"الشعب يريد إسقاط النظام"؛ ما أبلغها من جملةٍ تحمل العديد من الدلالات والمعاني المتعددة، إنها عبارة شديدة الكثافة كما أنها شديدة البلاغة، توحد خلفها مجموع القوى الوطنية المصرية طيلة ثمانية عشر يومًا في إصرارٍ وعنادٍ يفوق إصرار وعناد المتمسك بعرشه وحاشيته التي أوردته مواطن التهلكة. كان الشعب يهتف في ميدان التحرير: "الشعب يريد إسقاط النظام"، دون أن يكون لدى هذا الشعب تصور واضح عن "النظام البديل". ما أبسطها تلك الكلمات الثلاث التي خرجت الجماهير من أجلها وتوحدت (عِيش حرية عدالة اجتماعية)، لكنها لم تكن تحمل أي ملامح أو توجهات لأي "نظام بديل"، إنها فقط مطالب مشروعة تطالب بها الجماهير النظام الفاسد الذي لم ينظر لمصالح هذه الجماهير، كما كان ينظر إلي مصالح العصابة الحاكمة. طيلة الأيام التالية لسقوط النظام منذ منتصف فبراير 2011 إلي نهاية مارس 2011م كانت هناك مفاوضات شعبية بين جميع المصريين في كل الشوارع والميادين التي تحررت من الاستبداد والطغيان.. تعددت مظاهر هذه المفاوضات الشعبية وصورها وأشكالها وطرق التعبير عنها، ربما كان الإستفتاء حول تعديل بعض مواد الدستور؛ والذي انتهى باعلان دستوري لا علاقة له بما تم الاستفتاء حوله؛ أحد أبرز أشكال هذه المفاوضات الشعبية، والذي كشف للجميع أولًا عن مواقعهم في مائدة المفاوضات المفتوحة، كما كشف ثانيًا عن مساحة نفوذ وقدرة وتأثير كل فريق من الفرق المتفاوضة علي الرأي العام المصري. كنتُ أذكر لكل من يسألني عن رأيّ في المشهد المصري وقتئذٍ، أن ثمة تيارين كبيرين يعملان جنبًا إلي جنب علي تشكيل المشهد، وهما: تيار اليوتوبيا وأنصاره الأفراد المثاليون أصحاب الرؤى والأحلام والمبادئ، وتيار الفوضى وأنصاره الذاتيون والفئويات وأصحاب النظرات الضيقة القاصرة عن إدراك الخطوة التالية لأنها لا تبصر اكثر من خطوة واحدة فقط هي موطن قدمها، لذلك فهو تيار يخلق فوضى بحركته غير المحسوبة والتي لا يمكن التنبأ بتجاهها. إن هذين التيارين كان يتفاوضان جنبًا إلي جنب في المشهد المصري، وقد تنبهت الحكومة الحالية، لمَّ لدى بعض رجالاتها من بصيرة، فعمدت إلي إجراء حوار وطني في اليام الأخيرة من شهر مارس 2011م، لكنها لم تكن علي ذات البصيرة ذاتها في اختبارها لمن يقومون بعملية التقاوض؛ لقد أساءت اختيار أطراف التفاوض، وبالتالي لم يكن لهذا "الحوار الوطني" أي نتائج ملموسة علي المشهد المصري، وعادت الجماهير مرة أخرى إلي الميدان، لتعلن لنفسها وللأخرين أن الثورة مازالت مستمرة. ليس ما سبق سوى مقدمة طويلة نسبيًا لتوضيح المشهد العام السياق الذي جاءت به "رسالة مفتوحة إلى كلّ المصريّين" والتي اُرسلت إلي عددٍ من المصريين، علي أنها رسالة البهائيين المصريين لأخوانهم في الوطن، والتي يمكن اعتبارها جزءا من المفاوضات الشعبية المصرية، أو "الحوار الوطني". لم تأت رسالة البهائيين متأخرة، وإن كان يمكن اعتبارها ردًا علي استبعادهم من الحوار الوطني الرسمي الذي ترعاه الحكومة، لتنضم هذه الرسالة إلي المفاوضات الشعبية بين قوى الشعب، لقد صدرت بتاريخ "أبريل 2011"، لتموضع نفسها في سياق مشهد المفاوضات الشعبية، ولم تتضمن أي مطلب فئوي أو ذاتي، بل جاءت "رسالة البهائيين المصريين" حاملةً بضع نقاط؛ سوف أوجزها؛ يتفق عليها الكثير من المصريين لأنها تعبر عن تطلعات بعضهم، ولولا إشارة لغوية في مقدمتها وخاتمتها، لمَّ استطاع المرء أن يتعرف علي هوية صاحبها، لكن محرر الرسالة وضع محتواها بمهارة بين قوسين لغويين يصنعان ويؤكدان هوية المرسل بأنه هو: "نحن المواطنين البهائيين"في بداية الرسالة، و"إخوتكم وأخواتكم البهائيون في مصر" في نهايتها، وضعًا نص رسالته بين هذين القوسين اللغويين تأكيدًا علي هوية من صدرت هذه الرسالة عنه. ربما يحق للقارئ الذي لم يُطالع "رسالة البهائيين المصريين" أن نوجز له النقاط الرئيسية التي تضمنتها الرسالة؛ وهي تبدأ بتصور أن باستطاعة المرسل أن يُقدم إسهاماً في المقاوضات الشعبية "الحوار الدائر الآن فيما يخصّ مستقبل بلادنا"، ويرى أن باستطاعته أن يشارك مجموع المصريين بشيءٍ من وجهات النظر من منطلق خبرته/خبرتهم كمواطنين مصريين. وقبل أن يؤكد علي وحدة الشعب المصري رغم تعدديته الثقافية، والذي ظهرت وحدته بجلاء في مشهد ميدان التحرير قبل التنحي، فإنه يقدم تخوفًا من أن تكون الثقافة الاستهلاكية أو النمط الاستهلاكي عائقًا كبيرًا أمام تقدم حركة الشعب المصري المتحررة بعد الثورة. ويؤكد المرسل علي أن التقدم نحو النضج ظاهرة عمت العالم بأسره، وبهذا فهي ليست خصوصية للشعب المصري، إلا أنه يؤكد علي أهمية المشيئة الجماعية في تحقية الأهداف، مقتربًا بحرص من السؤال الهام الذي ينبغي أن يطرح في مثل هذه الحظات المفصلية من تاريخ الأمم والشعوب، وهو السؤال عن الهدف، واستراتيجية تحقيق هذا الهدف. وقد عمل النظام السابق علي نزع الهدف والحافز من حياة المصريين، فصارت السلبية سمة عامة لدى فصيل كبير من المصريين، وأثر ذلك إلي حدٍ كبير علي إنتاجية هذا الشعب الذي شيَّد أعظم حضارة في التاريخ. إن السؤال المرسل عن الهدف المشترك لنا كمصريين في هذه المرحلة التاريخية المفصلية، يفتح أفق البحث عن مجموعة من المبادئ العامة والمشتركة بين مجموع المصريين تكون بمثابة نقاط مشتركة "ثوابت" أو نقاط اتفاق في ورقة عمل مقترحة كنتيجة للوفاق الوطني الناتج عن المفاوضات الشعبية. فأكد المرسل علي مجموعة من المبادئ؛ هي: • وحدة الجنس البشري (الإنسان)؛ بهدف: إحياء الضمير الإنساني وتغييره في كل مواقفنا مع الآخرين وقيمنا وعلاقتنا معهم. • المساواة بين الرجل والمرأة. • التعليم؛ باعتباره تربيةً وغرسًا للقيم والمبادئ، والإصرار علي جعل التعليم في متناول الجميع، واعتبار "التعليم أداة فاعلة لحماية أجيال المستقبل من آفة الفساد الخبيثة والتي ابتلينا بها وأصبحت واضحة المعالم في مصرنا اليوم". • مبدأ العدل بين الجميع. وترى الرسالة في رؤيتها أن تفاعل مبدأ العدل مع مبدأ وحدة الجنس البشري يجعل "كل فردٍ يأتي إلى هذا العالم إنما هو أمانةٌ على الجميع، وأن الموارد الجماعية المشتركة للجنس البشري يجب أن تتوسع وتمتد ليستفيد منها الكل وليس مجرد فئة محدودة". إن "رسالة البهائيين المصريين" واضحة وبسيطة في لغتها، وهي بقدر ما تضمر من الخير تضمر مطالبة بحقوقهم في التفاوض بشأن الوطن الذي ليس حكراً علي فئة أو جماعة دون غيرها. لقد عانينا جميعاً من سياسات الإستبداد التي اعتمددت علي التهميش والتجاهل، والإقصاء المتعمد كثيرًا، بقدر ما عانينا من الظلم وعدم المساواة، لدرجة تجعل دخول مصري إلي أرضٍ مصرية مطلبًا عزيزًا. لذلك؛ فحري بالجميع أن يشارك الجميع الحوار والأسئلة بشأن هذا الوطن، وأن يستمع بعضنا إلي بعض، ليس فقط بآذانٍ منصتة، ولكن بقلوب مفتوحة بالحب، فقبل كل شيء نحن جميعًا أبناء وطن واحد. إن علي المفاوضات الشعبية المصرية أن تستوعب الجميع بقدر ما استوعبت ثورة الخامس والعشرين من يناير الجميع، ويجب أن تعمل هذه المفاوضات علي أن توقف الشعور المتزايد بأن مستقبل بلادنا قد أصبح ورطة؛ كما يريد البعض أن يصور لنا؛ وأن تعمل قوى المفاوضات الشعبية المصرية علي التنازل عن مطالبها الفئوية، بأن تتجول إلي جزء من برنامج/خطة طموحة لتنظيم المجتمع والبيت المصري الذي سُرق منه أثاثه، وموقد الغاز، ودفء محبة الأهل للأهل. إن المفاوضات الشعبية المصرية بحاجة إلي تداول الإجابة علي السؤال الصحيح، بدلاً من تداول الإجابة علي السؤال الخاطئ. السؤال الخاطئ الذي تتداول إجابته الآن: من فعل بنا هذا؟ السؤال الصحيح الذي ينبغي تداول إجابته هو: كيف أصبحنا هكذا؟ إنني مع محاسبة المخطئ والمتسبب في فساد حياتنا، بل إني مع تشديد العقوبة وتغليظها بكل القسوة عليه، اولًا لأنه لص فاسد، وثانيًا لأنه خان أمانته. لكني في ذات الوقت أريد البحث في أنفسنا عن الأسباب التي جعلتنا في هذا الوضع، من أجل تصحيح المسار، ووضع البلاد علي طريقها الذي بدأت التاريخ منه كدولة عظمى رائدة صانعةً للحضارة، دولة بناء لا هدم. لقد غنينا وهتفنا في ميدان التحرير ثمانية عشرة يوماً لكي نخلع طاغيةً مستبدٍ خائنٍ لأمانته عن عرشه، فماذا يستحق منا المستقبل؟! إذا أردنا لمستقبل بلادنا أن يكون عظيمًا كما يحلم كل واحد منا فعلينا جميعًا أن نتكاتف ونغني له لحنه الخاص به، وهو لحن متعدد الخطوط اللحنية يحتاج إلي ذكاء خاص لكي لا يصير نشاذاتٍ صوتية مزعجة. إن المستقبل السعيد يستحق لحنًا عظيمًا، نغنيه جميعًا طيلة العام وليس ثمانية عشر يوما.