ترامب: لقاء بوتين وزيلينسكي في مرحلة التخطيط حاليا    الإليزيه: ربط الاعتراف بفلسطين بمعاداة السامية مغالطة خطيرة    إدانة أممية: إسرائيل تقوّض العمل الإنساني وتقتل 181 إغاثيًا في غزة    اتحاد الكرة مهنئا محمد صلاح: إنجاز لم يتحقق من قبل    تأجيل الجمعية العمومية لشعبة المحررين الاقتصاديين ل26 أغسطس    ارتفاع الصادرات المصرية بنسبة 22% في النصف الأول من 2025    احتلال غزة، استعدادات عسكرية إسرائيلية واسعة واستدعاء 50 ألف جندي احتياط    محافظ دمياط يترأس اجتماع لجنة اختيار القيادات    3 قرارات غريبة، بيراميدز يفتح النار على التحكيم بعد التعادل مع المصري    والدة شيماء جمال بعد إعدام القاضي أيمن حجاج وشريكه: كدا أقدر آخد عزاها وهدبح عجل    شديد الحرارة، الأرصاد تعلن حالة الطقس اليوم الأربعاء    ب 3 رصاصات غادرة، نهاية مأساوية ل "ملكة نيويورك" عن عمر يناهز 33 عاما (صور)    أكلة لذيذة واقتصادية، طريقة عمل كفتة الأرز    بالزغاريد والدموع.. والدة شيماء جمال تعلن موعد العزاء.. وتؤكد: ربنا رجعلها حقها    تنفيذ حكم الإعدام فى قتلة الإعلامية شيماء جمال.. والأسرة تعلن موعد العزاء    ترامب: لقاء بوتين وزيلينسكي في مرحلة التخطيط حاليا    بعد الإسماعيلي.. بيراميدز منتقدا التحكيم: 4 حالات طرد فى 3 مباريات فقط بالدورى    الإسماعيلي: لن نصمت على أخطاء الحكام تجاهنا    الداخلية: شائعة الإخوان بفيديو مفبرك محاولة يائسة لضرب الاستقرار    المقاولون العرب يهنئ محمد صلاح    1 سبتمر.. اختبار حاصلى الثانوية العامة السعودية للالتحاق بالجامعات الحكومية    راحة سلبية للاعبي المصري قبل الاستعداد لمواجهة حرس الحدود بالدوري    هشام يكن: محمد صلاح لاعب كبير.. ومنحته فرصته الأولى مع منتخب الناشئين    موعد مباراة منتخب مصر أمام الكاميرون في ربع نهائي الأفروباسكت    نقابة الصحفيين تعلن المرشحون للفوز بجائزة محمد عيسى الشرقاوي «للتغطية الخارجية»    «كنت بفرح بالهدايا زي الأطفال».. أنوسة كوتة تستعيد ذكريات زوجها الراحل محمد رحيم في عيد ميلاده    ملخص وأهداف مباراة الريال ضد أوساسونا فى الدوري الإسباني    أسعار الفراخ البيضاء والبلدي وكرتونة البيض بالأسواق اليوم الأربعاء 20 أغسطس 2025    تخريج دفعة جديدة من دبلومة العلوم اللاهوتية والكنسية بإكليريكية الإسكندرية بيد قداسة البابا    تنفيذ حكم الإعدام في قاتل المذيعة شيماء جمال وشريكه    عاجل.. تنفيذ حكم الإعدام بحق قاتل الإعلامية شيماء جمال وشريكه بعد تأييد النقض    «تصرف غريب ورفيق جديد».. كيف ظهر يورتشيتش من مدرجات بيراميدز والمصري؟    حملة مسائية بحي عتاقة لإزالة الإشغالات وفتح السيولة المرورية بشوارع السويس.. صور    «مصنوعة خصيصًا لها».. هدية فاخرة ل«الدكتورة يومي» من زوجها الملياردير تثير تفاعلًا (فيديو)    «بعملك غنوة مخصوص».. مصطفى قمر في أحدث ظهور مع عمرو دياب    شاهد.. رد فعل فتاة في أمريكا تتذوق طعم «العيش البلدي المصري» لأول مرة    بعيدًا عن الشائعات.. محمود سعد يطمئن جمهور أنغام على حالتها الصحية    هشام يكن: أنا أول من ضم محمد صلاح لمنتخب مصر لأنه لاعب كبير    رئيس وكالة «جايكا» اليابانية مع انعقاد قمة «التيكاد»: إفريقيا ذات تنوع وفرص غير عادية    السيطرة على حريق بأسطح منازل بمدينة الأقصر وإصابة 6 مواطنين باختناقات طفيفة    رسميا الآن بعد الارتفاع.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 20 أغسطس 2025    حدث بالفن| سرقة فنانة ورقص منى زكي وأحمد حلمي وتعليق دينا الشربيني على توقف فيلمها مع كريم محمود عبدالعزيز    صيانة وتشجير قبل انطلاق العام الدراسي الجديد.. الشرقية ترفع شعار الانضباط والجمال    رجال الإطفاء بين الشجاعة والمخاطر: دراسة تكشف ارتفاع إصابتهم بأنواع محددة من السرطان    الرقابة على الصادرات: 24.5 مليار دولار قيمة صادرات مصر في النصف الأول من 2025    «الإسكان» توضح أسباب سحب الأرض المخصصة لنادي الزمالك    تحتوي على مواد مسرطنة، خبيرة تغذية تكشف أضرار النودلز (فيديو)    رئيس الرقابة على الصادرات: معمل اختبار الطفايات المصري الثالث عالميا بقدرات فريدة    هل الكلام أثناء الوضوء يبطله؟.. أمين الفتوى يجيب    تعدّى على أبيه دفاعاً عن أمه.. والأم تسأل عن الحكم وأمين الفتوى يرد    كيف تعرف أن الله يحبك؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    أمين الفتوى ل الستات مايعرفوش يكدبوا: لا توجد صداقة بين الرجل والمرأة.. فيديو    4374 فُرصة عمل جديدة في 12 محافظة بحد أدنى 7 آلاف جنيه    الشيخ خالد الجندى: افعلوا هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله    وكيل تعليم بالأقصر يتفقد التدريب العملي لطلاب الثانوية الفندقية على أساسيات المطبخ الإيطالي    بالصور- وزير العدل يفتتح مبنى محكمة الأسرة بكفر الدوار    بالصور- افتتاح مقر التأمين الصحي بواحة بلاط في الوادي الجديد    «100 يوم صحة» تقدم 52.9 مليون خدمة طبية مجانية خلال 34 يومًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتّاب: «أحلام فترة النقاهة» خلاصة إبداع نجيب محفوظ.. وإضافة لمسيرة السرد العربى «2»
نشر في الشروق الجديد يوم 02 - 09 - 2015

فى الحلقة السابقة نشرنا ردود أفعال على نبأ استعداد «الشروق» نشر جزء ثان من «أحلام فترة النقاهة»، وبخاصة نشر خطاب د. يحيى الرخاوى للمهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق، والذى شكر فيه المعلم قائلا: «شكرا، واحتراما، وتحية، ودعاء، جزاكم الله عن شيخنا، ومصر، والثقافة خيرا. تقديرا لثقتكم الغالية، وبعد نشر التحقيق المهم المنشور فى جريدة الشروق عن هذا العمل المهم «أحلام فترة النقاهة»، وخصوصا ما جاء فيه على لسان الحاج صبرى، أكرمه الله، قمت بما شرفت بتكليفى به وقرأت العمل قيد الطبع، وحمدت الله، وأشكركم مرة أخرى على هذه الثقة، وهذه الفرصة». وفى السطور التالية ننشر بقية آراء الكتاب والأدباء حول «أحلام فترة النقاهة»: د. شاكر عبدالحميد، زير الثقافة الأسبق، والناقد الكبير د. صلاح فضل، والروائى إبراهيم فرغلى، والكاتب الشاب وجدى الكومى.
شاكر عبدالحميد: الأحلام حكمة إبداعية بديعة لكل ما كتبه محفوظ
فى أحلامنا فقط نكون صادقين. هذا ما قاله الفيلسوف الألمانى «نيتشه»، أما جلجامش فيطالب فى أسطورته الجبل أن يأتى لصديقه «إنكيدو» بحلم مطمئن فيقول له: «يا أيها الجبل يا موطن الإلهة أرسل حلما لإنكيدو، أبعث إليه بحلم مطمئن». وفى سياق آخر يقول «نينورتا» إله الآبار فى هذه الأسطورة: «ثم أنى لم أفش سر الإلهة، فقد عرفه الرجل الحكيم فى الحلم»..
هكذا كان نجيب محفوظ، فيما أعتقد، يبحث خلال فترة النقاهة، عن حلم مطمئن؛ حلم مطمئن له ولوطنه، كما أنه كان قد وصل إلى أعلى مراتب الإبداع والشهرة وتحقيق الذات والحكمة. وهكذا كانت أحلامه هذه تسعى وراء طمأنينة مفتقدة، وتجسد أيضا حكمة راسخة تراكمت لديه فى وعيه ووجدانه عبر كثير من الخبرات والسنين والكتابات.
فطالما اهتم محفوظ فى عمله بالملاحظة والإدراك والالتقاط والتحليل والرصد والتجسيد للجوانب الخفية من النفس البشرية.
وقد أدرك محفوظ ذلك ورصده هذا علماء ونقاد بارزون منهم، تمثيلا لا حصرا: يحيى الرخاوى، عز الدين إسماعيل، فرج أحمد فرج، وإبراهيم فتحى، وغيرهم.
كما أن الكثير من عناوين محفوظ تعكس هذا الولع لديه بالجانب الخفى من النفس البشرية، ومنها تمثيلا لا حصرا: همس الجنون، السراب، المرايا، رأيت فيما يرى النائم.
الحلم بشكل عام قد يمثل ذاكرة للنهار تتجلى خلال الليل، هذا رأى «فرويد». وعند يونج الحلم أداة للتنبؤ بالمستقبل، والحلم كذلك أسلوب مواجهة لأوجاع الحياة وأمراضها. ووسيلة أيضا للنقاهة من هذه الأوجاع والأمراض.
وقد عكست «أصداء السيرة الذاتية» هذه الوظائف الثلاثة للحلم: ذاكرة الماضى، والتنبؤ بالمستقبل، وأسلوب مواجهة للأوجاع والأمراض.
وفى هذا السياق أتوقع ايضا أن يكون الترحيب والفرح والاحتفاء كبيرا من القراء عامة والنقاد والدارسين ايضا بصدور الجزء الثانى ل «أحلام فترة النقاهة» عن دار الشروق فى زمن أصبح فيه الولع بنجيب محفوظ، وكل ما يمثله علامة مميزة للمزاج المصرى ونموذجا وقدوة تدعو إلى الفخر لدى كثير من المصريين والعرب أيضا.
فى هذه الأحلام يقدم لنا نجيب محفوظ عالما موازيا رمزيا ليليا لعالم الحياة النهارية الحالية والماضية الخاصة به وبالآخرين؛ لحياته وذكرياته وأمنياته وعلاقاته ورغباته وإحباطاته وأفراحه وأحزانه. وفى هذه الأحلام نجد تداخل الأمكنة والأزمنة والبشر والانفعالات والذكريات ونجد عالما خصبا يموج بالحركة، فنجد وسائل نقل: الترام والدراجات والقطارات والطائرات والسفن، وكذلك الحركة الخاصة بالراوى أو السارد من خلال المشى فى الشوارع أو عبر الأحلام. فى أحد الأحلام الذات تعبر عن رغبتها فى الطيران من السعادة بلا أجنحة، ونجد الأماكن والمكاتب والقصور وغرف المستشفيات. ومن بين هذه الأماكن يبرز البيت وتبرز الرغبة فى العودة إليه فى كثير من الأحلام، حيث نجد هنا رغبة غلابة متكررة دائمة البحث عن البيت الأليف والمألوف الذى يبعث الشعور بالطمأنينة ورغبة أيضا مصاحبة فى الابتعاد عن تلك البيوت المخيفة الموحشة غير المألوفة أو الأليفة. وهنا البيت يرتبط رمزيا بوطن آمن مستقر لا ذلك الوطن الذى يتصارع فيه الجميع عليه حتى يتحول إلى ما يشبه الجثة الهامدة أو الهيكل العظمى.
وهكذا نجد فى أحلام كثيرة لدى محفوظ بيوتا تخلو من البشر والحركة والحميمية لكنها تزخر أيضا بالذكريات والأمنيات والرغبات. وترتبط الأماكن فى الأحلام أيضا بالانفعالات ومنها تمثيلا لا حصرا: انفعالات القلق والحزن والحيرة والضيق والشرود الذى يتحول إلى حسرة ورعب شامل.
نادرا ما تكون الذات موجودة فى الأحلام بمفردها، وإنما ثمة آخر: الحبيبة الجميلة الغائبة والتى غالبا ما تكون قد ماتت، وهناك الأم والأصدقاء والمعلمون وأفراد الأسرة وبعض الزعماء» خاصة سعد زغلول ومصطفى النحاس، وبعض النقاد.
وهناك رغبة مستمرة فى العودة إلى مرحلة الشباب والقوة والماضى والأمن النسبى فى مواجهة حالات الشك والحيرة والالتباس وغياب اليقين بشكل عام. الأب غائب تقريبا فى الأحلام، أما الأم فحاضرة فى أكثر من حلم. وغياب الأب قد يرتبط بغياب السلطة أو القيد أو الرقابة أو الحماية والطمأنينة بشكل عام فى حياة اليقظة. هناك اختفاء لشخصيات وظهورهم مرة أخرى، وعودة الموتى لتصحيح أخطاء ارتكبوها أو أرتكبها غيرهم. هذه ليس مجرد أحلام فقط بل فيها كوابيس فترة النقاهة أيضا، هناك موت وخوف وقلق، وبيوت تحترق وجرائم وحيوانات متوحشة وفزع ليلى. بنية الأحلام متماسكة ونهايتها مفتوحة غير مغلقة لكنها تقبل تأويلات عدة، حالات من الترقب والارهاص الخفى بما قد يكون موشكا على الحدوث بشكل عام، فهى تعكس حالة من البحث عن حلم مطمئن للناس جميعا ولكل المجتمع المصرى، وتجسد أيضا حكمة إبداعية جميلة لكل إبداعات محفوظ وأحلامه بشكل خاص.
إبراهيم فرغلى: نجيب محفوظ لا ينتهى!
أحلام فترة النقاهة فى تقديرى هى واحدة من أهم النصوص فى الأدب العربى المعاصر، لأنها بقدر ما تبدو نصوصا تخييلية على تخوم الأساطير والحكمة والعجائبية، فإنها تبصر الواقع وتراه بشكل يكشف مدى قوة البصيرة التى يمتلكها نجيب محفوظ. ففى هذه النصوص المكثفة المتوازنة بدقة بين مضمونها ودلالاتها، يبدو أنه يتغول فى غابات خياله بعيدا إلى ذكريات الطفولة والصبا فيما هو يغزل لنا ممرا سرديا بديعا بين رؤاه وبين حيواتنا نحن، لكى نرى بها واقعنا.
انظر مثلا ما يقوله عم نجيب فى واحدة من أحلامه:
«الشارع الجانبى لا يخلو من مارة وأناس فى الشرفات، والسيدة تسير على مهل، وتقف أحيانا أمام معارض الأزياء. يتعرض لها أربعة شبان دون العشرين، تتجهم فى وجوههم وتبتعد عن طريقهم، ينقضون عليها ويعبثون بها، تقاوم والناس تتفرج دون أى مبادرة. الشبان يمزقون ثوبها ويعرون أجزاء من جسدها. السيدة تصوت مستغيثة. راقبت ما حدث، فتوقفت عن السير، وملكنى الارتياع والاشمئزاز، وودت أن أفعل شيئا أو أن يفعله غيرى، ولكن لم يحدث شىء. وبعد أن تمت المأساة وفر الجناة، جاءت الشرطة، وتغير المكان، فوجدت نفسى مع آخرين أمام مكتب الضابط، واتفقت أقوالنا. ولما سئلنا عما فعلناه كان الجواب بالسلب، وشعرت بخجل وقهر، وكانت يدى ترتجف وهى توقع بالإمضاء على المحضر».
كأنه شهد معنا الوقائع المخزية التى صحبت الثورة وربما قبلها وصولا لما يحدث اليوم من وقائع تحرش مخزية بالمرأة المصرية تعبر عن حال من البؤس النفسى والانحطاط (لا يوجد وصف آخر لفعل التحرش بالمناسبة)، الذى بلغه قطاع لا يستهان به ممن يطلق عليهم رجال أو شباب فى مصر. كأن محفوظ يعرف أن سلبية الشعب المصرى أمام مسئولياته تجاه نفسه وشرفه وحقه لا يمكن إلا أن تسفر عن وقائع انتهاك كهذه.
وصحيح أنه تم الاحتفاء بالأحلام عبر نشرها مسلسلة مطولا فى نصف الدنيا والكتابة الاحتفائية عنها بعد نشرها فى كتب، لكنى لا أظن أن هناك دراسة نقدية موضوعية خاضت فيها بشكل عميق يتناسب مع أهميتها. وأظن أن دراسات من هذا النوع ستكون قادرة على كشف الكثير من حيث المضمون والدلالات الرمزية من جهة، ومن حيث الأسلوب أيضا خصوصا وأننى فهمت أن عم صبرى الذى كان الأستاذ نجيب يقوم بإملائه هذه النصوص بعد أن فقد القدرة على الكتابة يقول إن محفوظ كان يحفظها ثم يمليها عليه.
بالتالى فإن قرار الشروق نشر مجموعة الأحلام الجديدة، خبر جيد، لأنه بالإضافة لأنه سيضم نصوصا جديدة من المهم أن يطلع القارئ المصرى والعربى عليها خصوصا أن الأستاذ نجيب كان قد أعدها للنشر، فإنه قد يكون فرصة جيدة لاهتمام النقاد بدراسة هذه النصوص بشكل فيه من الجدية ما يتناسب مع جدتها وإضافتها لمسيرة السرد العربى المعاصر.
الصديق سيد محمود رئيس تحرير صحيفة القاهرة قال لى مرة ونحن نتحدث عن سيدة الغناء العربى أم كلثوم إنها لا تنتهى، وأنا بدورى أقول إن نجيب محفوظ لا ينتهى، ليس لأن أعماله لم تقر أجيدا رغم كل هذا الصخب والضجيج، بل لأن جيلا جديدا واعدا سوف يقرأها بروح مختلفة ويضيف لنا دلالات جديدة لم ننتبه لها، كما أن مثل هذه النصوص الجديدة التى اكتشفت بعد ما يناهز عشرة أعوام على رحيله تأكيد آخر لأنه لا ينتهى، طابت روحه أينما كان.
صلاح فضل: محفوظ فى أحلامه سكب عصارة خبرته المتجوهرة
أسس محفوظ بعبقرية النمل الدءوب ديوان الرواية العربية وانتزع شرعيتها من يد الجيل السابق عليه بإنتاجه المتواصل ومشروعاته المتراكبة، كان يعرف أنه ابن ثقافة تقدس نشوة الشعر وتعشق وجيز الكلمات ومأثور الحكم، وكان هو نفسه يمتلك طاقة شعرية فذة عرف كيف يوزعها بعدل على مواقفه وتقنياته وكلماته، وامتص بجذره الممتد فى عروق الأدب شعرية الكتابة وفلسفتها منذ الجاحظ حتى طه حسين، والتمس غذاءه المبكر فى أغوار الآثار الفرعونية التى فتنته، فشرع فى احتضانها بوعيه الإنسانى المعاصر ورؤيته المادية العلمية للتاريخ.
ابتكر محفوظ الأسلوب الشفاف الذى لا تشعر بكيانه اللغوى ولا تصدم بجسده المجازى، فهو يذيب طيات الدهن البلاغى المتراكم فى أعطاف التعبير، ليصب نموذجا زجاجيا صافيا يشف بشكل مباشر عن الشخصيات والمواقف والنبرات والأصوات، دون أية شائبة تشعرك بجسمها الحامل لهذه السوائل الملونة، فيعيد تشكيل العبارات العامية بترتيب نحوى بسيط يدخلها منظومة اللغة العربية الموحدة، القادرة على التوصيل بكفاءة عالية وإنكار واضح للذات.
تحول نجيب محفوظ فى أعماله التالية للمرحلة الواقعية وهو ابن الثقافة العربية المفعمة بعبق الشعر والتكوينات البلاغية الساحرة إلى صياغة أسلوب ثالث مختلف عن تجاربه السابقة فى الأسلوبين الفخيم والشفيف، عندما أخذ ينقش شعريته الخاصة فى لون من الأرابيسك المكثف المتميز، بلغ ذروة إتقانه فى درته الكبرى الحرافيش، التى لم يكتف فيها بإعادة اكتشاف شعرية اللغة العربية، بل غازل أسرار الشعر الفارسى المنشد فى التكايا، لإضفاء مسحة صوفية رائقة على المواقف المصورة، وصولا إلى المرحلة الرابعة فى أسلوب محفوظ وهى الأخيرة عمليا، والخلاصة المقطرة لعتاقة تجربته الجمالية فى اللغة، فهى المرحلة الماسية لا لأنه كان قد بلغ فيها ثلاثة أرباع قرن من الزمان فى عمر كتابته فحسب، ولكن؛ لأنها تتوهج بتلك القطع الفريدة النادرة، المفعمة بالحكمة والإشارات الرمزية والألوان الباهرة المتعددة، التى أصبحت فيها الكأس جسد الفن الثمين وقيمته الغالية بأكثر مما يتراءى فيها من شراب. ويتجلى ذلك فى «أحلام فترة النقاهة» وأصداء السيرة الذاتية، التى سكب فيها عصارة خبرته المتجوهرة، وكما تكون اللآلئ نتيجة عبقرية لفعل الزمن، حتى فى محنه العظمى، وتفاعل المواد وتراكم الوعى الجمالى بإيقاعات الحياة واللغة، فإن محفوظ فى هذا التبلور الفائق قد عبر طبقات اللغة المصرية جيولوجيا، منذ عصر الفراعنة والعروبة حتى العصر الحديث، ليعكس فيها نضرة الروح ونعيم الفن الجميل.
وجدى الكومى: كثيرون يثيرون الضجيج.. قليلون يعيش إبداعهم
من حسن حظنا كقراء مصريين وكمحبى للكتابة أن يعاد اكتشاف عمل عظيم للمبدع الكبير الراحل نجيب محفوظ أقصد هنا اكتشاف باقى العمل العظيم الذى صدر بالفعل قبل رحيله والذى جاء فى شكل ومضات قصيرة، تلغرافية، تدق فى هدوء وحزم فى آن على قالب السرعة والتكثيف الأدبى، والإيجاز المطلوب، وتحقق المشهدية الأدبية، وتختصر رؤى فى كلمة، الأحلام واحدة من إنجازات نجيب محفوظ الكبرى فى فن السرد، والتى كتبها فى السنوات الأخيرة من حياته، وأن تكتشف ابنتاه الآن أكثر من مائتين وخمسين حلما كتبهم الراحل، ولم يتم جمعها فى كتاب، فهذا أقل ما يوصف بأنه كنز أدبى خالص.
تتمثل أهمية هذه الأحلام أيضا فى ظل ما يشيع الآن فى عصرنا من بدع سردية جديدة، فيتحدث أحدهم عن القصة الشاعرة، ويتحدث البعض الآخر عن القصة الومضة، ويتحدث البعض الثالث عن القصة القصيرة جدا، ما أكثر الضجيج، الذى يثيره الكثيرون، يتحدثون، يكثرون من الصخب، حول ما يكتبون، وربما لا يكتبون، بقدر ما يثيرون الصخب، يعيش نجيب محفوظ بقلمه، رغم رحيله عن عالمنا منذ أكثر من عشرة أعوام، تهدينا الأحلام الجديدة كنزا أدبيا، يجعلنا نقف فى أماكننا، ونرى كيف كان يبدع الراحل الكبير، تجعلنا نتمرد على ذواتنا المتضخمة ونبحث جيدا، عن أدوات جديدة، يعلمنا نجيب محفوظ دروسه، يمنحنا العبثية فى قالب الأحلام، يتهكم من واقعنا بإثبات أنه مكرر معاد، وأننا نرتكب نفس الأخطاء التى ارتكبتها أجيال سابقة، يعبر نجيب محفوظ عن افتقادنا للأمان المجتمعى، يعبر عن النزوات، والهفوات التى نرتكبها، عن أمنيات مكبوتة، عن رغبات فى التذكر، وعن الحنين لأصدقاء رحلوا، ولجلسات عائلية حميمة.
تحقق هذه الكتابة البديعة أمنيات أى كاتب فى أن يقول القليل، معبرا عن الكثير، تحقق هذه الكتابة البديعة أبلغ رد لمثيرى الضجيج حول أدب الكبير الراحل، الذى استقبل نقدهم اللاذع له بابتسامة صافية، وضحكة أطفال.
لعل اكتشاف الأحلام وصدورها بسرعة أروع احتفال نستهل به ذكرى رحيله التاسعة (30 أغسطس 2006)، فلنحتفل بالراحل الكبير، الذى علمنا الكتابة.
اقرأ أيضا
كبار الكُتّاب يتحدثون عن «أحلام فترة النقاهة» للأديب العالمى نجيب محفوظ (1)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.