فى الوقت الذى تعثَّر فيه أسطول الحرية إلى غزة على شواطئ اليونان، وطالت فيه إسرائيل مجددا يد العون المقدمة إلى فلسطين، كانت هناك رواية فلسطينية جديدة تشهد ميلادها على أرض مصر. وكما كان الحال دائما، يستمر الجرح الفلسطينى فى النزيف وتستحيل المقاومة إبداعا وأدبا. هى «جنة ونار» الكاتب الفلسطينى يحيى يخلف التى وقّعها منذ أيام بمكتبة دار الشروق بالزمالك، وبدا صاحب «تلك الليلة الطويلة» محتفيا ليس فقط بتوقيع ثانى كتبه بالقاهرة، بعد رواية «ماء السماء»، معتبره ضمانا لوصول كتابه للقارئ العربى على عكس غيرها من العواصم العربية، ولكنه بدا محتفيا بخروج كتابه إلى النور مع الثورة المصرية. حيث عبر عن سعادته فى هذا المحفل الثقافى قائلا: «صحيح أننى سلمت العمل الأدبى قبل الثورة، لكنى سعيد بصدور روايتى بعد نجاح الثورة». تلك الثورة التى كانت على حد تعبيره مثل شرارة أشعلت الغضب العربى، حيث وصلت رياح التغيير بعد الثورة المصرية إلى عمق الوطن العربى، وهزت عروش الدكتاتوريات العربية. يتغنى صاحب «نشيد الحياة» بالثورة بلغته الشعرية العذبة بعد أن ترحم على شهداء ثورة يناير: «لم يعد هناك عربى مقهور، ولكن هناك عربى يثور على واقعه الفاسد». وفضلا عن حضور لفيف من الشخصيات الفلسطينية، بداية من أسرة الكاتب الصغيرة وصحبه السفير محمد صبيح الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية للشئون الفلسطينية، ونبيل عمرو الكاتب والمحلل السياسى والروائى خالد زيادة، فضلاً عن حضور وزير الثقافة عماد أبوغازى فقد كان لحضور مجموعة أصدقائه من الكتاب المصريين وقعه الخاص مثل بهاء طاهر وإبراهيم عبدالمجيد وفتحية العسال، كما لو كانوا قد جاءوا اليوم يحتفون بالثورة التى راهنوا عليها قديما. هناك على مقهى ريش فى سنوات حكم السادات العسيرة، حين كان وصول كاتب من فلسطين حدثا فى الوسط الثقافى، وحين كانت الكتب العربية تأتى إلى مصر سرا بعد قطع العلاقات على خلفية معاهدة كامب ديفيد للسلام، كما روى إبراهيم عبدالمجيد، الذى اعتبر صدور رواية جديدة ليحيى يخلف حدثا مهما على المستوى الشخصى بالنسبة له. حيث يتذكر أيضا صاحب «البلدة الأخرى» أولى روايات يحيى يخلف التى لم تغب عنها روح الثورة وحلم التغيير، فكانت «وجدان تحت الصفر» أول رواية عربية تتناول بالنقد الأوضاع بالجزيرة العربية وتكشف عن المسكوت عنه فى دول الخليج وبخاصة فى اليمن، ولذلك منعت فى وقتها وصارت اليوم تتصدر صفحات الفيس بوك لدى الشباب اليمنى. أما «جنة ونار» التى تدور فى زمن الثورة الفلسطينية، فهى الرواية الثالثة فى مشروع روائى كبير أو رباعية بدأها يخلف منذ سنوات وسماها رباعية البحيرة، الرواية الأولى هى «بحيرة وراء الريح» فى 1990، والثانية هى «ماء السماء»، ثم «جنة ونار»، وتتممها الرواية الرابعة تحت الطبع «نهر يستحم فى البحيرة». تتنوع الروايات الأربع لتسرد فى النهاية تاريخ الشعب الفلسطينى عبر شخصيات من لحم ودم، لكنها رغم ذلك تسمح باستقلالية كل عمل أدبى وقراءته منفصلا عن المجموعة الكاملة. فبعد الانكسار والطرد والتهجير والنفى فى «بحيرة وراء الريح»، يتناول يحيى يخلف فى «ماء السماء» جيل النكبة الذى تمثله طفلة ولدت زمن النكبة وجدها أبوحامد فى الخلاء ومعها قطعة قماش مطرزة وغطاء رأس أمها وقد تعلق بالأشواك وكذلك دمية تحمل فى النص الروائى رائحة الأم، عاد بها لزوجته ومنحاها اسم ماء السماء. أما فى جنة ونار، فهى رحلة البحث عن الهوية التى تبدأها سماء، من خلال التفاصيل الشعرية البسيطة، المتعلقات الشخصية التى ترمز للثقافة والحضارة الفلسطينية والتى حفظت لها فى صندوق صغير مع الأشياء الثمينة الأخرى مثل مفتاح الدارالفلسطينية، تنقب الشابة المناضلة عن أصولها وهويتها. تقتفى أثر محددات الهوية فى القرى والمدن الفلسطينية التى طمستها يد المستعمر الغاشمة وشوهت أسماءها ومدخل هويتها. يعيد يحيى يخلف من خلال السرد الروائى الذى يختلط فيه الذاتى بالقضية الانسانية العامة ذاكرة المكان، يسترجع بلدته الصغيرة سمخ التى ولد فيها عام 1944، و رحل عنها مع أهله عام 1948، والتى تحولت على الخريطة الاسرائيلية إلى (تسيمح)، بينما صارت محبوبته طبريا (كينيرت)، «فالإسرائيليون بعد احتلالهم لمعظم أراضى فلسطين، غيّروا أسماء الأماكن الفلسطينية إلى أسماء عبرية فى محاولة منهم لوضع إطار يضفى على الاحتلال شرعية. ولقد أعطوا أسماء توراتية لكثير من المدن والقرى والمواقع لمحو كل ما يمت لهوية فلسطين العربية، والتصدى لمثل هذا هو من صميم مهمة الفنان والأديب الفلسطينى، فحربنا مع المحتل حرب علامات ثقافية أيضا» كما صرح يخلف فى حديث سابق ل«الشروق». ففى مقابل تدنيس المحتل لصورة فلسطين، يحاول الكاتب الفلسطينى أن يروى علاقته العضوية بأمه، بأرضه، أو كما يكرر صاحب جنة ونار كلمة ادوار سعيد أن تاريخ الشعوب هو عملية سرد لا متناهية يحكى فيها كل فلسطينى حكايته، حيث صندوق الحكايا الفلسطينية موجود، لكن تختلف صور التعبير عنه. وفى رده على سؤال تطور الرواية الفلسطينية فى ظل الالتزام بمنحى القضية الفلسطينية، أكد يخلف أن الأدب الفلسطينى كان جزءا لا يتجزأ من الأدب العربى، كان هناك أدب المقاومة أو أدب الصمود، ثم تطور الكاتب الفلسطينى من موقعه التقدمى ليكتب عن قضية الانسان، فيؤكد يخلف قائلا: « ليس لدينا أدب مرحلى، ونعتبر أن الأدب الفلسطينى ينحاز إلى التناقض الأساسى مع اسرائيل، ففى جنة ونار غمست قلمى بمداد المشهد الحضارى الفلسطينى». فرحلة البحث عن الهوية فى رواية «جنة ونار» تغوص فى الجرح الفلسطينى الغائر، لكنها تتلمس قضية الهوية ببعدها الانسانى والوجودى أيضا، وهى المعادلة التى يحققها الأدب الجاد دائما. ومن ناحيته، أكد بهاء طاهر على الطابع الإنسانى العالمى للأدب الفلسطينى، مشيرا إلى كتابات غسان كنفانى وإميل حبيبى وإبراهيم نصر الله التى اكتوت بنار القضية الفلسطينية ولم يمنعها ذلك أن تكون أدبا ذا بُعد عالمى إنسانى، وتذكر طاهر من كان قديما يتهكم على رواية نجيب محفوظ بالحارة المصرية متهما إياها بالإغراق فى المحلية، بينما كانت صدق التجربة الإبداعية هى السبيل للمغزى الإنسانى والعالمى للأدب.