حتى وقت قريب كان السياسيون والمثقفون يحاربون «القبلية» لكونها سببا فى الكثير من النزاعات والصراعات بين القبائل خاصة فى أوقات الانتخابات البرلمانية، لكن مع مرور الوقت، أثبتت أنها كانت صمام أمان للصعيد ضد أى محاولات لاختراقه أو تجريفه أو زعزعة استقراره، وأجهضت الكثير من مخططات الإخوان لتقسيم الصعيد، والتى أثيرت خلال الأيام الماضية، ولم يكن خافيا أن تكون محافظة قنا من أقل المحافظات التى شهدت أحداث عنف أو تخريب عقب ثورتى 25 يناير و30 يونيو. «القبلية» فى جنوب مصر تعد أبرز سماته الاجتماعية التى تربط بين العائلات، وتجعل هناك تواصلا اجتماعيا بينهما، فالعيب وانتشار الأسلحة بين القبائل، خاصة بعد ثورة يناير، ساهم فى امكانية أن تتطور أى عملية عنف لتهدد باشتعال حرب أهلية لا يحمد عقباها، لذلك لعبت القبلية دورا محوريا فى وأد الفتن والاقتتال بعد الثورتين، فعلى مدى سنوات طويلة لم تنجح أى محاولات لتقسيم الصعيد أو زعزعته لقوة وتشابك العلاقات الإنسانية الاجتماعية القبلية فيها. وطبقا للدكتور سيد عوض، أستاذ علم الاجتماع بجامعة جنوب الوادى، فإن القبلية توفر الأمن داخل المجتمع، فإذا وجدت القبلية فى مجتمع ما، وجد معها الأمن والأمان، والعرف الاجتماعى بداخلها أقوى من القانون ولا يستطيع أحد مخالفتها، إلا فى حوادث الثأر المنتشرة فى صعيد مصر، وتعتبر محافظة قنا من المحافظات التى تسودها وتسيطر عليها القبلية، وبها قبائل «الأشراف والعرب والهوارة والأمارة»، وجميعهم لهم أعراف وتقاليد ملتزمون بها، وكبار القبائل هم من يتولون حل المشكلات والنزاعات فيما بينهم، لذلك يجب أن يختلف تعامل الشرطى فى محافظات الصعيد عن تعامله مع الناس فى محافظات الوجه البحرى. ويضيف عوض: «القبلية هى عبارة عن مجموعة من القيم تؤمن بها القبائل، وكل قبيلة لها شجرة عائلات وجذور من الجد الأكبر إلى الأصغر، وحينما يرتكب شخص خطأ لا يعود هذا الخطأ عليه فقط، وإنما يعود على قبيلته كلها، لكن هناك بعض الحالات الشاذة التى تظهر فى المجتمع ولا تلتزم بهذه الأعراف نتيجة ارتفاع نسبة الأمية والفقر وهذه نسبة بسيطة». أما جمال فريد، أمين الحزب الناصرى بأبوتشت، فقال: «النظام القبلى يمنع تهديد الأمن القومى للقبائل، وأى خروج عن المألوف يعتبر خروجا عن القبيلة كلها، ووجود رموز للقبائل والعائلات أحال دون حدوث أى أعمال تخريب أو عنف، فمعظم من كانوا ينتمون للإخوان لم يكونوا رموز قبائل وكانوا مهمشين، ونظام القائمة أتاح لهم النجاح فى الانتخابات البرلمانية السابقة فى ظل حالة الغضب الشديد من الحزب الوطنى المنحل ورموزه، لذلك حاولت جماعة الإخوان القضاء على القبلية والعصبية باختيارهم مرشحين لها ليس لهم ثقل قبلى». وأوضح محمد حسن العجل، منسق رابطة قبائل قنا وأمين عام اتحاد القوى المدنية، أن القبلية سمة اجتماعية لها إيجابيتها من حيث إنها اندماج مجتمعى، فكل قبيلة لها كيان ورموز وكبار، وإذا لم نعترف بأصول العائلات والقبلية فنحن بذلك لا نستوعب فكرة الحضارة الإنسانية القائمة على فكرة التواصل والترابط بين أبناء القبيلة الواحدة، ورغم ما يطفو على السطح من خلافات وصراعات بين أبناء القبائل، إلا أن التواصل والاحترام المتبادل أكبر بكثير فى جنوب مصر من السلبيات التى دائما ما تظهر فى أوقات الانتخابات البرلمانية. وتابع: «حالة التماسك المجتمعى تظهر دائما فى وقت الأزمات والمحن، ففى حالة الفراغ الآمنى التى أعقبت ثورة 25 يناير، كانت قنا من أقل المحافظات فى النزاعات والخلافات والعنف، وعقب ثورة 30 يونيو كان هناك خليط مجتمعى من قبائل الأشراف والعرب والهوارة، الممثلين عن القبائل والأحزاب السياسية، ورغم وجود إخوان وسلفيين وجماعات إسلامية ينتمون لهذه القبائل أيضا، إلا أن الاتفاقات بين الجميع أسفرت عن عدم حدوث أى أعمال عنف أو تخريب أو حتى احتكاكات تؤدى إلى دم. وحول سلبيات القبلية أضاف العجل: «تؤدى أحيانا إلى صراع قبلى يولد نوعا من النفاق للسلطة الحاكمة مما يجعل الصعيد أبعد عن جنى أى مكاسب اقتصادية، والتركيز فى مشروعات التنمية على محافظات الوجه البحرى، فالصراع القبلى جعل السلطة تضحك على أبناء الجنوب تحت مدعاة التنافس والصراعات القبلية، وإبعاد الصعيد عن التنمية، فبعد ثورة 30 يونيو استوعب الشباب ذلك وهناك فكر جديد لتغلب على هذه الظواهر السلبية فى المجتمع، لذلك على محافظ قنا الجديد أن يدرك ويتبع سياسة مختلفة فى محافظته بأن يتواصل مع أبناء القبائل فى دفع عملية التنمية، وأن يدعو أبناء القبائل ليستمع إلى أفكارهم لأحداث تنمية حقيقية، وهو ما لم يحدث حتى الآن». ويؤكد العجل أن جماعة الإخوان سعت خلال العام الماضى من حكمها لإحداث شرخ فى التركيبات الاجتماعية القبلية للقضاء على القبلية، لمعرفتهم بقوتها وتأثيرها، ونجحوا فى استقطاب البعض وتقديم وعود لبعض قيادات القبائل والشباب، ومعظمها كانت وعود وهمية لعمل شرخ فى القبيلة، حتى وصل الأمر إلى أن القائمين على التيارات الإسلامية استخدموا الأساليب القديمة لإمداد البعض بالأسلحة والذخائر، وأيضا استخدام كل الأساليب لعمل شرخ داخل كل قبيلة والتقرب لبعض البلطجية ومستخدمى الأسلحة لهم، مشيرا إلى أن الإخوان لم يقدموا شيئا ملموسا لأبناء الصعيد ولم يتواصلوا معهم على المستوى الاجتماعى، لدرجة أن معظم من دخلوا البرلمان من التيارات الإسلامية دخلوا وخرجوا ولم يعرفهم أبناء دوائرهم، أى أنهم فعلوا ما فعله بعض عناصر الحزب الوطنى فى تقديم الخدمات لأفراد بعينهم. وأشار محمد الجبلاوى، المتحدث الإعلامى لائتلاف قبائل قنا، بأنه خلال الثورتين حاولت كل قبيلة الحفاظ على الأمن بمنطقتها، ولذلك لم تكن هناك أى أعمال إجرامية أو تخريبية خلال الثورتين، فالصعيد لديه رموز وكبار عائلات، وتواصل هذه الرموز مع بعضها والاتفاق فيما بينهم على الحفاظ على الأمن وعدم تعدى أى طرف على الآخر هو ما حفظ الصعيد من مخططات الإخوان الذين حاولوا خلال السنوات الماضية القضاء على رموز القبائل والقبلية بمحاولة تهميش الرموز القديمة والدفع برموز جديدة ذات انتماء إخوانى.