فى روايته الثالثة «حبل الوريد» للكاتب المتميز محمد زهران، بعد «بشارة ال40» 2006 الفائزة بالجائزة الذهبية الأولى فى مسابقة مدينة الشيخ زايد عام 2009، ورواية «فارس كور 2010»، يواصل الكاتب ما بدأه فى روايته الأولى، أى تجربته المتمردة «على أصول الحكى.. على الزمان والمكان والبطل.. ذلك الثالوث المقدس الذى أودى بنا إلى التيه «على حد تعبيره، ثم مهرها بتوقيع مشترك «الكاتب/الراوى»، ليضعهما معا فى مواجهة أقرب إلى لعبة المرايا المتقابلة التى تشف وتبين عن توجهاتها الجمالية ورؤاها الفنية كفضاء حاضن للأسئلة والمناخات.لهذا رأى أن «الراوى» ذلك الكيان الهامشى الافتراضى، والذى اخترعه أجدادى الحكَّاءون العظام كحيلة فنية وهمية، ووسيلة للاتصال بين عقل متفرد متميز، وعقول جموع العامة؛بهدف تثبيت القلوب، ووأد بوادر الفتن وزيغ الأبصار.. الراوي، آن له أن يتمرد ويتحدث بصوته هو دون حاجة لوصاية منى.. هل يقوى على ممارسة دوره بعيدا عن سطوتى وتدخلى الحكيم فى رسم الصورة المثلى المتوارثة عبر الأجيال؟، وبذلك يكتشف محمد زهران حكايته وجدوى كتابتها، عبر لغة تفتح الأفق على المِلاط القائم بين اليومى والتاريخى، ليستقطر تجربته الحية ونسغها الوجودى فى المسافة الموزعة بين الصمت والكلام، أو بين الموت والحياة، لتغدو مروياته وتمثيلاته الكنائية والرمزية فى سياق لا نهائية المعيش، ولا نهائية المروىّ، لذا استحال الموت الذى يتخلل حنايا«حبل الوريد«إلى فعل صراع يزيح النقاب عن الحقائق المختبئة وراء قشرة واقعنا، وما يرين عليه من علاقات مشوشة يقيمها بين العرضى والجوهرى.. غير أنه لا ينى يحرس ذكرياته.. وأزمنة الحلم والتاريخ، واستنطاق عوالمهم، وما حملته من أحداث ورؤى؛ بغية الحفاظ على سيرورة تواصلية حقيقية. لهذا حفلت لغته بالدلالات والصور الشعرية المرهفة.تبدأ الرواية بإهداء يقول:«إلى قبلة الحياة«زينب«.. من منحتنى رغبة الصراع من أجل البقاء، بعد عملية جراحية كنتُ فيها أقرب للموت من الحياة.. ما أعيشه من عمر إضافى يرجع لسر نفحتك المقدسة». فى إشارة جليَّة إلى طبيعة الدور المحورى الذى نهضت به الزوجة الحبيبة تجاه شريك حياتها، فى محنته الصحية التى ألمَّت به، وأفضت إلى استئصال الكُلى، لكنها استطاعت بصمودها وصبرها ومؤازرتها، بعث الحياة والأمل فى نفسه، وهو ما تؤكده صفحات الرواية وتثمِّنه فى غير موضع ومكان من قبيل: «أجمل ما يجذبنى لزينب هو توافق أذواقنا وتقاربنا العمرى.. شاهدنا نفس الأفلام والبرامج التليفزيونية.. استمعنا لنفس الأغاني؛ فأرانا على توافق فيما نَحِنُّ إليه ونسترجعه من أفلام ومسلسلات وأغنيات جيلنا»، بعد أن تعرف إليها فى معهد السينما، الذى التحق به بعد أن رفض العمل معيدا بكلية الخدمة الاجتماعية بالفيوم، وتراجع عن فكرة الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، وجمعهما معا حب التمثيل، لكنه قرأ فى عينيْها«حالة فطرية وتلقائية ومدهشة»، دفعته إلى الارتباط بها، على الرغم من ظروفهما المادية المتعثرة، وبذلك يحتفى الراوى بزينب حفاوته بالحياة، فيخلق منها أسراباً مدهشة، وصوراً مجنحة.. أى عالما حراً، ودنيا شاسعة، ولغة نبيهة بلا حدود، بعد أن استطاعت أن تخلق بداخله «الصراع من أجل البقاء»، مرددة جملتها المعتادة «وقت الانتكاسات: الحياة إرادة». ألم يقلْ نقاد«فلوبير» إن «مدام بوفارى» هى الكاتب/نفسه، أو الوجه الآخر له الذى لا يعرفه الناس؟ ثم أردف الإهداء برباعية لشاعرنا الكبير الرائد «صلاح جاهين»، تتمحور حول علاقة الآنية بالزمانية، وما ينطوى عليه وجودنا من صراع مع الموت المحايث لحياتنا، من خلال محاولات الإنسانية الدءوب فهم معضلة الأبدية وفك طلاسمها، بوساطة مخيالها الجمعى. «خرج ابن آدم م العدم قلت يا ا ا ه/رجع ابن آدم للعدم قلت يا ا ا ه/تراب بيحيا وحى بيصير تراب/الأصل هو الموت ولا الحياة؟»، وهنا نتوقف عند تجربة الموت التى صاحبت رحلة الراوى، وأوقفته على الشواطئ التى تحدث عنها«هاملت» عندما قال: إن أحدا لا يعود منها، وجعلته يعايش الموت فى صراعه مع الحياة التى يهددها الموت، الذى يقبع تحت جلودنا، وهو ما عبَّر عنه الراوى بقوله: «الموت يسيطر علىّ منذ طفولتى خاصة عند حلول الليل، أما بعد العملية فأصبح هو المسيطر ليل نهار.. ومع الاستيقاظ ومرور يوم أتساءل: هل سأعيش لتشرق علىّ شمس يوم آخر. مع كل وجبة ومشروب أو خروج، أعتبر أن هذه هى المرة الأخيرة»، حتى إن المحيطين به، راحوا يرددون سؤالهم السخيف إثر إجرائه عملية استئصال الكُلى:«هُوَّ فيه حد يقدر يعيش من غير كُليتين؟! وكانت إجابتى المتكررة الضجرة مع الابتسامة البلهاء التى ترتسم على وجهى: مانا قدامكو أهو، لهذا كما احتاج «جوزيف كونراد» فى روايته «لورد جيم» إلى الراوى الخاص به الذى يمثل همزة الوصل بين«جيم» الغامض، وبين القارئ المتحير، فإن راوى رواية «حبل الوريد» يتولى طرح أسئلته الخاصة، وفتح نافذة على واقعه بغية تحويله، وجعله فى حالة تجاوز دائم لمعطياته، وكأنى به يردد مع الفيلسوف اليونانى القديم«أبيقور»:«إذا كنا لا يكون الموت، وإذا كان الموت لا نكون». الأمر الذى جعله، ربما، يستدعى المأساة، ويكشف عن عمق الأزمة المفتوحة على الزمن والتاريخ، فى إحالتها ميتافيزيقا الحضور الإنسانى فى العالم إلى مركز مرجعى ثابت غدا ميكانيزم كبح، وجدارا يحجب الكينونة فى صورتها الأولى؛بفضل الهوَّة القائمة بين الوجود والموجود.لذا جرى تقسيم الرواية إلى صورة أولى، وتاريخيْن رئيسيْن هما: 5 يناير 2013، أى بين الإعلان فى جريدة الجمهورية عن طلب متبرع بينه وبين مريضنا توافق أنسجة، فى الوقت الذى عاود فيه «مرض بهجت «الظهور بمتاعبه وآلامه الرهيبة، ووصفة د.حسن عبدالعال استشارى الجلدية الناجعة لإلزامه حدَّه، وبين24 يناير 2013، أى بين توقعاته وتوجساته مما يمكن أن تئول إليه التطورات السياسية المصرية، التى نجمت عن ثورة 25 يناير 2011، باستثناء بعض التظاهرات التى لا ترقى إلى مستوى «ثورة جديدة؛ فالمجتمعات لا تقوم بثورات كل يوم»، ومن ثم مراوحة حياته بين برامج التوك شو وزينب واللاب توب، لتدورحولهما فصول سبعة تبدأ من 2 إلى 8، موزعة بين كتبه وكراسات يومياته ذات الورق الأصفر وألبومات صوره القديمة، الحاملة الحلم والوعى والرغبات والذكريات والأشياء الصغيرة والأصدقاء، وكأن الراوى العليم يتقمص دور الباحث المتأمل الذى يرصد ويدوِّن ما يدور ويحدث من حوله، متوسلاً بنية حكائية تعيِّن ما تحدسه البصيرة، ولا يلمحه البصر، وفق ما يذهب إليه الراوى: «تنتابنى الغصة عندما أتذكر أنه سيأتى يوم لا أصحو فيه ثانية، ولا أتناول الإفطار والعصير، وبعدهما القهوة.أتابع أخبار الصباح فى التليفزيون والصحف، وأقود سيارتى للتليفزيون، وأقابل الأصدقاء وزملاء الغسيل بالمستشفى ومشاكساتى ومداعباتى لزينب ولحماتى والفسح والسهرات ولعبة الجنس، وتتابعات ما بها من نجاح وإخفاق، والجلوس أمام التليفزيون والدردشة على اللاب»، ثم تخايله أطياف الرؤى ومظاهر الحياة وسجالاتها ومآلاتها؛ فيتذكر محاورات سقراط لتلاميذه ونقاشهم عن الروح بعد فناء الجسد، والكلمة الدالة التى تمَّ فيها تشبيه الروح والجسد بشمعة: أين ذهب الضوء الذى يمثل الروح؟ إنه بكل بساطة تلاشَى فى الفراغ الكونى.. لِمَ هذه الحياة إذن طالما نهايتها التلاشِى، حتى لو كانت هناك روح ستبقى؛فمتعة الحياة فى هذه المتع الحسية الملموسة؟». وهنا يلجأ الراوى إلى بعض التمثلات الخاصة بما يعنيه الدين لنا كذريعة لمساءلته؛ ومن ثَمَّ صيرورته ودلالته، فيستعيد صورته طفلا تخايله صورة الله، وما تطبعه على مخيلته من تحقق وتجلٍّ بوصفه تصورا للحقيقة والمكوث فيها والاكتفاء بها.أما صورة الملائكة فقد جاءوا أقوياء فى لون «عنترة بن شداد»، فهل تخصيص قناع للإله بطريقة ما، ملازم لظهور البطل التراجيدى وإلباسه شكلاً درامياً كما قال «نيتشه» أم هى المتعة الأولية التى تذكِّر بالقوة التى تشكِّل العالم، والتى قارنها«هيراقليطس«يوما بطفل يُكدِّس أكواما من الرمل على شاطئ البحر «يُعليها ثم يَهدمها»، ثم يُعيد لعبته إلى ما لا نهاية؟ يقول الراوى: «كان الطفل بفطرية مدهشة يُدرك منذ زمن بعيد، أن نهاية الرحلة عدم، فماذا سيفعل الإله بكل هذه الأرواح التى سيجمعها عنده، وحوله كل هؤلاء الملائكة الأشداء؟»، ثم يضيف: الولد الذى يحب الحلويات وأمه ومشاهدة التليفزيون، يصعب عليه أن يتحول يوما لعدم.». لكن الراوى هنا لا يصدر عن عدمية تدفعه إلى القنوط والابتئاس، ولكنه يعبر عن شك متبادل بينه وبين محيطه الإنسانى والفيزيائى، مناقشا علاقة الحياة بالحياة، رائيا أن المعاناة هى العنصر الإيجابى فى هذا العالم، بل هى الرابط الوحيد بين هذا العالم وبين الإيجابي، وهنا فحسب تكون المعاناة معاناة! وعلى هذا النحو، يُحيلنا عنوان الرواية «حبل الوريد» المأخوذ من الآية 16، فى سورة«ق»، إلى الحياة. لذا يضرب به المثل فى القرب؛ فأقرب شىء إلى قلبك هو حبل الوريد، وأقرب من كل شىء فيه الحياة هما الوريدان (عن يمين وشمال). لذلك رأى «القرطبى» فى تفسيره، أن الحبل هو الوريد، وقد أضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين، وهذا تمثيل للقرب، أى نحن أقرب إليه من حبل وريده الذى هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. من هنا ظل الراوى «اللا مسمى» قناعا معلنا لمواجهة مستمرة مع المجهول الذى يحيط بالحقيقة باستمرار؛ لتأخذ علاقته بالمرض، علاقة التطهير بالمقاومة التى تُخرج جسده من سديم الموت، إلى لحظة دينامية وجودية، أو تُحيله إلى رعشة روحية تستنطق اللاوعى، مزاوجة بين المخبوء والدافعية فى إطار الوعى والاختيار؛ مما أتاح له تنويع أصوات السرد، وزوايا رؤية ماهية العلاقة التى ربطته برفاق رحلة حياته وآماله ونجاحاته وانكساراته: زينب ومنال وشهدى وريهام وحسين، وسمير، ومن ثَمَّ بالحياة فى صراعها مع الواقع المسيطر وشيئيته، وما لهذا من أثر فى استقراء الأواصر القائمة بين التجربة الفعلية والتجربة الأدبية، بعد أن استحالت إلى حكاية جمعت فى إهابها بين الحلم والحياة.. الذكريات والمشاهدات.. الثورة والحرية، عبرالمخاطرة بالحياة، بالنزول إلى الشارع أملا فى المشاركة فى اعتصام ميدان التحرير، لتحرير الموت من عاديته، ليمسى عنصرا مكونا لو عينا بالذات، وتمردا على النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى والأخلاقى السائد، واحتجاجا على فكرة المعيارية ذاتها، أو بتعبير الراوى نفسه: «ما زلنا نعيش بدائية الإنسان الأول ذى الدورة الحياتية التى لا تتجاوز الأربعين، بعدها يبدأ التأهيل للقبر، وانتظار دور الفناء». وقد نجا نص الكاتب القدير محمد زهران من الترهل والثرثرة؛ بقدرته على التأليف بين التفاصيل، وإضفاء معنى إنسانى كاشف عليها، والتقاط المفارقة، وروح الفكاهة السوداء اللتيْن تتخللان الموقف الفنى بتناقضاتهما الظاهرية الناعمة، والبنية المتوازنة، واللغة السلسة المتدفقة التى تمزج بين الفصحى والعامية وفاء بمقتضيات السرد والصوغ والإيحاء، متخلصا من عبء المسافة المتوهمة بين الذات والعالم الموضوعى، فبقى مشدودا طوال الوقت إلى روح المجازفة والمخاطرة فى علاقته بالحياة. لذا ظل الراوى «الولد ابن تمنتاشر الوفى لحلمه القديم، الرافض رفضا قاطعا فكرة الموت»، مضيفا: سيموت كل الناس، وسيأتى الأمر عنده، وستحدث له معجزة فلا يموت». وَلِمَ لا؟ وهو المؤمن إيمانا راسخا بأن هناك الكثير الذى يستحق أن نعيش من أجله، وسأصارع من أجل البقاء لأحقق لزينب كل أحلامها.