الذي يتأمل المشهد المصري في الحادي عشر من فبراير يوم أن أجبر المصريون الطاغية مبارك على النزول عن عرشه، يدرك أن الثورة المصرية كانت قد أحكمت قبضتها على الشوارع والميادين في مختلف ربوع الوطن، وأنها باتت قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على أدوات السلطة، وأن الجماهير التي زحفت على القصر الجمهوري في القاهرة وحاصرت قصر رأس التين في الإسكندرية أوشكت على تحقيق النصر النهائي. في هذه اللحظة لم يكن أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلا أن ينحاز إلى جموع المصريين بعد أن فشل الطاغية في استثمار الفرصة التي منحها له المجلس عله يستطيع أن يفلت من مصيره المحتوم بعد أن خذله رجاله وبغاله وجماله في أحط أشكال المواجهة مع الشعب الثائر، فكان البيان الذي انتصر فيه الجيش للشعب، وأعلن اعترافه بثورته وتبنيه لمطالبها المشروعة. ولا يخفى على أحد من المتابعين أن سياسة "مسك العصا من المنتصف" وهي إرث إخواني قديم. قد تجلت بوضوح في موقف الجماعة من الدعوة إلى الاشتراك في مظاهرات 25 يناير، والتي تدرجت من الرفض الكامل على لسان أبرز قيادتها (د. عصام العريان)، إلى السماح بشكل فردي لمن يرغب من أعضائها! (شباب الإخوان)، ثم اللحاق الكامل بركب الثورة في اليوم الرابع بعد أن أخذت كل معالم الصورة في الوضوح، وبعدها بدأت محاولات إضفاء صبغة دينية (إخوانية) في الجمعة التي أم فيها الشيخ القرضاوي المصلين في ميدان التحرير "جمعة النصر" ناهيك عن إحكام السيطرة على المنصة وانتقاء المتحدثين. لكن الإخوان المسلمين الذين هم أكثر القوي تنظيما في المشهد العام تصرفوا بالسرعة والحزم اللازمين عشية سقوط الطاغية، واعتلاء المجلس العسكري سدة الحكم "بشرعية الأمر الواقع والقبول العام" ساروا على هدي الآباء المؤسسين في التقرب إلى من بيده السلطة أملا في احتوائه ومن ثم اعتلائه، فقدموا أنفسهم إلى المجلس العسكري بتبنيهم مطلبه الداعي إلى فض الاعتصام الرئيسي بعد التنحي (سقوط النظام) ثم الدعوة إلى تأجيل الاعتصامات الاقتصادية "المطالب الفئوية" حتى تستقر الأوضاع (لاحظ هنا توظيف لقطة فيديو قديمة للشيخ الشعراوي يتحدث فيها عن الثائر الحق)، وقد كان المجلس العسكري كريما في التعاطي مع هذه الإشارة ورد على التحية بأحسن منها على النحو الذي ظهر في اختياره للجنة تعديل الدستور برئاسة المفكر الإسلامي المستشار طارق البشري - وموقفه من الإخوان ودعوتهم معروف - فضلا عن اختيار عضو مكتب إرشاد الجماعة (الأستاذ صبحي صالح المحامي) عضوا في اللجنة مع تجاهل تمثيل أي من القوي السياسية الأخرى التي تحملت تاريخيا مسئولية الدعوة إلى مظاهرات 25 يناير والاشتراك فيها من اليوم الأول. ثم جاءت الدعوة إلى جمعة الغضب الثانية (27 مايو) لتحسم ظنون وهواجس البعض عن وجود تفاهمات - يراها آخرون صفقة- بين جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي من جهة وبين المجلس العسكري من جهة أخرى، فبعد علامة الاستفهام المتعلقة باختيارات لجنة تعديل الدستور، ثم الدعم الذي قدمه المجلس العسكري لرموز التيار السلفي عندما أفسح لهم المجال للقيام بدور الوسيط في احتواء المشاكل الطائفية! (كان مشهدا لافتا قيام الشيخ محمد حسان وممثل المجلس العسكري وهم يرفعون أيديهم المتشابكة في قرية أطفيح) ودون محاسبة من قاموا بهدم الكنيسة، وتكرار نفس السيناريو في إمبابة وعين شمس، جاء إصرار المجلس العسكري على إجراء الانتخابات البرلمانية قبل وضع دستور جديد للبلاد ضاربا عرض الحائط بكل الأصوات التي تنادي بالدستور أولا على كثرتها وتنوعها بل وتخصصها الذي لا يماري فيه أحد (هناك حالة إجماع من كل أساتذة وفقهاء القانون الدستوري وكذلك كبار الكتاب والمفكرين في مصر بالإضافة إلى وزراء في حكومة عصام شرف على ضرورة أن تبدأ المرحلة الانتقالية بوضع دستور جديد يضفي شرعية دستورية على كل الخطوات التي تأتي لاحقا كانتخابات الرئاسة والبرلمان والمجالس المحلية.. الخ). لكن الطريقة التي أعلن بها المجلس العسكري عن موقفه من الدعوة إلى "جمعة الغضب الثانية" التي هاجمها الإخوان بضراوة ونعتوا الداعين لها بأحط النعوت بل وأطلق عليها موقعهم الرسمي "جمعة الوقيعة"، والبيان 58 الصادر عن المجلس والذي أعلن فيه بغرابة شديدة انسحابه من أماكن التظاهرات تاركا المتظاهرين العزل يواجهون مصيرهم مع البلطجية أو أن يؤثروا السلامة ويلتزمون بيوتهم فتفشل الدعوة، كشفت إلى أي حد بلغ الاستقطاب مداه، المجلس العسكري والتيار الديني بجناحيه "الإخوان والسلفيين" في جانب وباقي قوى المجتمع في الجانب المقابل، وبينما احتشد الآلاف في ميدان التحرير يهتفون بملء الحناجر "الجيش والشعب ايد واحدة"، كان لسان حال الإخوان يردد وعلى وجوههم تلك الابتسامة الماكرة "المجلس العسكري والإخوان ايد واحدة". إن الوطن يتسع للجميع وعلى المجلس العسكري أن يعيد تقييم موقفه من مختلف القوى والاتجاهات وان يقف على مسافة واحدة من الجميع هذا إذا أراد أن يحافظ على الدور التاريخي للجيش المصري العظيم حتى يسلم الحكم إلى سلطة مدنية ينتخبها الشعب ويعود بعدها إلى ثكناته مصحوبا بحب وإجماع المصريين. أما الإخوان فنحن لا نرى فيما يتخذونه من مواقف إلا إعادة إنتاج لأخطائهم السابقة وبيننا وبينهم التاريخ.