رغم أنها جنود مجندة.. تأتلف وتختلف.. تغيب وتحضر.. كُتب عليها أن تظل من أمر ربها...إلى يوم يبعثون.. يوقن حسن كمال بهذا السر.. ولكن لكل سر علامات.. تأخذ من يقتفوها إلى عوالم شتى.. قد يكون لأحدها شحم ولحم.. وروح معلقة.. صاحبها اسمه عبدالحى وكنيته «المرحوم».. بطل يتصدر المنتصف.. يحدث الأموات جثثا ويتلمس منها قبسا من حياة لم يعتقد أنه لا زال على قيدها. صاحب «المرحوم» جاب بروايته العديد من حفلات التوقيع التى حظيت بكثير من الاحتفاء بها نقديا وجماهيريا، حتى كان خبر حصولها على أفضل الكتب مبيعا فى جناح دار «الشروق»، ناشر الرواية، فى معرض القاهرة الدولى للكتاب 2014. صومعة زرته فى ما يطلق عليها «صومعة الكتابة»، مكانه المختار، حيث يقرأ ويكتب ويستحضر شخصياته، «رأيت المرحوم هنا» هكذا يشير «أنا أرى شخصياتى بشحمها ولحمها، رغم أننى لا أقدم لها أوصافا شكلية فى الرواية خوفا من تشتيت القارئ، وأفضل التركيز على ملامحها النفسية أكثر» التعامل مع إشكالية «الروح» فى الأدب له آدابه، فى أبسطها محاولة استنباط فلسفة ما من خلالها، حتى لا يتم اعتبارها مجرد «هلاوس كتابية غرضها الإثارة».، كان هذا ما استهليت به حوارى مع حسن كمال الذى سيكون مُطعما بمقاطع من روايته «المرحوم. إهداء لدى أفكار مجردة وفلسفات مؤمن بها، والنص الأدبى هو القالب الذى أصيغ من خلاله هذه الفلسفة، فقد أعبر عنها من خلال أرواح أو قالب آخر.. وعلى التوازى لو ليست لدى فكرة لما استطعت أن أكتب.. فأنا لا أعرف أن أحكى حواديت والسلام» هكذا يرى. «إلى كل من فعل فمات.. فعاش إلى الأبد» «فلسفة هذه الرواية تنبع من الإهداء فى بداية الرواية، ويُتبع فى نهاية الرواية حيث يقول المرحوم ليس صحيحا أن من أنجب لم يمت، الحقيقة أن من فعل لم يمت، الفعل هو الكائن الحى الخالد الوحيد الذى يبقى، لأنه ينتج أفعالا عديدة صغيرة وكبيرة فى متوالية أبدية»، يقول كمال مستشهدا بعبارة على لسان بطله فى نهاية رحلته «أردت أن أقدم من خلال تجربة المرحوم ما أعتبره المفهوم الحقيقى للحياة،التى هى محاولة الفعل، فهو بالنسبة لى الفاصل بين الموت والحياة». عالق يُعرف المرحوم نفسه أنه «دائما فى المنتصف» فيحيلنا إلى أزمة مجتمع كامل من عالقى المنتصف بعد أحلام شتى بالتغيير على جناح الثورة، هكذا جاءت قراءة الكثيرين لاعتراف المرحوم هذا، ويجد صداه لدى المؤلف كذلك «المنتصف هو أزمة مجتمع، أزمة من حاولوا أن يفعلوا ويتحققوا واصطدموا بعوائق كثيرة فعاشوا أمواتا واستسلموا بعدها»، لافتا إلى أنه بدأ كتابة روايته تلك فى 2009 وانتهى منها فى بداية 2011، قبل أن يكون لثورة يناير علامات على نتائجها. هذا الربط بين اسقاطات الرواية على الحال السياسى المصرى لم يكن فى محله فى كثير من الأحيان على حد تعبيره: «البعض اعتبر أن المقطع الذى تغنى به المجذوب محروس اسقاطا على حكم الإخوان، عندما قال: الضبع لما حكم خلى الجميع..ضبّع، والنجعة ولدت خروف بطبعها..اطبّع» ويلفت أنه انتهى من كتابة هذه الرواية قبل أن يتولى أى فصيل سياسى الحكم فى هذه الفترة. يُعرّج المؤلف من جديد إلى أزمة المنتصف لدى البطل لأنه على حد تعبيره «حاول تحقيق ذاته من خلال أحلام الآخرين، والانتقام لأوجاعهم، ولكن لم يلتفت يوما لحلمه الخاص». مُختار على مدار الرواية كان المرحوم يقرن كل أفعاله بقناعة معلنة مفادها أنه رسول ملهم ومختار ولابد أن يتم رسالته «هذه أحد مظاهر اشكالية المرحوم، أنه توقف بحياته واختار أدوارا أقنع نفسه أنه مختار وملهم لتأديتها، وهو نوع من الإسقاط والمقاومة لشعوره بالفشل رغم أنه كان شابا واعدا، وتعثر، فخلق لنفسه عالما موازيا ملئ بالتبرير أو ما يُطلق عليه rationalization.. «يشرح حسن كمال عقدة بطله الذى اختار أن يسجن نفسه فى عالم يعج برائحة الفورمالين. رغم كل هذه القبعات المقدسة التى ظل المرحوم يتبادلها مع نفسه، إلا انه كان ضعيفا، كما يقرأ حسن كمال اعتراف بطله فى نهاية الرواية «أما عبدالحى حنفى الشهير بالمرحوم فى أى جسد.. فهو ضعيف أفسد فى النهاية كل شىء.. ليته كان قويا بما يكفى.. ليفعل». مشرحة الاستعداد لعالم الرواية كان يستلزم جهدا بحثيا من الكاتب... «ذهبت إلى المشرحة عدة مرات، وفى إحدى هذه المرات جلست بها وهى خالية من أى شخص، وقمت بتصويرها لأحتفظ بتفاصيلها واقترب منها، وأتخيل عن قرب كيف كان المرحوم يستعد مثلا لاستقبال روح سميحة فى جسده وهو نائم تحت المنضدة»، هكذا يروى لافتا إلى أن المشرحة كمكان كان الأبرز فى عالم الرواية أكثر من عالم المقابر الذى لم يهتم فيه بإبراز أوصاف المكان بقدر ما كان مهتما بتوضيح دلالات المكان وإسقاطاته فى تكوين شخصية عبدالحى... «ذهبت إلى 3 مقابر لأعاين المكان، وكانت أصعب تجربة المقابر التى ذهبت إليها ليلا فى منطقة الإمام، كانت تجربة ثقيلة على القلب..شعرت أن القاطنين هناك يعتقدون أن الأموات هم الذين يزاحمونهم!». مقبرة تحد آخر للكتابة هنا، هو تكرار تيمة «المقابر» فى عشرات الأعمال الروائية وهو ما يدركه صاحب الرواية... «التحدى بالنسبة لى هنا لم يكن فى المكان بقدر ما كان فى الشخصيات التى تقطن فى المقابر، وتعميقها كما حدث مع شخصية «صادق» زوج والدة المرحوم وأحد أبرز المؤثرين فى تطور شخصيته، الذى تحوّل على مدار الرواية من شخص سيئ السمعة إلى شيخ ملهم يتبعه حفظة القرآن ويقفوه كأحد العارفين بالله حتى بنى له مقام». شخصية صادق التى أشار إليها كمال حملت إسقاطا على إستغلال الدين الخاطئ، وأوجزه المؤلف فى طيّات عبارة شديدة التكثيف والرؤية «ثلاثية الصيد الشهيرة،الصنارة والطّعم والسمكة، يظل الدين هو الصنارة وأحد الطرفين هو الطعم، والآخر هو السمكة،يتصور الطعم أنه اصطاد السمكة، ووتصور السمكة أنها أكلت الدودة،والصنارة فى النهاية تطوى وتوضع فى الحقيبة إلى أن يحتاجها الصياد مرة أخرى»، هكذا يوجز الأمر فى ثلاثيته. تقمص التعامل مع منطق «تقمص الأرواح» وغيرها من المفاهيم التى استخدمها حسن كمال ليجلى عالم روايته ومنطقها، منطق قد يرفضه كثيرون من باب ترويجه للخرافة، وهو ما علّق عليه «تعاملت مع مسألة الأرواح بمنطق الناقد لها، فعلى المستوى الشخصى أنا أرفض فكرة انتقال الأرواح وغيرها لأنها تخضع عندى لكثير من التساؤلات، وتعاملت معها فى الرواية فى إطار شخصية عبدالحى الغرائبية الغارقة فى الخيال». هذا الوجه الذى يصفه بالغرائبية كان لابد له من معادل أطلق عليه «محمود سلمان» البطل والرواى الثانى للرواية وهو على حد تعبيره «الجانب شديد الواقعية فى الرواية، فهو شاب متوسط يمثل وجهة النظر الأخرى، ويحقق معادلة للمرحوم neutralization ، ففى الوقت الذى يتحدث فيه عبدالحى بخرافة، يتحدث هو بواقعى فى الوقت نفسه يتأمل حسن كمال بطله «المرحوم ليست غريبا فى كثير من الأحيان،فنحن نلتقى كثيرا فى الحياة بمن يروون حكايات غير قابلة للتصديق، كلقاء ما جمعهم بوزير فى الدولة بالصدفة البحتة،وها هو المرحوم يقول إنه رسول!، والمرحوم كان معتدا بقدراته العقلية، وكان متفوقا دراسيا، وعندما تعثر لم يصدق عقله الباطن، وقرر أن يجعل الواقع غير مصدقا، وخلق لنفسه واقعا موازيا من صنعه، وقاده ذلك لتصديق أشياء غير واقعية وهى التى يطلق عليها فى علم النفس Derealization». علامة صاغ المؤلف روايته، التى تقع في 362 صفحة، صاغها في فصول أطلق عليها "علامات" يعتبر أنها "علامات تشكل عالم المرحوم وتحمل لغزا خاصا بها" من بين هذه العلامات "الوحدة-العقدة-العقل-البشارة-العادة-الطريق". ثنائية جودة العمل الرواية وارتفاع المبيعات أو ظاهرة الBest seller لازالت تشغل الذهنية الأدبية ،باعتبارها ثنائية صعبة التحقق ،وبالنسبة لصاحب "المرحوم" فهو أمر لا يجد فيه تضاربا "كان نجيب محفوظ والعقاد من أصحاب الأعلى مبيعات في عصرهم،ولم يمس ذلك جودة أعمالهم" هكذا يقول " صعوبة الكتابة تكمن في ألا ننسى أن القراءة لا بد أن تظل متعة للقارئ وألا يؤثر ذلك على جودة العمل،وبالنسبة لى فإن إعمال عقل القارئ وإثارة فضوله هو المتعة الحقيقية". وحسب أن "المرحوم" احتفظت بصدراة المبيعات عدة أشهر وكان ذروتها أفضل مبيعات دار "الشروق" في معرض القاهرة للكتاب يتابع "لا تشغلنى مسألة المبيعات،تسعدنى بالتأكيد،لكنها تمثل أمرا مخيفا بالنسبة لى،لأنها لو شغلتنى سأخضعها لحسابات الكتابات اللاحقة ،وهو ما سيضر مشروعى بالتأكيد" . مشروع "المرحوم جزء من مشروعى الفكرى الذى يهدف لتأريخ الوطن بشكل رمزى.. فالمرحوم نمط راغب في التغيير رغم ان مقومات التغيير غابت ،لذلك أعتبرها خطوة على طريق المقاومة والتغيير"هكذا يقرأ روايته التى يرى كذلك أنها لا تنفصل عن مشروعه الأدبي الذي قدم على مداره 3 مجموعات قصصية منشورة حتى الآن " قدمت من خلالها أفكارى التى تنتمى لعوالم غرائبية ونهايات غير متوقعة" . يعتبر كمال أن تشبيه قصصه القصيرة بقصص الراحل يوسف إدريس هو " أكبر ما وُجه إليه من إطراء،فيوسف ادريس هو أحد عباقرة القصة القصيرة في التاريخ". ذهب به هذا الحديث إلى بدايات الكتابة التى التمسها قبل دخوله كلية الطب،وتوقفها مع انغماسه في دراسة الطب الثقيلة،وعودته من جديد في أعقاب حصوله على الماجيستير "أحسست أن شيئا ما ينقصنى، قررت أن أكتب في البداية لإبنى يحيى بعض تأملاتى وخواطرى وتساؤلاتى، مقتفيا ما فعله جدى الشاعر المغمور آنذاك الذى قرأت أعماله وتلمست فيها عبقرية لا حدود لها ،ثم تطور الأمر ونشرت أولى مجوعاتى "كشرى مصر" التى حصلت على جائزة ساويرس في الأدب ،وقبلها حصلت على عدة جوائز من ساقية الصاوى". فيلم رغم النجاح الذى حققه في روايته الأولى إلا انه حسب تعبيره لن يتوقف عن متابعة مشروعه في القصة القصيرة التى يعتبر أنها مظلومة وتحتاج الكثير من الرعاية سواء من الكتاب أو الناشرين. أما الجديد الذى لازال "المرحوم" يُلهم به صاحبه ،هو مشروع فيلم سينمائى جديد يقول عنه حسن كمال " هناك حديث مع أكثر من جهة إنتاج حول تحويل الرواية لفيلم ،ولكنه لازال يدرس هذه العروض " ،فشخصيات الرواية رغم غرائبية الأجواء شخصيات من لحم ودم ولكنها حسب الكاتب تستحق القراءة بأبعادها الإنسانية والمجتمعية الأرحب من جدران المشرحة الضيقة.