هناك بعيدا عن مصر كنت أمشى مع زوجتى وابنتى فى الشارع، ونستمتع بأبسط حق من حقوق الإنسان وهو الحق فى هواء نظيف. وفى مصر فإن هناك «معركة رأى عام» حول استخدام الفحم فى الصناعة وفى توليد الكهرباء. بين معارضين أهمهم وزيرة البيئة التى أعربت عن رأيها صراحة فى أن هذه الموافقة سوف تكون «على جثتى» (السياسية أظن) نتيجة الأضرار البيئية والأمراض المزمنة التى يسببها الفحم من وجهة نظرها. وبين موافقين أهمهم وزير الصناعة الذى يعلم أن مصر ليس لديها طاقة كافية وأن أرخص ما يتم شراؤه من الطاقة هو الفحم وأنه لو لم يتخذ هذا القرار فورا فإن مصانع الأسمنت سوف تتوقف الصيف القادم. وزير البترول يأمل أن تتم الموافقة على الفحم حتى لا يتم استيراد الغاز لأن فتح هذا الباب فى تصوره سوف يفتح أبواب المساءلة لوزارة وافقت على تصدير الغاز بسعر ثم تقوم باستيراده بعدها بعشر سنوات بضعف السعر. لا يهم أن هذا أوفر بكثير من استيراد المازوت أو أن كل قرار مرتبط بوقته وزمانه. وزير الكهرباء يقف موقف المتفرج قائلا: «سوف يكون هناك كهرباء الصيف القادم لو قامت وزارة البترول بتوفير كميات الغاز والمازوت اللازمة». وهو يعرف مسبقا أن الطاقة بدون معجزة إلهية أو قل معجزة خليجية لن تكون متوافرة الصيف القادم. محافظ البنك المركزى يعلم مدى الضغوط التى يسببها بند استيراد الطاقة على سعر الصرف. ضغط لا يشعر به الآن نتيجة توفير السعودية والإمارات والكويت لشحنات منتجات بترولية قيمتها مليار دولار شهريا. وذلك بالإضافة إلى مستحقات الشركاء الأجانب والبالغة حوالى 8 مليارات دولار سنويا ( بواقع حوالى 25 مليون دولار يوميا) أى إجمالى استيراد طاقة يبلغ 20 مليار دولار سنويا. ووسط كل ذلك يقف رئيس الوزراء حائرا لا يريد أن يتخذ القرار الفصل وهو ذاهب بعد شهور قليلة. ومن ناحية أخرى فإن الضغوط الشعبية على الحكومات العربية الثلاث سوف تزيد (كما أقرأ على تويتر) مما يجعل هذه المعونات غير قابلة للاستمرار طويلا، والمواطنون فى تلك الدول يرفضون دعم منتجات بترولية لمصر بأكثر مما يحصل عليه المواطنون فى تلك الدول. هذه هى الصورة كما أراها من بعيد. ما هو الحل؟ لا نريد زيادة الأعباء على الصناعة ولا نريد زيادة الحمل البيئى ولا نريد زيادة الضغط على البنك المركزى. ونريد حلولا تؤدى فى النهاية إلى الاستغناء عن المنح العربية (وليس الاستثمارات العربية). هل هذا ممكن؟ نعم ممكن. والحل أنه يجب النظر إلى الحمل البيئى الإجمالى بحيث يتم تخفيض الحمل عن طريق اتخاذ إجراءات معينة ويتم زيادته مضطرين بإجراءات أخرى. ولكن المحصلة أن البيئة سوف تتحسن بصورة كبيرة. وإليكم بعض الإجراءات: 1 تصدير أو عدم استيراد 10 ملايين طن مازوت عالى الكبريت يتم استخدامها حاليا واستبدالها بغاز مستورد. 2 توليد 25 % من احتياجات مصر من الكهرباء عام 2025 من الطاقة الشمسية والرياح وهى بدائل أقل تكلفة مما لدينا الآن لو حسبنا سعر الغاز والمازوت بالسعر العالمى. 3 استخدام المخلفات لتوليد 5% من احتياجات مصر من الكهرباء عام 2025. 4 تقليل نسبة الكبريت فى المواصفة القياسية للبنزين والديزل المصرى (والبالغة 1%) إلى 0.1 % خلال 10 سنوات. هذه المواصفة هى أحد أسباب عدم تمكننا من السير فى الشارع وقت الذروة. 5 رفع سعر الطاقة فى مصر إلى 75 % من السعر العالمى. مما يوفر حوالى 200 مليار جنيه من عجز الموازنة مع إعطاء دعم نقدى لغير القادرين. 6 استخدام الغاز لتوليد 45% من احتياجات مصر من الكهرباء عام 2025. 7 استخدام الغاز (بالأسعار العالمية) بنسبة 35 % من احتياجات الطاقة الحرارية لمصانع الأسمنت. 8 استخدام المخلفات فى الأفران بنسبة 15 % من احتياجات الطاقة الحرارية لمصانع الأسمنت. 9 استخدام الفحم لتوليد 25 % من احتياجات مصر من الكهرباء عام 2025. 10 استخدام الفحم فى الأفران بنسبة 50 % من احتياجات الطاقة الحرارية لمصانع الأسمنت. وبدون الدخول فى تفاصيل كثيرة فإن الحمل البيئى سوف يقل كثيرا وسعر الطاقة على مصانع الأسمنت لن يزيد بأكثر من 10٪ وهو مقبول جدا لأصحاب المصانع. وأهم من ذلك كله فإن فاتورة استيراد الطاقة سوف تقل جدا وهو أمر سوف يدعو لسرور السيد محافظ البنك المركزى. أقف الآن أمام بند رقم 5 من المقترحات والخاص برفع سعر الطاقة فى مصر وهو فى رأيى أهم بند لأنه هو مفتاح الترشيد. إن معدل استهلاك الطاقة فى مصر مرتفع جدا ويبلغ حوالى 400 كجم وقود لكل 1000 دولار دخل قومى وهو رقم مرتفع يشير إلى استخدام خاطئ للطاقة. يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا: 1 لا يوجد نقل جماعى بالقدر الكافى فى مصر؟ 2 لا يوجد نقل بضائع بالسكة الحديد والنقل النهرى بالقدر الكافى فى مصر؟ 3 كفاءة توليد الكهرباء منخفضة فى مصر؟ 4 لا يوجد عزل حرارى فى البيوت فى مصر؟ 5 لا تستخدم المخلفات بالقدر الكافى فى مصر؟ 6 لا تستخدم الطاقة الشمسية فى مصر؟ 7 لا نرشد الطاقة فى الصناعة فى مصر؟ 8 لا نطفئ الكهرباء عندما نغادر الغرفة فى مصر؟ 9 نستخدم المازوت فى توليد الكهرباء فى مصر؟ والإجابة عن كل تلك الأسئلة هى أن دعم الطاقة خلق كل هذه التشوهات وأننا لا نرشد استخدام الطاقة لأن حكوماتنا الرشيدة المتتالية سعرت الطاقة بطريقة خاطئة مما خلق تشوهات فى استخدام الطاقة. بدون سياسة مشتركة للطاقة والصناعة والبيئة سوف نواجه مشاكل كبيرة فى معدلات النمو والصحة. مصر فعلا تستطيع أن تكون «قد الدنيا» ولكن بسياسة رشيدة للطاقة تأخذ فى اعتبارها الحمل البيئى فى مصر هى جزء من الحل.