادرة على التوصيل بكفاءة عالية وإنكار واضح للذات.
تحول نجيب محفوظ فى أعماله التالية للمرحلة الواقعية وهو ابن الثقافة العربية المفعمة بعبق الشعر والتكوينات البلاغية الساحرة إلى صياغة أسلوب ثالث مختلف عن تجاربه السابقة فى الأسلوبين الفخيم والشفيف، عندما أخذ ينقش شعريته الخاصة فى لون من الأرابيسك المكثف المتميز، بلغ ذروة إتقانه فى درته الكبرى الحرافيش، التى لم يكتف فيها بإعادة اكتشاف شعرية اللغة العربية، بل غازل أسرار الشعر الفارسى المنشد فى التكايا، لإضفاء مسحة صوفية رائقة على المواقف المصورة، وصولا إلى المرحلة الرابعة فى أسلوب محفوظ وهى الأخيرة عمليا، والخلاصة المقطرة لعتاقة تجربته الجمالية فى اللغة، فهى المرحلة الماسية لا لأنه كان قد بلغ فيها ثلاثة أرباع قرن من الزمان فى عمر كتابته فحسب، ولكن؛ لأنها تتوهج بتلك القطع الفريدة النادرة، المفعمة بالحكمة والإشارات الرمزية والألوان الباهرة المتعددة، التى أصبحت فيها الكأس جسد الفن الثمين وقيمته الغالية بأكثر مما يتراءى فيها من شراب. ويتجلى ذلك فى «أحلام فترة النقاهة» وأصداء السيرة الذاتية، التى سكب فيها عصارة خبرته المتجوهرة، وكما تكون اللآلئ نتيجة عبقرية لفعل الزمن، حتى فى محنه العظمى، وتفاعل المواد وتراكم الوعى الجمالى بإيقاعات الحياة واللغة، فإن محفوظ فى هذا التبلور الفائق قد عبر طبقات اللغة المصرية جيولوجيا، منذ عصر الفراعنة والعروبة حتى العصر الحديث، ليعكس فيها نضرة الروح ونعيم الفن الجميل.
وجدى الكومى: كثيرون يثيرون الضجيج.. قليلون يعيش إبداعهم
من حسن حظنا كقراء مصريين وكمحبى للكتابة أن يعاد اكتشاف عمل عظيم للمبدع الكبير الراحل نجيب محفوظ أقصد هنا اكتشاف باقى العمل العظيم الذى صدر بالفعل قبل رحيله والذى جاء فى شكل ومضات قصيرة، تلغرافية، تدق فى هدوء وحزم فى آن على قالب السرعة والتكثيف الأدبى، والإيجاز المطلوب، وتحقق المشهدية الأدبية، وتختصر رؤى فى كلمة، الأحلام واحدة من إنجازات نجيب محفوظ الكبرى فى فن السرد، والتى كتبها فى السنوات الأخيرة من حياته، وأن تكتشف ابنتاه الآن أكثر من مائتين وخمسين حلما كتبهم الراحل، ولم يتم جمعها فى كتاب، فهذا أقل ما يوصف بأنه كنز أدبى خالص.
تتمثل أهمية هذه الأحلام أيضا فى ظل ما يشيع الآن فى عصرنا من بدع سردية جديدة، فيتحدث أحدهم عن القصة الشاعرة، ويتحدث البعض الآخر عن القصة الومضة، ويتحدث البعض الثالث عن القصة القصيرة جدا، ما أكثر الضجيج، الذى يثيره الكثيرون، يتحدثون، يكثرون من الصخب، حول ما يكتبون، وربما لا يكتبون، بقدر ما يثيرون الصخب، يعيش نجيب محفوظ بقلمه، رغم رحيله عن عالمنا منذ أكثر من عشرة أعوام، تهدينا الأحلام الجديدة كنزا أدبيا، يجعلنا نقف فى أماكننا، ونرى كيف كان يبدع الراحل الكبير، تجعلنا نتمرد على ذواتنا المتضخمة ونبحث جيدا، عن أدوات جديدة، يعلمنا نجيب محفوظ دروسه، يمنحنا العبثية فى قالب الأحلام، يتهكم من واقعنا بإثبات أنه مكرر معاد، وأننا نرتكب نفس الأخطاء التى ارتكبتها أجيال سابقة، يعبر نجيب محفوظ عن افتقادنا للأمان المجتمعى، يعبر عن النزوات، والهفوات التى نرتكبها، عن أمنيات مكبوتة، عن رغبات فى التذكر، وعن الحنين لأصدقاء رحلوا، ولجلسات عائلية حميمة.
تحقق هذه الكتابة البديعة أمنيات أى كاتب فى أن يقول القليل، معبرا عن الكثير، تحقق هذه الكتابة البديعة أبلغ رد لمثيرى الضجيج حول أدب الكبير الراحل، الذى استقبل نقدهم اللاذع له بابتسامة صافية، وضحكة أطفال.
لعل اكتشاف الأحلام وصدورها بسرعة أروع احتفال نستهل به ذكرى رحيله التاسعة (30 أغسطس 2006)، فلنحتفل بالراحل الكبير، الذى علمنا الكتابة.
اقرأ أيضا
كبار الكُتّاب يتحدثون عن «أحلام فترة النقاهة» للأديب العالمى نجيب محفوظ (1)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.