أمشى مسحورا فى شوارعك فى هذا الصباح البارد. تدوخنى رائحة هوائك المسحور بالقهوة والكرواسون. تماما كفئران الرسوم المتحركة المتتبعة بلا إرادة لقطعة جبن فى المصيدة. وكالعادة لم أعلم لماذا يصيبنى الهواء المنعش المعزوف على أوتار القهوة والعجين بالبكاء. تتساقط دموعى رغما عنّى بلا شجن ولا حنين لشيء. فى البداية كان ذلك يزعجنى بشدة. أحد أصدقائى همس لى فى صباح مماثل عندما باغتنى عَرض الدموع الصباحية هذا، بأننى أعانى من متلازمة باريس الصباحية. مرض يصاب به عشاق المدينة ندما على أنهم لم يولدوا أبدا فيها. قالها لى الصديق المغاربى وهو يكفكف بظهر يده دموعه معتذرا. وفى هذا الصباح الباريسى البارد وقفت محتارا أمام أبواب المقاهى المقفلة على البهجة. محاولا المفاضلة بين أنسبها لصباح سعيد. لتحسم تردّدى يد بيضاء شمعية ومبهرة تتأبط ذراعى وتدخلنى إلى المقهى التى أقف على بابها مباشرة. شقراء فرنسية تشلنى رائحة عطرها الباريسى القوية. فأنقاد بلا مقاومة. قلبى ينبض بعنف وعيناى زائغتان من الدهشة. لتجلسنى مباشرة إلى الطاولة الأقرب من الباب. وتصمت لفترة سامحة لى بمشاهدة جمالها الملائكى. كل شيء فى الوجه العجيب مرسوم بفتنة. كأنها تمثال الجمال الكامل الذى يضيء كالشمس، فيختفى ليل قبح العالم كله فى ظلّ ابتسامتها. وبدون أن أدرك عازف الأكورديون المتجول. الذى وقف بجوارنا عازفا لحنا رومنسيا، ليعطى للموقف الأسطورى فانتزيته المطلوبة، وضع النادل بتأنق شديد القهوة أمامنا منحنيا ومتمتما «نهار سعيد يا سيدتى الجميلة، نهار سعيد أيها السيد». وللمرة الأولى تصدر عن فتاتى العشرينية حركة ما. فتحت حقيبة يدها الفاتنة مثلها وسحبت بأصابع رقيقة كالحلم ورقة بخمسة يورو. ورفعتها فى الهواء لعازف الأكورديون. ليسقط قلبى مباشرة فى غم شديد. فالملاك الذى بصحبتى ملاك كفيف. حزن سريع وخاطف حط على روحى المرتبكة. إذا هناك خطأ فى الحكاية كلّها. الفتاة أخطأت فى. ربما المصادفة وحدها هى التى قادتنى لمجالسة المرأة التى لم أحلم أبدا بالنظر إلى جمال كجمالها. وبدون أن أدرك مخرجا لورطتى الممتعة. وضعت يديها على يدى. فسرت الرعشة فى جسدى كله. لأدرك أننى أصبحت عاشقا. متمنيا الموت متصلا باليد الناعمة اللدنة الدافئة. ودون أن أملك القدرة على النطق، تحدثت فتاتى بينما قلبى المجنون لا يكف عن لهاثه. «حبيبى. تعلم كم أنّ الحياة كانت قاسية عليّ. كانت قاسية عليك أيضا جدا. لم نحرم نور عيوننا فقط، حرمنا أيضا الأمل فى أن تحبنا الدنيا. وعندما كنا نتلعثم فى أشواقنا خائفين من التصريح، كلّ منّا بحبه للآخر. تلاعب الآخرين بمشاعرنا. نقلوا لك عنى أنى لا أحب أحدا سوى نفسى. وأخبرونى كم أنت متردد وخائف حتى من الحياة نفسها. ربما ذلك صحيح قليلا. اليوم شعرت بك تبكى محتارا أمام المقهى. ربما الدنيا حرمتنى النور الذى كنت سأراك به. لكنها لم تحرمنى أبدا القدرة على إحساسى بك. لا تتعجب من قدرة قلبى المجنون. النساء لهن عادة قلوب كهذه عندما يقعن فى الغرام. لا يمكن أن تستمر فى ترددك هذا مدعيا بأنك لا تبادلنى الحب. كل ما حولك يخبرنى كم أنت مجنون بى. انظر إلى يديك الباردة كالثلج بين يدى، أليست هذه يد عاشق. جسدك يرتعش وكأن أفعى الحب تجرى فى شرايينك. انتظرت أياما طويلة جدا أصارع وهمى. غير مدركة كيف يستطيع جسدك النحيل كفارس منهزم ووحيد أن يعبر لى عن حبه. وها أنت تخبرنى بصمت لا كلمات خلقت فى روعة بلاغته، كم أنا جميلة ومحبوبة. سيتغير كل شيء من الآن وإلى الأبد. سيترك أيامى اللون الأسود بكآبته. سأخلق صباحيات منيرة ووردية كهذا الصباح الذى وهبته لى وحدى. لن تعاود الوساوس مهاجمتى ككلاب متوحشة. وسأعاود الغناء. أعاهدك أننى سأفعل. سأتفتح كوردة وسأسمح للعالم كله بالتمتع برحيقى». وعندما أحاول أن أتحدث شارحا لها وضعى المحرج. تضع أصبعها الرائع على شفتى فأقبله. فتتضرع لى أن أبقى فى صمتى، هامسة بأن قلبها لن يحتمل أبدا جرعة أكبر من السعادة. لتقم وتقترب من وجهى فيخدرنى تماما عطرها لتطبع قبلة على شفتى وترحل. فأخرج سكرانا من المقهى مواصلا بكائى لأننى لم أولد أبدا فى باريس.